المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : بحث مختصر في عمل أهل المدينة



جلال علي الجهاني
07-10-2003, 21:34
هذا بحث كتبته على عجالة، وباختصار، في بيان بعض الجوانب في عمل أهل المدينة، على أنه قد كتبت بحوث قيمة في هذا الباب، وقد طبعت منها دار البحوث ما يستحق القراءة والتلخيص، ويجعل أصحابنا المالكيين على بصيرة ودراية جيدة بالموضوع..



عَمَـلُ أهْـلِ الـمَـدِينـَـة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد..

فهذا بحث مختصر، في توضيح مذهب المالكية في حجية عمل أهل المدينة.
وبيان أثر احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة على الخلاف في فروع الفقه.
وقد جريت في هذا البحث على أن أنقل رأي المالكية من كتبهم خاصة، وليس من رأي غيرهم، حتى يكون البحث أقرب إلى الدقة.
وقد جعلتُ هذا البحث في تمهيد، وبابين:
التمهيد: في بيان منـزلة المدينة في التشريع الإسلامي
الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة

الباب الثاني: في أثر الخلاف الفقهي لهذا الأصل

الخاتمة: في نتائج البحث

فإن أكن قد أصبت في هذا البحث فذلك توفيق الله، وإن يكن غير ذلك فذلك مني وأستغفر الله تعالى.

التمهيد: في بيان منـزلة المدينة
في التشريع الإسلامي

للمدينة المنورة اعتبار خاص، لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى، فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علماً وعملاً، ومنـزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
وقد ورد في شأنها العديد من الأحاديث التي تدل على فضلها وفضل ساكنيها.
ولقد نالت المدينة المنورة حباً كبيراً من النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وكانت لها المكانة العالية الجلية في قلبه، هذا مما جعل المسلمون يكنون لها كل الحب محبة لله ورسوله وإتباعا للسنة المطهرة ، لأن الله تعالى قد فرض علينا أن نحب ما كان يحبه الرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ .
ذكر في تاريخ البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم :( من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات ) وفي هذا القول الكريم مدلول على ما دلنا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن التسمية التي لحقت بها ( أي يثرب ) إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها و هي تعني الفساد.

حرمة المدينة المنورة:
قال صلى الله عليه وسلم :( إن ابراهيم حرّم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ) .
وروى مسلم :( حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ).
قال أبو هريرة :( لو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( اللهم إن إبراهيم حرّم مكة فجعلها حراما ما بين مأزميها أن لا يراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يحبط فيها شجرة إلا لعلف ).

مجاورة المدينة المنورة و الإقامة فيها:
قال صلى الله عليه وسلم :( لا يصبر أحد على لأوائها وجهدها ، إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة )، هذا يدل على المكانة العظيمة التي اختصت بها المدينة المنورة عن سائر البلدان والمدن، وإلا لما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه قد خصها بهذه المكانة في أن الصابر على التعايش بين ظروفها التي تمر به في هذه الحياة ، إلا وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفيعا أو شهيدا له يوم القيامة .

فقد ثبت أن الإقامة والمجاورة فيها له من الخصال التي لا تعد ولا تحصى ومن الصفات التي يحملها طالب العيش فيها، ألا وإن الذين يطلبون العيش فيها ومجاورتها قد خصهم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل جاء ينظر إلى متاع غيره ). فقد حرص الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأفضل التسليم على أن يكون القادم إلى هذه المدينة طالبا للعلم أو متعلمه كي تحصل له الدرجات العظيمة و تكتب له المنزلة العظيمة التي يحصل عليها المجاهدون في سبيل الله تعالى .

بركة المدينة المنورة:
ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه دعا لأهل المدينة المنورة بزيادة البركة في مدهم وصاعهم ، وقد أنجز له الله تعالى ما وعده ودعاه به ، فحصلت البركة من الله تعالى نتيجة لهذا الدعاء الطيب المبارك الطاهر من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك :(إني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ). عن أبي طوالة بن عامر بن سعد عن أبيه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أكل سبع تمرات ما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ).


الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة


وفيه فصلان:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة


الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة

عمل أهل المدينة: هو الأمر المتوارث المنقول عن أهل المدينة من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.

هذه المنقولات والمتوارثات عن أهل المدينة، هي ما اصطلح على تسميته بـ " عمل أهل المدينة " .

وعند بحثي في كتب أصول الفقه، لم أجد حدَّاً لهذا المصطلح بمعناه الخاص، وإنما هناك تقييدات له في ثنايا شروحات الأصوليين.

وأغلب الأصوليين جعلوا هذا الباب من وراء باب الإجماع، وفرعاً من فروع مسائل الإجماع.
فأغلبهم نظر إلى مسألة عمل أهل المدينة لدى المالكية على أنهم يحتجون باتفاق خاص، من أهل المدينة على حكم من الأحكام الشرعية.
لكن يتبين لنا من خلال تقييدات وشروط الاحتجاج بعمل أهل المدينة لدى فقهاء المالكية أنهم يفصلون في هذا الباب.


الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة:

ويمكن تقسيم عمل أهل المدينة إلى قسمين :

القسم الأول: العمل الذي مصدره النقل والحكاية.
ويتفرع هذا إلى:
أ- نقل شرع مبتدأ عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقل قوله أو نقل فعله أو تقريره، أو نقل تركه صلى الله عليه وسلم لفعل شيء قام سبب وجوبه ولم يفعله.
وهذا القسم هو من باب رواية أهل المدينة للحديث الشريف، قولاً وفعلاً وتقريراً.
ب- نقل العمل المتصل المستمر زمناً بعد زمن، من عهده صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.
وذلك مثل ما نقل في بعض أحكام المزارعة والآذان والأوقاف، وغيرها.
وكذلك نقل مقدار الصاع والمد، وتعيين بعض الأماكن كالبقيع والمصلى، وموضع الإحرام من المدينة.
وكذلك ترك الجهر بالبسملة في الصلاة وإخراج الزكاة في الخضروات، وغيرها.

القسم الثاني: العمل الذي مصدره الاجتهاد والاستدلال.
وهنا يقصد بها اتفاق المجتهدين والفقهاء المدنيين على أمر اجتهادي.



الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة

ومن خلال التقسيم السابق يمكن أن نقسم الاستدلال على حجية عمل أهل المدينة على النحو التالي:

المبحث الأول: حجية عمل أهل المدينة فيما كان مصدره النقل.

فقد اتفق فقهاء المالكية، ووافقهم بعض الأصوليين من المذاهب الأخرى، على أن العمل النقلي لأهل المدينة حجة يجب المصير إليها عند التعارض، ويترك بها غيرها من الأدلة، لأنها من باب النقل، ويمتاز هذا النقل عن غيره بكونه متواتراً، لأنه نقل جيل عن جيل .
وحجية الأخبار الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية أمر ثابت معلوم من الدين بالضرورة.
وفي هذا الباب يدخل ما يقوله المالكية من رد خبر الآحاد بعمل أهل المدينة، لأن عمل أهل المدينة أقرب إلى التواتر، فيقدم المتواتر من الحديث على الآحاد عند التعارض لدى جميع الأصوليين.

وإلى هذا رجع القاضي أبو يوسف وغيره ممن ناظر مالكاً في مسألة الأوقاف والمد والصاع .
وقد نقل القول بهذه الحجية عن الصيرفي من الشافعية ، والشيرازي في اللمع .

ويذهب الشيخ محمد زاهد الكوثري إلى أن هذا الباب قريب من باب عموم البلوى لدى الحنفية، من باب العمل المتوارث .

وإلى قريب من هذا يذهب ابن رشد الحفيد، حيث يرى أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة أقرب إلى مذهب الحنفية في عموم البلوى بل أقوى في الدلالة.
وأنقل هنا نصه في هذا، حيث قال:
" والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل " .


المبحث الثاني: في حجية العمل المستند إلى الاجتهاد.

وهذا هو معترك النـزال، ومحل الجدال، كما عبر الدكتور عبد السلام العسري .
وذلك أن نقد الجمهور للمذهب المالكي كان منصباً على هذا الباب، دون إشارة من أغلبهم إلى الباب الأول.

وموقف المالكية في هذا الباب ليس على طريق واحدة، كما هو شأنهم فيما اعتبر من طريق النقل.

1- فقد ذهب فقهاء المالكية العراقيون ووافقهم الباجي الأندلسي، إلى أن هذا النوع ليس بحجة، ولا يجرح به أيضاً أحد الاجتهادين على الآخر، محتجين في ذلك بأنه لم تتحقق فيه شروط الإجماع الأصولي، من اتفاق مجتهدي الأمة .

2- وذهب بعض مالكية العراق وبعض الشافعية ومالكية المغرب، إلى أن ما نقل عن طريق الاجتهاد يمكن اعتباره قرينة مرجحة، يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم .

3- وذهب مالكية المغرب إلى أن عمل أهل المدينة الاستدلالي حجة، كالعمل النقلي تماماً .

والرأي الراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، من عدم الاحتجاج بهذا الأمر.
وما ذكره مالكية المغرب من أدلة نقلية في هذا الباب، فهو غير مفيد.
فقوله عليه الصلاة والسلام: ﴿ إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ﴾ لا يسلم أنه يدل على نفي الخطأ، كما أن الكثير من الصحابة الفضلاء قد خرجوا عن المدينة واستوطنوا غيرها .

ويمكن القول بأن ما كان حجة في وقت يجب أن يكون حجة في جميع الأوقات، فإذا لم يكن اجتهاد علماء المدينة حجة في عصر الصحابة، لأن الصحابة لم يكونوا يحتجون على بعضهم باجتهاد أنفسهم، وجب أن لا يكون ذلك حجة في عصر آخر، والله أعلم.

جلال علي الجهاني
07-10-2003, 21:35
الباب الثاني: في أثر الخلاف الفقهي لهذا الأصل

يمكن القول بكل وضوح أن الاختلاف في هذا الأصل من أصول الاحتجاج في الأخبار، له أثر كبير جداً في الاختلاف في الفروع الفقهية.
وإذا تتبعنا ما سمي بمفردات الإمام مالك – المسائل التي انفرد بها عن بقية المذاهب المتبوعة – لوجدنا أن المسائل التي ابتني الخلاف فيها على عمل أهل المدينة لها حيز كبير في هذا المجال.
لكن مسائل الاختلاف الناتجة عن عمل أهل المدينة تحتاج إلى دراسة خاصة ومفصلة في تتبع جزئيات المسائل وتحقيق ثبوت العمل المدني.
وذلك أن بعض الفقهاء المتأخرين قد ذكروا سبب المخالفة بين مذهب المالكية وبين غيرهم للعمل في مسائل لا يثبت فيها العمل.

وأذكر هنا فقط بعض مسائل الخلاف، من كتاب بداية المجتهد لابن رشد الحفيد:

1- مسألة وقت الزوال:
قال ابن رشد الحفيد :
[ اتفق العلماء على أن ثلاثة من الأوقات منهي عن الصلاة فيها وهي: وقت طلوع الشمس، ووقت غروبها، ومن لَدُن تصلي صلاة الصبح حتى تطلع الشمس. واختلفوا في وقتين: في وقت الزوال وفي الصلاة بعد العصر.
فذهب مالك وأصحابه إلى أن الأوقات المنهي عنها هي أربعة: الطلوع، والغروب، وبعد الصبح، وبعد العصر، وأجاز الصلاة عند الزوال.
وذهب الشافعي إلى أن هذه الأوقات خمسة كلها منهي عنها إلا وقت الزوال يوم الجمعة فإنه أجاز فيه الصلاة.
واستثنى قوم من ذلك الصلاة بعد العصر.
وسبب الخلاف في ذلك أحد شيئين: إما معارضة أثر لأثر، وإما معارضة الأثر للعمل عند من راعى العمل: أعني عمل أهل المدينة، وهو مالك بن أنس.
فحيث ورد النهي ولم يكن هناك معارض لا من قول ولا من عمل اتفقوا عليه، وحيث ورد المعارض اختلفوا.
أما اختلافهم في وقت الزوال فلمعارضة العمل فيه للأثر، وذلك أنه ثبت من حديث عقبة بن عامر الجهني أنه قال "ثلاث ساعات كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا أن نصلي فيها وأن نقبر فيها موتانا: حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تضيف الشمس للغروب" خرجه مسلم، وحديث أبو عبد الله الصنابحي في معناه، ولكنه منقطع، خرجه مالك في موطئه. فمن الناس من ذهب إلى منع الصلاة في هذه الأوقات الثلاثة كلها. ومن الناس من استثنى من ذلك وقت الزوال، إما بإطلاق وهو مالك، وإما في يوم الجمعة فقط وهو الشافعي.
وأما مالك فلأن العمل عنده بالمدينة لما وجده على الوقتين فقط ولم يجده على الوقت الثالث: أعني الزوال أباح الصلاة فيه، وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل. وأما من لم ير للعمل تأثيرا فبقي على أصله في المنع ].

2- مسألة صفة الأذان والإقامة:
قال ابن رشد الحفيد :
[ اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة:
إحداها تثنية التكبير فيه وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع، وهو أن يثني الشهادتين أولا خفيا ثم يثنيهما مرة ثانية مرفوع الصوت.
والصفة الثانية أذان المكيين، وبه قال الشافعي، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين وتثنية باقي الأذان.
والصفة الثالثة أذان الكوفيين، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان، وبه قال أبو حنيفة.
والصفة الرابعة أذان البصريين وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين وحي على الصلاة وحي على الفلاح، ويبدأ بأشهد أن لا إله إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح، ثم يعيد كذلك مرة ثانية: أعني الأربع كلمات تبعا، ثم يعيدهن ثالثة، وبه قال الحسن البصري وابن سيرين.
والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الأربع فرق اختلاف الآثار في ذلك واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة، والمكيون كذلك أيضا يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك وكذلك الكوفيون والبصريون ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله ].

3- مسألة صلاة القاعد خلف القائم:
قال ابن رشد الحفيد :
[ (وأما المسألة الثانية) وهي صلاة القائم خلف القاعد، فإن حاصل القول فيها أن العلماء اتفقوا على أنه ليس للصحيح أن يصلي فرضاً قاعداً إذا كان منفردا أو إماما لقوله تعالى ﴿وقوموا لله قانتين﴾ .
واختلفوا إذا كان المأموم صحيحا فصلى خلف إمام مريض يصلي قاعدا على ثلاثة أقوال: أحدها أن المأموم يصلي خلفه قاعدا، وممن قال بهذا القول أحمد وإسحق.
والقول الثاني أنهم يصلون خلفه قياما. قال أبو عمر بن عبد البر: وعلى هذا جماعة فقهاء الأمصار الشافعي وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه وأهل الظاهر وأبو ثور وغيرهم، وزاد هؤلاء فقال يصلون وراءه قياما وإن كان لا يقوى على الركوع والسجود بل يؤمئ إيماء. وروى ابن القاسم أنه لا تجوز إمامة القاعد وأنه إن صلوا خلفه قياما أو قعودا بطلت صلاتهم، وقد روي عن مالك أنهم يعيدون الصلاة في الوقت، وهذا إنما بني على الكراهة لا على المنع، والأول هو المشهور عنه.
وسبب الاختلاف تعارض الآثار في ذلك ومعارضة العمل للآثار: أعني عمل أهل المدينة عند مالك.
وذلك أن في ذلك حديثين متعارضين: أحدهما حديث أنس، وهو قوله عليه الصلاة والسلام "وإذا صلى قاعدا فصلوا قعودا" وحديث عائشة في معناه، وهو "أنه صلى صلى الله عليه وسلم وهو شاك جالسا وصلى وراءه قوم قياما فأشار إليهم أن اجلسوا فلما انصرف قال "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا ركع فاركعوا، وإذا رفع فارفعوا، وإذا صلى جالسا فصلوا جلوسا" والحديث الثاني حديث عائشة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج في مرضه الذي توفي منه، فأتى المسجد فوجد أبا بكر وهو قائم يصلي بالناس، فاستأخر أبو بكر فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كما أنت، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جنب أبي بكر، فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الناس يصلون بصلاة أبي بكر" فذهب الناس في هذين الحديثين مذهبين: مذهب النسخ، ومذهب الترجيح.
فأما من ذهب مذهب النسخ فإنهم قالوا: إن ظاهر حديث عائشة وهو "أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يؤم الناس، وأن أبا بكر كان مسمعا" لأنه لا يجوز أن يكون إمامان في صلاة واحدة، وإن الناس كانوا قياما، وإن النبي عليه الصلاة والسلام كان جالسا، فوجب أن يكون هذا من فعله عليه الصلاة والسلام، إذ كان آخر ما فعله ناسخا لقوله وفعله المتقدم.
وأما من ذهب مذهب الترجيح فإنهم رجحوا حديث أنس بأن قالوا إن هذا الحديث قد اضطربت الرواية عن عائشة فيه فيمن كان الإمام، هل رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أبو بكر؟.
وأما مالك فليس له مستند من السماع، لأن كلا الحديثين اتفقا على جواز إمامة القاعد، وإنما اختلفا في قيام المأموم أو قعوده، حتى إنه لقد قال أبو محمد بن حزم إنه ليس في حديث عائشة أن الناس صلوا لا قياما ولا قعودا، وليس يجب أن يترك المنصوص عليه لشيء لم ينص عليه.
قال أبو عمر: وقد ذكر أبو المصعب في مختصره عن مالك أنه قال: لا يؤم الناس أحد قاعدا، فإن أمهم قاعدا فسدت صلاتهم وصلاته لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يؤمن أحد بعدي قاعدا" قال أبو عمر وهذا حديث لا يصح عند أهل العلم بالحديث، لأنه يرويه جابر الجعفي مرسلا، وليس بحجة فيما أسند فكيف فيما أرسل؟ وقد روى ابن القاسم عن مالك أنه كان يحتج بما رواه ربيعة بن أبي عبد الرحمن "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وهو مريض، فكان أبو بكر هو الإمام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بصلاة أبي بكر وقال: ما مات نبي حتى يؤمه رجل من أمته" وهذا ليس فيه حجة إلا أن يتوهم أنه ائتم بأبي بكر لأنه لا تجوز صلاة الإمام القاعد، وهذا ظن لا يجب أن يترك له النص مع ضعف هذا الحديث ].

4- الجمع بين الصلاتين في الحضر:
قال ابن رشد الحفيد :
[ وأما الجمع في الحضر لعذر المطر فأجازه الشافعي ليلا كان أو نهارا .
ومنعه مالك في النهار وأجازه في الليل، وأجازه أيضا في الطين دون المطر في الليل، وقد عدل الشافعي مالكا في تفريقه من صلاة النهار في ذلك وصلاة الليل، لأنه روى الحديث وتأوله: أعني خصص عمومه من جهة القياس، وذلك أنه قال في قول ابن عباس "جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء في غير خوف ولا سفر" أرى ذلك كان في مطر قال: فلم يأخذ بعموم الحديث ولا بتأويله: أعني تخصيصه، بل رد بعضه وتأول بعضه، وذلك شيء لا يجوز بإجماع، وذلك أنه لم يأخذ بقوله فيه "جمع بين الظهر والعصر" وأخذ بقوله "والمغرب والعشاء" وتأوله .
وأحسب أن مالكا رحمه الله إنما رد بعض هذا الحديث لأنه عارضه العمل، فأخذ منه بالبعض الذي لم يعارضه العمل ].

5- الصلاة على القبر:
قال ابن رشد الحفيد :
[ واختلفوا في الصلاة على القبر لمن فاتته الصلاة على الجنازة فقال مالك: لا يصلى على القبر.
وقال أبو حنيفة: لا يصلي على القبر إلا الولي فقط إذا فاتته الصلاة على الجنازة، وكان الذي صلى عليها غير وليها.
وقال الشافعي وأحمد وداود وجماعة: يصلي على القبر من فاتته الصلاة على الجنازة؛ واتفق القائلون بإجازة الصلاة على القبر أن من شرط ذلك حدوث الدفن، وهؤلاء اختلفوا في هذه المدة وأكثرها شهر.
وسبب اختلافهم معارضة العمل للأثر. أما مخالفة العمل فإن ابن القاسم قال: قلت لمالك فالحديث الذي جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى على قبر إمرأة قال: قد جاء هذا الحديث وليس عليه العمل، والصلاة على القبر ثابتة باتفاق من أصحاب الحديث، قال أحمد بن حنبل: رويت الصلاة على القبر عن النبي عليه الصلاة والسلام من طرق ستة كلها حسان. وزاد بعض المحدثين ثلاثة طرق فذلك تسع ].

6- عدد السجدات في القرآن الكريم:
قال ابن رشد الحفيد :
[ وأما عدد عزائم سجود القرآن، فإن مالكا قال في الموطأ: الأمر عندنا أن عزائم سجود القرآن إحدى عشرة سجدة ليس في المفصل منها شيء وقال أصحابه: أولها خاتمة الأعراف، وثانيها في الرعد عند قوله تعالى ﴿بالغدو والأصال﴾ وثالثها في النحل عند قوله تعالى ﴿ويفعلون ما يؤمرون﴾ ورابعها في بني إسرائيل عند قوله تعالى ﴿ويزيدهم خشوعا﴾ وخامسها في مريم عند قوله تعالى ﴿خروا سجدا وبكيا﴾ وسادسها الأولى من الحج عند قوله تعالى ﴿إن الله يفعل ما يشاء﴾ وسابعها في الفرقان عند قوله تعالى ﴿وزادهم نفورا﴾ وثامنها في النمل عند قوله تعالى ﴿رب العرش العظيم﴾ وتاسعها في ﴿المّ تنـزيل﴾ عند قوله تعالى ﴿وهم لا يستكبرون﴾ وعاشرها في ﴿صّ﴾ عند قوله تعالى ﴿وخر راكعا وأناب﴾ والحادية عشرة في ﴿حمّ تنـزيل﴾ عند قوله تعالى ﴿إن كنتم إياه تعبدون﴾ وقيل عند قوله ﴿وهم لا يسأمون﴾ وقال الشافعي: أربع عشرة سجدة: ثلاث منها في المفصل: في الانشقاق وفي النجم وفي ﴿اقرأ باسم ربك﴾ ولم ير في ﴿صّ﴾ سجدة لأنها عنده من باب الشكر. وقال أحمد: هي خمسة عشرة سجدة أثبت فيها الثانية من الحج وسجدة ﴿صّ﴾ وقال أبو حنيفة: هي اثنتا عشرة سجدة. قال الطحاوي: وهي كل سجدة جاءت بلفظ الخبر.
والسبب في اختلافهم اختلافهم في المذاهب التي اعتمدوها في تصحيح عددها وذلك أن منهم من اعتمد عمل أهل المدينة، ومنهم من اعتمد القياس، ومنهم من اعتمد السماع.
أما الذين اعتمدوا العمل فمالك وأصحابه.
وأما الذين اعتمدوا القياس فأبو حنيفة وأصحابه، وذلك أنهم قالوا: وجدنا السجدات التي أجمع عليها جاءت بصيغة الخبر، وهي سجدة الأعراف والنحل والرعد والإسراء ومريم وأول الحج والفرقان والنمل والمّ تنـزيل، فوجب أن تلحق بها سائر السجدات التي جاءت بصيغة الخبر، وهي التي في صّ وفي الانشقاق، ويسقط ثلاثة جاءت بلفظ الأمر وهي التي في والنجم وفي الثانية من الحج وفي اقرأ باسم ربك وأما الذين اعتمدوا السماع فإنهم صاروا إلى ما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام من سجوده في الانشقاق وفي ﴿اقرأ باسم ربك﴾ وفي ﴿والنجم﴾ خرج ذلك مسلم. وقال الأثرم: سئل أحمد كم في الحج من سجدة؟ قال سجدتان. وصحح حديث عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "في الحج سجدتان" وهو قول عمر وعلي.
قال القاضي: خرجه أبو داود. وأما الشافعي فإنه إنما صار إلى إسقاط سجدة صّ لما رواه أبو داود عن أبي سعيد الخدري "أن النبي عليه الصلاة والسلام قرأ وهو على المنبر آية السجود من سورة ﴿صّ﴾ فنـزل وسجد فلما كان يوم آخر قرأها فتهيأ الناس للسجود فقال: إنما هي توبة نبي، ولكن رأيتكم تشيرون للسجود فنـزلت فسجدت" وفي هذا ضرب من الحجة لأبي حنيفة في قوله بوجوب السجود، لأنه علل ترك السجود في هذه السجدة بعلة انتفت في غيرها من السجدات، فوجب أن يكون حكم التي انتفت عنها العلة بخلاف التي ثبتت لها العلة، وهو نوع من الاستدلال وفيه اختلاف، لأنه من باب تجويز دليل الخطاب. وقد احتج بعض من لم ير السجود في المفصل بحديث عكرمة عن ابن عباس خرجه أبو داود "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يسجد في شيء من المفصل منذ هاجر إلى المدينة" قال أبو عمر: وهو منكر لأن أبا هريرة الذي روى سجوده في المفصل لم يصحبه عليه الصلاة والسلام إلا بالمدينة. وقد روى الثقات عنه "أنه سجد عليه الصلاة والسلام في والنجم" ].


والله سبحانه أعلم وأحكم.

الخاتمة: في نتائج البحث

وبعد هذه الجولة في رياض الخلاف العالي الممتعة، لا يسع المرء إلا أن يقف وقفة اعتراف بأن باب علوم الفقه من أعظم الأبواب وأصعبها.
وأن فقهاءنا لم يكونوا في اجتهاداتهم الفقهية واختلافاتهم يسيرون إلا على طريق واضحة بينة.

وأنبه إلى مسألة مهمة في ختام البحث، وهي أن على الباحثين في هذه المسألة التي تطرقت في بحثي إليها أن يفرقوا بين نوعين من عمل أهل المدينة، لم يعرج على الفرق بينهم جمهور من كتب في الأصول من غير المالكية، وهما العمل الذي يرجع إلى الرواية، وبين العمل الذي يرجع إلى الاجتهاد.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه
وسلم تسليماً كثيراً ..
والحمد لله رب العالمين.

محمد ال عمر التمر
19-11-2005, 20:19
شيخ جلال لابن تيمية رسالة حول صحة عمل أهل المدينة ما رأيكم فيها

محمد إسماعيل متشل
19-11-2005, 21:42
الأخ جلال:

انت قلت ان العمل على قسمين: العمل المبني على النقل, والعمل المبني على الاجتهاد. فإذا قال مالك رحمه الله: فقد وقع العمل على كذا وكذا, فبماذا نعرف من اي قسم اخذ؟

هلال بن عبد الله بن عمر
07-05-2008, 20:55
شيخنا جلال هل لك ان تدلني على رسائل لائمتنا في تقديم عمل اهل المدينة او اي رسالة تراها مفيدة افاد الله بك

محبكم الفقير ابونصر

جمال رابح العاتري
13-09-2010, 23:47
السلام عليكم ورحمة الله .
جزاكم الله خيرا وزادكم علما .
في معرض بحثكم أخي الكريم ذكرتم في مسألة وقت الزوال في آخر الكلام ما نصه : {وأعتقد أن ذلك النهي منسوخ بالعمل} وما أعلمه أن الإجماع لا ينسخ ولكن يدل على وجود ناسخ غيره .
ثم إن عمل أهل المدينة كان مرجعا عند الامام مالك رحمه الله تعالى عندما لا يكون لديه نص صريح او لا يطمئن للنص المذكور في المسألة ...والله تعالى أعلم

جلال علي الجهاني
14-09-2010, 00:08
كلامك أخي جمال صحيح .. والكلام الذي نقلته هو من كتاب بداية المجتهد ..

أما كون إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة يحتج به إمامنا عند عدم وجود النص، فكلام غير دقيق، حيث إن الإمام قد نص على صحة أحاديث هي نصوص في بابها، لكن لمخالفتها العمل تركها، فالعمل بمنزلة المتواتر، والخبر المعارض له آحاد، ولا يترك المتواتر للآحاد .. والله أعلم.

عبدالعزيز عبد الرحمن علي
14-09-2010, 04:34
جزاكم الله خيرا

جمال رابح العاتري
14-09-2010, 15:40
كلامك أخي جمال صحيح .. والكلام الذي نقلته هو من كتاب بداية المجتهد ..

أما كون إجماع أهل المدينة أو عمل أهل المدينة يحتج به إمامنا عند عدم وجود النص، فكلام غير دقيق، حيث إن الإمام قد نص على صحة أحاديث هي نصوص في بابها، لكن لمخالفتها العمل تركها، فالعمل بمنزلة المتواتر، والخبر المعارض له آحاد، ولا يترك المتواتر للآحاد .. والله أعلم.
زادك الله علما اخي الكريم . ولاحظ الشطر الثاني من الجملة ..عندما قلتَ أو لا يطمئن للنص فلعله اكثر دقة .

جلال علي الجهاني
14-09-2010, 18:26
وإياك أخي العزيز،

أنا انتبهت لهذه الجملة، ولكني (لم أطمأن لها)!! ذلك أن الاطمئنان أمر غير منضبط، وما كان غير منضبط لا يصلح أن يرد به ظواهر الأخبار ..

والله أعلم ..

محمد حسن حسن الحسني
22-09-2010, 18:35
وماذا عن رسالة الامام الليث الى الامام مالك ورد مالك عليه
؟؟؟

وهل كان رد الامام مالك شافيا في نظركم سيدي
؟