جلال علي الجهاني
07-10-2003, 21:34
هذا بحث كتبته على عجالة، وباختصار، في بيان بعض الجوانب في عمل أهل المدينة، على أنه قد كتبت بحوث قيمة في هذا الباب، وقد طبعت منها دار البحوث ما يستحق القراءة والتلخيص، ويجعل أصحابنا المالكيين على بصيرة ودراية جيدة بالموضوع..
عَمَـلُ أهْـلِ الـمَـدِينـَـة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد..
فهذا بحث مختصر، في توضيح مذهب المالكية في حجية عمل أهل المدينة.
وبيان أثر احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة على الخلاف في فروع الفقه.
وقد جريت في هذا البحث على أن أنقل رأي المالكية من كتبهم خاصة، وليس من رأي غيرهم، حتى يكون البحث أقرب إلى الدقة.
وقد جعلتُ هذا البحث في تمهيد، وبابين:
التمهيد: في بيان منـزلة المدينة في التشريع الإسلامي
الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
الباب الثاني: في أثر الخلاف الفقهي لهذا الأصل
الخاتمة: في نتائج البحث
فإن أكن قد أصبت في هذا البحث فذلك توفيق الله، وإن يكن غير ذلك فذلك مني وأستغفر الله تعالى.
التمهيد: في بيان منـزلة المدينة
في التشريع الإسلامي
للمدينة المنورة اعتبار خاص، لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى، فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علماً وعملاً، ومنـزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
وقد ورد في شأنها العديد من الأحاديث التي تدل على فضلها وفضل ساكنيها.
ولقد نالت المدينة المنورة حباً كبيراً من النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وكانت لها المكانة العالية الجلية في قلبه، هذا مما جعل المسلمون يكنون لها كل الحب محبة لله ورسوله وإتباعا للسنة المطهرة ، لأن الله تعالى قد فرض علينا أن نحب ما كان يحبه الرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ .
ذكر في تاريخ البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم :( من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات ) وفي هذا القول الكريم مدلول على ما دلنا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن التسمية التي لحقت بها ( أي يثرب ) إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها و هي تعني الفساد.
حرمة المدينة المنورة:
قال صلى الله عليه وسلم :( إن ابراهيم حرّم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ) .
وروى مسلم :( حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ).
قال أبو هريرة :( لو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( اللهم إن إبراهيم حرّم مكة فجعلها حراما ما بين مأزميها أن لا يراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يحبط فيها شجرة إلا لعلف ).
مجاورة المدينة المنورة و الإقامة فيها:
قال صلى الله عليه وسلم :( لا يصبر أحد على لأوائها وجهدها ، إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة )، هذا يدل على المكانة العظيمة التي اختصت بها المدينة المنورة عن سائر البلدان والمدن، وإلا لما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه قد خصها بهذه المكانة في أن الصابر على التعايش بين ظروفها التي تمر به في هذه الحياة ، إلا وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفيعا أو شهيدا له يوم القيامة .
فقد ثبت أن الإقامة والمجاورة فيها له من الخصال التي لا تعد ولا تحصى ومن الصفات التي يحملها طالب العيش فيها، ألا وإن الذين يطلبون العيش فيها ومجاورتها قد خصهم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل جاء ينظر إلى متاع غيره ). فقد حرص الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأفضل التسليم على أن يكون القادم إلى هذه المدينة طالبا للعلم أو متعلمه كي تحصل له الدرجات العظيمة و تكتب له المنزلة العظيمة التي يحصل عليها المجاهدون في سبيل الله تعالى .
بركة المدينة المنورة:
ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه دعا لأهل المدينة المنورة بزيادة البركة في مدهم وصاعهم ، وقد أنجز له الله تعالى ما وعده ودعاه به ، فحصلت البركة من الله تعالى نتيجة لهذا الدعاء الطيب المبارك الطاهر من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك :(إني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ). عن أبي طوالة بن عامر بن سعد عن أبيه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أكل سبع تمرات ما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ).
الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
عمل أهل المدينة: هو الأمر المتوارث المنقول عن أهل المدينة من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.
هذه المنقولات والمتوارثات عن أهل المدينة، هي ما اصطلح على تسميته بـ " عمل أهل المدينة " .
وعند بحثي في كتب أصول الفقه، لم أجد حدَّاً لهذا المصطلح بمعناه الخاص، وإنما هناك تقييدات له في ثنايا شروحات الأصوليين.
وأغلب الأصوليين جعلوا هذا الباب من وراء باب الإجماع، وفرعاً من فروع مسائل الإجماع.
فأغلبهم نظر إلى مسألة عمل أهل المدينة لدى المالكية على أنهم يحتجون باتفاق خاص، من أهل المدينة على حكم من الأحكام الشرعية.
لكن يتبين لنا من خلال تقييدات وشروط الاحتجاج بعمل أهل المدينة لدى فقهاء المالكية أنهم يفصلون في هذا الباب.
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة:
ويمكن تقسيم عمل أهل المدينة إلى قسمين :
القسم الأول: العمل الذي مصدره النقل والحكاية.
ويتفرع هذا إلى:
أ- نقل شرع مبتدأ عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقل قوله أو نقل فعله أو تقريره، أو نقل تركه صلى الله عليه وسلم لفعل شيء قام سبب وجوبه ولم يفعله.
وهذا القسم هو من باب رواية أهل المدينة للحديث الشريف، قولاً وفعلاً وتقريراً.
ب- نقل العمل المتصل المستمر زمناً بعد زمن، من عهده صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.
وذلك مثل ما نقل في بعض أحكام المزارعة والآذان والأوقاف، وغيرها.
وكذلك نقل مقدار الصاع والمد، وتعيين بعض الأماكن كالبقيع والمصلى، وموضع الإحرام من المدينة.
وكذلك ترك الجهر بالبسملة في الصلاة وإخراج الزكاة في الخضروات، وغيرها.
القسم الثاني: العمل الذي مصدره الاجتهاد والاستدلال.
وهنا يقصد بها اتفاق المجتهدين والفقهاء المدنيين على أمر اجتهادي.
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
ومن خلال التقسيم السابق يمكن أن نقسم الاستدلال على حجية عمل أهل المدينة على النحو التالي:
المبحث الأول: حجية عمل أهل المدينة فيما كان مصدره النقل.
فقد اتفق فقهاء المالكية، ووافقهم بعض الأصوليين من المذاهب الأخرى، على أن العمل النقلي لأهل المدينة حجة يجب المصير إليها عند التعارض، ويترك بها غيرها من الأدلة، لأنها من باب النقل، ويمتاز هذا النقل عن غيره بكونه متواتراً، لأنه نقل جيل عن جيل .
وحجية الأخبار الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية أمر ثابت معلوم من الدين بالضرورة.
وفي هذا الباب يدخل ما يقوله المالكية من رد خبر الآحاد بعمل أهل المدينة، لأن عمل أهل المدينة أقرب إلى التواتر، فيقدم المتواتر من الحديث على الآحاد عند التعارض لدى جميع الأصوليين.
وإلى هذا رجع القاضي أبو يوسف وغيره ممن ناظر مالكاً في مسألة الأوقاف والمد والصاع .
وقد نقل القول بهذه الحجية عن الصيرفي من الشافعية ، والشيرازي في اللمع .
ويذهب الشيخ محمد زاهد الكوثري إلى أن هذا الباب قريب من باب عموم البلوى لدى الحنفية، من باب العمل المتوارث .
وإلى قريب من هذا يذهب ابن رشد الحفيد، حيث يرى أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة أقرب إلى مذهب الحنفية في عموم البلوى بل أقوى في الدلالة.
وأنقل هنا نصه في هذا، حيث قال:
" والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل " .
المبحث الثاني: في حجية العمل المستند إلى الاجتهاد.
وهذا هو معترك النـزال، ومحل الجدال، كما عبر الدكتور عبد السلام العسري .
وذلك أن نقد الجمهور للمذهب المالكي كان منصباً على هذا الباب، دون إشارة من أغلبهم إلى الباب الأول.
وموقف المالكية في هذا الباب ليس على طريق واحدة، كما هو شأنهم فيما اعتبر من طريق النقل.
1- فقد ذهب فقهاء المالكية العراقيون ووافقهم الباجي الأندلسي، إلى أن هذا النوع ليس بحجة، ولا يجرح به أيضاً أحد الاجتهادين على الآخر، محتجين في ذلك بأنه لم تتحقق فيه شروط الإجماع الأصولي، من اتفاق مجتهدي الأمة .
2- وذهب بعض مالكية العراق وبعض الشافعية ومالكية المغرب، إلى أن ما نقل عن طريق الاجتهاد يمكن اعتباره قرينة مرجحة، يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم .
3- وذهب مالكية المغرب إلى أن عمل أهل المدينة الاستدلالي حجة، كالعمل النقلي تماماً .
والرأي الراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، من عدم الاحتجاج بهذا الأمر.
وما ذكره مالكية المغرب من أدلة نقلية في هذا الباب، فهو غير مفيد.
فقوله عليه الصلاة والسلام: ﴿ إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ﴾ لا يسلم أنه يدل على نفي الخطأ، كما أن الكثير من الصحابة الفضلاء قد خرجوا عن المدينة واستوطنوا غيرها .
ويمكن القول بأن ما كان حجة في وقت يجب أن يكون حجة في جميع الأوقات، فإذا لم يكن اجتهاد علماء المدينة حجة في عصر الصحابة، لأن الصحابة لم يكونوا يحتجون على بعضهم باجتهاد أنفسهم، وجب أن لا يكون ذلك حجة في عصر آخر، والله أعلم.
عَمَـلُ أهْـلِ الـمَـدِينـَـة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، أما بعد..
فهذا بحث مختصر، في توضيح مذهب المالكية في حجية عمل أهل المدينة.
وبيان أثر احتجاج المالكية بعمل أهل المدينة على الخلاف في فروع الفقه.
وقد جريت في هذا البحث على أن أنقل رأي المالكية من كتبهم خاصة، وليس من رأي غيرهم، حتى يكون البحث أقرب إلى الدقة.
وقد جعلتُ هذا البحث في تمهيد، وبابين:
التمهيد: في بيان منـزلة المدينة في التشريع الإسلامي
الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
الباب الثاني: في أثر الخلاف الفقهي لهذا الأصل
الخاتمة: في نتائج البحث
فإن أكن قد أصبت في هذا البحث فذلك توفيق الله، وإن يكن غير ذلك فذلك مني وأستغفر الله تعالى.
التمهيد: في بيان منـزلة المدينة
في التشريع الإسلامي
للمدينة المنورة اعتبار خاص، لا تشاركها فيه مدن الأمصار الأخرى، فهي دار الإسلام الأولى، ومهبط الوحي، وأرض ضمت جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومركز الخلافة الراشدة، وموطن أكثر الصحابة الأجلاء علماً وعملاً، ومنـزل أفاضل العلماء من التابعين وتابعيهم.
وقد ورد في شأنها العديد من الأحاديث التي تدل على فضلها وفضل ساكنيها.
ولقد نالت المدينة المنورة حباً كبيراً من النبي ـ صلّى الله عليه وسلم ـ وكانت لها المكانة العالية الجلية في قلبه، هذا مما جعل المسلمون يكنون لها كل الحب محبة لله ورسوله وإتباعا للسنة المطهرة ، لأن الله تعالى قد فرض علينا أن نحب ما كان يحبه الرسول ـ صلّى الله عليه وسلم ـ .
ذكر في تاريخ البخاري قول النبي صلى الله عليه وسلم :( من قال يثرب مرة فليقل المدينة عشر مرات ) وفي هذا القول الكريم مدلول على ما دلنا عليه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من أن التسمية التي لحقت بها ( أي يثرب ) إنما جاءت على عهد اليهود الذين سموها بها و هي تعني الفساد.
حرمة المدينة المنورة:
قال صلى الله عليه وسلم :( إن ابراهيم حرّم مكة ودعا لها ، وإني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة ) .
وروى مسلم :( حرّم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين لابتي المدينة ).
قال أبو هريرة :( لو وجدت الظباء ما بين لابتيها ما ذعرتها وجعل اثني عشر ميلا حول المدينة حمى) .
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ :( اللهم إن إبراهيم حرّم مكة فجعلها حراما ما بين مأزميها أن لا يراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يحبط فيها شجرة إلا لعلف ).
مجاورة المدينة المنورة و الإقامة فيها:
قال صلى الله عليه وسلم :( لا يصبر أحد على لأوائها وجهدها ، إلا كنت له شفيعا أو شهيدا يوم القيامة )، هذا يدل على المكانة العظيمة التي اختصت بها المدينة المنورة عن سائر البلدان والمدن، وإلا لما كان النبي صلوات الله وسلامه عليه قد خصها بهذه المكانة في أن الصابر على التعايش بين ظروفها التي تمر به في هذه الحياة ، إلا وكان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ شفيعا أو شهيدا له يوم القيامة .
فقد ثبت أن الإقامة والمجاورة فيها له من الخصال التي لا تعد ولا تحصى ومن الصفات التي يحملها طالب العيش فيها، ألا وإن الذين يطلبون العيش فيها ومجاورتها قد خصهم بذلك النبي ـ صلى الله عليه وسلم . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول :( من جاء مسجدي هذا لم يأته إلا بخير يتعلمه أو يعلمه، فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله ، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل جاء ينظر إلى متاع غيره ). فقد حرص الرسول الكريم عليه أتم الصلاة وأفضل التسليم على أن يكون القادم إلى هذه المدينة طالبا للعلم أو متعلمه كي تحصل له الدرجات العظيمة و تكتب له المنزلة العظيمة التي يحصل عليها المجاهدون في سبيل الله تعالى .
بركة المدينة المنورة:
ثبت عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه دعا لأهل المدينة المنورة بزيادة البركة في مدهم وصاعهم ، وقد أنجز له الله تعالى ما وعده ودعاه به ، فحصلت البركة من الله تعالى نتيجة لهذا الدعاء الطيب المبارك الطاهر من الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم .وقد ثبت في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قوله في ذلك :(إني دعوت في صاعها ومدها بمثلي ما دعا به إبراهيم لأهل مكة ). عن أبي طوالة بن عامر بن سعد عن أبيه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :( من أكل سبع تمرات ما بين لابتيها حين يصبح لم يضره سم حتى يمسي ).
الباب الأول: في حجية عمل أهل المدينة
وفيه فصلان:
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
الفصل الأول: في معنى عمل أهل المدينة
عمل أهل المدينة: هو الأمر المتوارث المنقول عن أهل المدينة من عصر النبي صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.
هذه المنقولات والمتوارثات عن أهل المدينة، هي ما اصطلح على تسميته بـ " عمل أهل المدينة " .
وعند بحثي في كتب أصول الفقه، لم أجد حدَّاً لهذا المصطلح بمعناه الخاص، وإنما هناك تقييدات له في ثنايا شروحات الأصوليين.
وأغلب الأصوليين جعلوا هذا الباب من وراء باب الإجماع، وفرعاً من فروع مسائل الإجماع.
فأغلبهم نظر إلى مسألة عمل أهل المدينة لدى المالكية على أنهم يحتجون باتفاق خاص، من أهل المدينة على حكم من الأحكام الشرعية.
لكن يتبين لنا من خلال تقييدات وشروط الاحتجاج بعمل أهل المدينة لدى فقهاء المالكية أنهم يفصلون في هذا الباب.
الفصل الثاني: أقسام عمل أهل المدينة:
ويمكن تقسيم عمل أهل المدينة إلى قسمين :
القسم الأول: العمل الذي مصدره النقل والحكاية.
ويتفرع هذا إلى:
أ- نقل شرع مبتدأ عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل نقل قوله أو نقل فعله أو تقريره، أو نقل تركه صلى الله عليه وسلم لفعل شيء قام سبب وجوبه ولم يفعله.
وهذا القسم هو من باب رواية أهل المدينة للحديث الشريف، قولاً وفعلاً وتقريراً.
ب- نقل العمل المتصل المستمر زمناً بعد زمن، من عهده صلى الله عليه وسلم، إلى عهد صغار التابعين.
وذلك مثل ما نقل في بعض أحكام المزارعة والآذان والأوقاف، وغيرها.
وكذلك نقل مقدار الصاع والمد، وتعيين بعض الأماكن كالبقيع والمصلى، وموضع الإحرام من المدينة.
وكذلك ترك الجهر بالبسملة في الصلاة وإخراج الزكاة في الخضروات، وغيرها.
القسم الثاني: العمل الذي مصدره الاجتهاد والاستدلال.
وهنا يقصد بها اتفاق المجتهدين والفقهاء المدنيين على أمر اجتهادي.
الفصل الثالث: في حجية عمل أهل المدينة
ومن خلال التقسيم السابق يمكن أن نقسم الاستدلال على حجية عمل أهل المدينة على النحو التالي:
المبحث الأول: حجية عمل أهل المدينة فيما كان مصدره النقل.
فقد اتفق فقهاء المالكية، ووافقهم بعض الأصوليين من المذاهب الأخرى، على أن العمل النقلي لأهل المدينة حجة يجب المصير إليها عند التعارض، ويترك بها غيرها من الأدلة، لأنها من باب النقل، ويمتاز هذا النقل عن غيره بكونه متواتراً، لأنه نقل جيل عن جيل .
وحجية الأخبار الصحيحة في استنباط الأحكام الشرعية أمر ثابت معلوم من الدين بالضرورة.
وفي هذا الباب يدخل ما يقوله المالكية من رد خبر الآحاد بعمل أهل المدينة، لأن عمل أهل المدينة أقرب إلى التواتر، فيقدم المتواتر من الحديث على الآحاد عند التعارض لدى جميع الأصوليين.
وإلى هذا رجع القاضي أبو يوسف وغيره ممن ناظر مالكاً في مسألة الأوقاف والمد والصاع .
وقد نقل القول بهذه الحجية عن الصيرفي من الشافعية ، والشيرازي في اللمع .
ويذهب الشيخ محمد زاهد الكوثري إلى أن هذا الباب قريب من باب عموم البلوى لدى الحنفية، من باب العمل المتوارث .
وإلى قريب من هذا يذهب ابن رشد الحفيد، حيث يرى أن الاحتجاج بعمل أهل المدينة أقرب إلى مذهب الحنفية في عموم البلوى بل أقوى في الدلالة.
وأنقل هنا نصه في هذا، حيث قال:
" والأشبه عندي أن يكون من باب عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، وذلك أنه لا يجوز أن يكون أمثال هذه السنن مع تكررها وتكرر وقوع أسبابها غير منسوخة، ويذهب العمل بها على أهل المدينة الذين تلقوا العمل بالسنن خلفا عن سلف، وهو أقوى من عموم البلوي الذي يذهب إليه أبو حنيفة، لأن أهل المدينة أحرى أن لا يذهب عليهم ذلك من غيرهم من الناس الذين يعتبرهم أبو حنيفة في طريق النقل " .
المبحث الثاني: في حجية العمل المستند إلى الاجتهاد.
وهذا هو معترك النـزال، ومحل الجدال، كما عبر الدكتور عبد السلام العسري .
وذلك أن نقد الجمهور للمذهب المالكي كان منصباً على هذا الباب، دون إشارة من أغلبهم إلى الباب الأول.
وموقف المالكية في هذا الباب ليس على طريق واحدة، كما هو شأنهم فيما اعتبر من طريق النقل.
1- فقد ذهب فقهاء المالكية العراقيون ووافقهم الباجي الأندلسي، إلى أن هذا النوع ليس بحجة، ولا يجرح به أيضاً أحد الاجتهادين على الآخر، محتجين في ذلك بأنه لم تتحقق فيه شروط الإجماع الأصولي، من اتفاق مجتهدي الأمة .
2- وذهب بعض مالكية العراق وبعض الشافعية ومالكية المغرب، إلى أن ما نقل عن طريق الاجتهاد يمكن اعتباره قرينة مرجحة، يرجح به اجتهادهم على اجتهاد غيرهم .
3- وذهب مالكية المغرب إلى أن عمل أهل المدينة الاستدلالي حجة، كالعمل النقلي تماماً .
والرأي الراجح في هذه المسألة ما ذهب إليه أصحاب الرأي الأول، من عدم الاحتجاج بهذا الأمر.
وما ذكره مالكية المغرب من أدلة نقلية في هذا الباب، فهو غير مفيد.
فقوله عليه الصلاة والسلام: ﴿ إن المدينة لتنفي خبثها كما ينفي الكير خبث الحديد ﴾ لا يسلم أنه يدل على نفي الخطأ، كما أن الكثير من الصحابة الفضلاء قد خرجوا عن المدينة واستوطنوا غيرها .
ويمكن القول بأن ما كان حجة في وقت يجب أن يكون حجة في جميع الأوقات، فإذا لم يكن اجتهاد علماء المدينة حجة في عصر الصحابة، لأن الصحابة لم يكونوا يحتجون على بعضهم باجتهاد أنفسهم، وجب أن لا يكون ذلك حجة في عصر آخر، والله أعلم.