عبد السلام مازن ابو خلف
12-11-2009, 20:32
بسم الله الرحمن الرحيم
المدراسة الرابعة
(الفصل الثالث) من الباب الأول من المقدمة.
(في أحكامه) أي في أحكام الحكم من حيث تحققه في الإيجاب، فللإيجاب سبعة أحكام.
(وفيه) سبعة (مسائل) وهي أحكام الإيجاب السبعة؛ فخصص لكل مسألة حكما:
المسألة (الأولى):وهي أن الوجوب ينقسم باعتبار المحكوم به إلى "معين" و"مخير".
(الوجوب قد يتعلق بمعين) أي بفعل معين (وقد يتعلق بمبهم) أي بفعل مبهم (من أمور معينة)؛ فالخطاب يقتضي إيجاب واحد لا بعينه من الامور المعينة والمكلف مخير في تحقيق الوجوب في أي فرد من هذه الافراد المعينة (كخصال الكفارة) وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة (ونصب أحد المستعدين للإمامة) كما إذا مات الامام الاعظم ووجدنا اثنين أو أكثر قد استعدوا للإمامة واجتمعت فيهم الشرائط، فإنه يجب على الناس تنصيب واحد منهم لا أكثر.
(وقالت المعتزلة: الكل واجب) أي أن الخطاب يقتضي تعلق الإيجاب بكل واحد من هذه الامور المعينة (على معنى: أنه لا يجوز الإخلال بالجميع ولا يجب الإتيان به) أي بالجميع، فإذا فعلها كلها أثيب ثواب واجب واحد وإذا فعل واحدا منها فقد فعل ما وجب عليه، (فلا خلاف في المعنى) وذلك لاتفاق الفريقين على أن فعل الكل يوجب ثوابا واحدا وترك الكل يوجب عقابا واحدا وفعل واحد فقط هو فعل للواجب.
(وقيل)_والقائل بعض المعتزلة_: (الواجب معين عند الله تعالى دون الناس) أي أن الخطاب يقتضي إيجاب واحد معين عند الله غير معين عند الناس، وأصحاب هذا القول ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: وترى أن المعين عند الله هو ما يختاره المكلف؛فالتعيين عند الله تابع لاختيار المكلفين.
الطائفة الثانية: وترى أن المعين عند الله هو شيء واحد بالنسبة لجميع المكلفين؛فإن اختاره فقد اختار الواجب وإن اختار غيره فقد سقط عنه الواجب لإنه فعل ما يقوم مقامه.
الطائفة الثالثة: وترى أن المعين عند الله متعدد وهو ما يختاره الله للمكلفين؛ حيث يلهم كل مكلف عند الحنث ما عينه له.
(ورُدَّ بأن التعيين يحيل) أي يلزمه إحالة (ترك ذلك الواحد) المعين عند الله، (والتخيير يجوِّزه) أي يلزمه تجويز ترك ذلك الواحد، (وثبت اتفاقا) تجويز تركه (في الكفارة)، (فانتفى الأول) وهو التعيين لاستحالة ثبوت المتنافيين.
(قيل): لا نسلم أن التخيير يجوِّز ترك ذلك الواحد لأنه (يحتمل أن المكلف يختار المعين) بإلهام من الله وهو قول الطائفة الثالثة (أو يعين ما يختاره) وهو قول الطائفة الأولى (أو يسقط) المعين (بفعل غيره) وهو قول الطائفة الثانية .
(وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه) أي في الواجب؛ فيجب على كل جماعة خلاف ما يجب على الأخرى (وهو خلاف النص والإجماع) أما النص فهو الآية الصريحة في تخيير كل مكلف بفعل أيٍ من خصال الكفارة، وأما الإجماع فهو المنعقد على أن أي مكلف لو اختار خصلة من خصال الكفارة لم يتعين عليه ما اختاره بل يجوز له العدول عنها إلى غيرها، فلو كان العبد لا يختار إلا المعين لما جاز العدول عما عينه الله له ابتداءً، وأجيب (عن الثاني: أن الواجب) الذي اقتضاه الخطاب من المكلف (محقق) أي ثابت بنفس الخطاب (قبل اختياره) فاختيار المكلف إنما وقع لإسقاط الوجوب الذي تعلق به؛فوجوب الفعل ثابت قبل اختياره فكيف يتوقف ثبوته عليه، وأجيب (عن الثالث بأن الآتي بأيها) أي بأيٍ من خصال الكفارة (آتٍ بالواجب) لا ببدله (إجماعا) فيكون ما فعله هو الواجب عليه لا بدل عما وجب عليه.
(قيل) تدليلا على مذهبهم بثلاث أدلة:
الأول: (إن أتى بالكل معا فالامتثال) ثابت بالضرورة؛ وهو حاصلٌ (إما بالكل) من حيث هو كل (فالكل واجب) للإمتثال وهو باطل إجماعا أو حاصل (بكل واحد) بمعنى أن كل واحد من الخصال يكون علة مؤثرة استقلالا في الامتثال (فتجتمع مؤثرات) وهي الخصال (على أثر واحد) وهو الامتثال وهو باطل لأن الامتثال بسيط وليس مركبا حتى يصح تعدد العلل المؤثرة في وجوده، أو حاصل (بواحد غير معين) وهو باطل لأن غير المعين وجد في الذهن (ولم يوجد) في الخارج، وما ليس له وجود في الخارج فليس فعلا للمكلف والامتثال إنما يكون بما فعله المكلف فظهر أن الإمتثال لم يحصل بواحد غير معين، أو حاصل (بواحد معين وهو المطلوب).
الثاني: (وأيضا الوجوب) حكم (معين فيستدعي) محلا (معينا) يتعلق به بحيث يوصف هذا المحل بأنه واجب، (وليس) المحل هو (الكل) لما سبق بيانه في الدليل السابق ، (ولا كل واحد) لاستحالة قيام الوصف الواحد بمتعدد، فلم يبق إلا أنه معين.
الثالث والرابع: (وكذا الثواب على الفعل) لجميع الخصال في أنه حاصل إما بالكل أو بكل واحد أو بواحد غير معين وكلها باطلة، (والعقاب على الترك) مثل سابقه . (فإذن الواجب واحد معين.)
(وأجيب على الأول) بجواب جدلي وهو (بأن الامتثال) حاصل (بكل واحد، وتلك) الامور المعينة هي (معرفات) للإمتثال لا مؤثرات فيه، فالعلل العقلية هي التي تؤثر وأما هنا فالعلل شرعية وهي من قبيل المعرفات واجتماع معرفات على معرف واحد واقع لا شيء فيه.
والجواب البرهاني هو أن الإمتثال حاصل بواحد غير معين ونمنع أنه لا وجود له إلا في الذهن بل له وجود في الخارج باعتبار وجود أفراده، فغير المعين متحقق في أفراد معينة يوجد بوجودها من المكلف؛ فالمكلف قد فعله بفعل ما يحققه وهو تلك الأفراد المعينة.
وأجيب (عن الثاني بأنه) أي الوجوب المعين (يستدعي) محلا معينا وهو (أحدهما لا بعينه، كالمعلول المعين) كالضوء مثلا (يستدعي علة) كالشمس أو المصباح أو النار (من غير تعيين) لإحداها، وأجيب (عن الأخيرين بأنه يستحق ثواب) فعلِ (وعقاب) تركِ (أمورٍ معينةٍ لا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها) كلها، وحاصل الجواب: أنه يستحق ثوابَ وعقابَ فعلِ وتركِ واحدٍ غير معين من أمور معينة.
(تذنيب) _وهو تتمة مسألة وليس فرعا عنها_ : (الحكم) الواجب كما أنه قد يتعلق بأمور متعددة على سبيل التخيير فهو أيضا (قد يتعلق) بأمور متعددة (على) سبيل (الترتيب)، وينقسم هذا الحكم باعتبار حكم الجمع بين متعلقاته المتعددة إلى ثلاثة أقسام:
الأول:الحرمة؛ (فيحرم الجمع) بينها (كأكل المذكَّى والميتة)؛فالخطاب قد تعلق بأكل المذكى أولا ثم بأكل الميتة اضطرارا ويحرم الجمع بينهما.
الثاني:(أو) الإباحة حيث (يباح) الجمع بينها وذلك (كالوضوء والتيمم) لمن تيمم خوف ضررٍ ثم توضأ.
الثالث:(أو) الندب حيث (يسن) الجمع بينها (ككفارة) المجامع في شهر (الصوم) حيث يجب عليه اعتاق رقبة فإن عجز فصيام شهرين فإن عجز فإطعام ستين مسكينا ويسن الجمع بينها.
المسألة (الثانية): ينقسم الوجوب باعتبار وقت فعله إلى موسع و مضيق.
(الوجوب إن تعلق بوقت) أي بفعل مؤقت بوقت؛ (فإما أن يساوي) الوقتُ (الفعلَ كصوم رمضان وهو) الواجب (المضيق، أو ينقص) الوقت (عنه فيمنعه) أي يمنع إيقاع الفعل بتمامه في الوقت (من يمنع التكليف بالمحال) عقلاً (إلا) إذا كان التكليف به (لغرض القضاء) أي بقصد ابتداء الفعل فيه ثم إكماله قضاءً بعد الوقت فإنه جائز عقلا وواقع شرعا؛ ومثال الوجوب المضيق (كوجوب الظهر على الزائل عذره) كالجنون والصغر والحيض (وقد بقي) من الوقت (قدر تكبيرة)، (أو يزيد) الوقتُ (عليه) أي على الفعل فيسعه مرارا وهو الوجوب الموسع.
وقد اختلف العلماء فيما يقتضيه هذا الإيجاب على خمسة مذاهب:
المذهب الأول: (فيقتضي) أي الوجوب الموسع _على المختار_ (إيقاع الفعل في أي جزء من أجزائه) أي من أجزاء الوقت (بعدم أولوية البعض) أي بدليل عدم أولوية بعض الأوقات على بعض؛ فإيقاع الفعل يجب في جزءٍ واحد غير معين وأما الإيجاب أي أصل الوجوب فهو يتعلق في ذمة المكلف في أول وقت الفعل.
المذهب الثاني: (وقال المتكلمون):نتفق مع المذهب الأول في أن الإيجاب تعلق بالفعل في أول الوقت دون وجوب إيقاعه فيه ولكننا نقول أيضا أنه لا (يجوز تركه في) الوقت (الأول) إلا (بشرط العزم في) الوقت (الثاني وإلا لجاز ترك الواجب بلا بدل، ورُدَّ بأن العزم لو صلح بدلا لتأدى الواجب به) إذ من شأن البدل أن يقوم مقام المبدل منه ولو قام مقامه لما طولب المكلف بالفعل وهو باطل. ورد أيضاً (بأنه لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل منه واحد) وهو باطل لأن البدل من شأنه أن يوافق المبدل منه تعددا واتحادا، فقولهم باطل إلا إن قالوا أن العزم يجب في الجزء الذي لم يفعل فيه الفعل ثم ينسحب هذا العزم الواجب على كل الأوقات التي لم يحصل فيها الفعل وبذلك يتحد البدل مع المبدل منه.
المذهب الثالث: (ومنا) أي الشافعية (من قال):أن الإيجاب يقتضي أن (يختص) إيقاع الفعل (بالأول) أي بالجزء الأول من الوقت، وإيقاعه (في الآخر) أي بعد انتهاء الجزء الأول (قضاء).
المذهب الرابع: (وقالت الحنفية) أن الإيجاب يقتضي أن (يختص) إيقاع الفعل (بالآخر) أي بآخر جزء من الوقت الموسع وإيقاعه (في الأول) أي كل ما سوى الجزء الأخير (تعجيل)، وقال الشراح أن هذا مذهب بعض الحنفية وجمهور الحنفية يقولون أن سبب وجوب أداء الفعل هو جزء الوقت الذي يليه أداء الفعل فإن لم يبق من أجزاء الوقت إلا جزء واحد كان هذا الجزء الأخير هو سبب وجوب الفعل، وحاصل الكلام أن سبب الوجوب عند الحنفية هو كل جزء على البدل إن اتصل به الأداء وإلا فآخر جزء .
المذهب الخامس: (وقال الكرخي):الشخص (الآتي) بالفعل في (الأول) أي ما سوى الجزء الأخير (إن بقي) إلى آخر الوقت (على صفة الوجوب) أي على صفة التكليف، (يكون ما فعله واجبا) معجلا، (وإلا فنافلة)، ولعل ذلك لاعتباره أن آخر الوقت معتبر في سقوط التكليف بالفعل كما هو معتبر في إيجابه؛ أي أن المعتبر في كون الفعل الواقع واجبا هو تعلق وجوب الإيقاع به لا أصل الوجوب فقط.
والحنفية (احتجوا بأنه لو وجب) إيقاع الفعل في (أول الوقت لم يجز تركه) لأن شأن الواجب أن لا يجوز تركه والواقع بخلاف ذلك أي يجوز تركه، (قلنا: المكلف مخير بين أدائه في أيِّ جزء من أجزائه) فتعيينكم الجزء الأخير للوجوب تحكم،فوجوب إيقاع الفعل في الجزء الأخير ليس من مقتضى الإيجاب بل من غيره،والحاصل أنه كما أن الواجب المخير يقتضي إيجاب واحد من الأفعال المعينة لا على التعيين فكذلك الواجب الموسع يقتضي إيجاب الفعل في واحد من الأزمان المعينة لا على التعيين فالذي ينافي الوجوب الموسع هو ترك الفعل في جميع أجزاء الوقت أما تركه في بعض الأجزاء مع الإتيان به في البعض الآخر فلا ينافي أن الفعل واجب في الوقت الذي لم يفعل فيه.
(فرع):الواجب (الموسع) قد يكون الوقت فيه معلوما أي محدد الطرفين وذلك كالصلاة و(قد) يكون غير معلوم النهاية بحيث (يسعه العمر) كله وذلك (كالحج وقضاء الفائت، فله التأخير ما لم يتوقع فواته إن أخر) أي فوات وقت فعله إن أخره وذلك بعجزه عن الفعل (لمرض أو كبر) سن،فإذا توقع فوات الوقت إن أخر القيام بالفعل ولم يفعله كان آثما.
المدراسة الرابعة
(الفصل الثالث) من الباب الأول من المقدمة.
(في أحكامه) أي في أحكام الحكم من حيث تحققه في الإيجاب، فللإيجاب سبعة أحكام.
(وفيه) سبعة (مسائل) وهي أحكام الإيجاب السبعة؛ فخصص لكل مسألة حكما:
المسألة (الأولى):وهي أن الوجوب ينقسم باعتبار المحكوم به إلى "معين" و"مخير".
(الوجوب قد يتعلق بمعين) أي بفعل معين (وقد يتعلق بمبهم) أي بفعل مبهم (من أمور معينة)؛ فالخطاب يقتضي إيجاب واحد لا بعينه من الامور المعينة والمكلف مخير في تحقيق الوجوب في أي فرد من هذه الافراد المعينة (كخصال الكفارة) وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة (ونصب أحد المستعدين للإمامة) كما إذا مات الامام الاعظم ووجدنا اثنين أو أكثر قد استعدوا للإمامة واجتمعت فيهم الشرائط، فإنه يجب على الناس تنصيب واحد منهم لا أكثر.
(وقالت المعتزلة: الكل واجب) أي أن الخطاب يقتضي تعلق الإيجاب بكل واحد من هذه الامور المعينة (على معنى: أنه لا يجوز الإخلال بالجميع ولا يجب الإتيان به) أي بالجميع، فإذا فعلها كلها أثيب ثواب واجب واحد وإذا فعل واحدا منها فقد فعل ما وجب عليه، (فلا خلاف في المعنى) وذلك لاتفاق الفريقين على أن فعل الكل يوجب ثوابا واحدا وترك الكل يوجب عقابا واحدا وفعل واحد فقط هو فعل للواجب.
(وقيل)_والقائل بعض المعتزلة_: (الواجب معين عند الله تعالى دون الناس) أي أن الخطاب يقتضي إيجاب واحد معين عند الله غير معين عند الناس، وأصحاب هذا القول ثلاث طوائف:
الطائفة الأولى: وترى أن المعين عند الله هو ما يختاره المكلف؛فالتعيين عند الله تابع لاختيار المكلفين.
الطائفة الثانية: وترى أن المعين عند الله هو شيء واحد بالنسبة لجميع المكلفين؛فإن اختاره فقد اختار الواجب وإن اختار غيره فقد سقط عنه الواجب لإنه فعل ما يقوم مقامه.
الطائفة الثالثة: وترى أن المعين عند الله متعدد وهو ما يختاره الله للمكلفين؛ حيث يلهم كل مكلف عند الحنث ما عينه له.
(ورُدَّ بأن التعيين يحيل) أي يلزمه إحالة (ترك ذلك الواحد) المعين عند الله، (والتخيير يجوِّزه) أي يلزمه تجويز ترك ذلك الواحد، (وثبت اتفاقا) تجويز تركه (في الكفارة)، (فانتفى الأول) وهو التعيين لاستحالة ثبوت المتنافيين.
(قيل): لا نسلم أن التخيير يجوِّز ترك ذلك الواحد لأنه (يحتمل أن المكلف يختار المعين) بإلهام من الله وهو قول الطائفة الثالثة (أو يعين ما يختاره) وهو قول الطائفة الأولى (أو يسقط) المعين (بفعل غيره) وهو قول الطائفة الثانية .
(وأجيب عن الأول بأنه يوجب تفاوت المكلفين فيه) أي في الواجب؛ فيجب على كل جماعة خلاف ما يجب على الأخرى (وهو خلاف النص والإجماع) أما النص فهو الآية الصريحة في تخيير كل مكلف بفعل أيٍ من خصال الكفارة، وأما الإجماع فهو المنعقد على أن أي مكلف لو اختار خصلة من خصال الكفارة لم يتعين عليه ما اختاره بل يجوز له العدول عنها إلى غيرها، فلو كان العبد لا يختار إلا المعين لما جاز العدول عما عينه الله له ابتداءً، وأجيب (عن الثاني: أن الواجب) الذي اقتضاه الخطاب من المكلف (محقق) أي ثابت بنفس الخطاب (قبل اختياره) فاختيار المكلف إنما وقع لإسقاط الوجوب الذي تعلق به؛فوجوب الفعل ثابت قبل اختياره فكيف يتوقف ثبوته عليه، وأجيب (عن الثالث بأن الآتي بأيها) أي بأيٍ من خصال الكفارة (آتٍ بالواجب) لا ببدله (إجماعا) فيكون ما فعله هو الواجب عليه لا بدل عما وجب عليه.
(قيل) تدليلا على مذهبهم بثلاث أدلة:
الأول: (إن أتى بالكل معا فالامتثال) ثابت بالضرورة؛ وهو حاصلٌ (إما بالكل) من حيث هو كل (فالكل واجب) للإمتثال وهو باطل إجماعا أو حاصل (بكل واحد) بمعنى أن كل واحد من الخصال يكون علة مؤثرة استقلالا في الامتثال (فتجتمع مؤثرات) وهي الخصال (على أثر واحد) وهو الامتثال وهو باطل لأن الامتثال بسيط وليس مركبا حتى يصح تعدد العلل المؤثرة في وجوده، أو حاصل (بواحد غير معين) وهو باطل لأن غير المعين وجد في الذهن (ولم يوجد) في الخارج، وما ليس له وجود في الخارج فليس فعلا للمكلف والامتثال إنما يكون بما فعله المكلف فظهر أن الإمتثال لم يحصل بواحد غير معين، أو حاصل (بواحد معين وهو المطلوب).
الثاني: (وأيضا الوجوب) حكم (معين فيستدعي) محلا (معينا) يتعلق به بحيث يوصف هذا المحل بأنه واجب، (وليس) المحل هو (الكل) لما سبق بيانه في الدليل السابق ، (ولا كل واحد) لاستحالة قيام الوصف الواحد بمتعدد، فلم يبق إلا أنه معين.
الثالث والرابع: (وكذا الثواب على الفعل) لجميع الخصال في أنه حاصل إما بالكل أو بكل واحد أو بواحد غير معين وكلها باطلة، (والعقاب على الترك) مثل سابقه . (فإذن الواجب واحد معين.)
(وأجيب على الأول) بجواب جدلي وهو (بأن الامتثال) حاصل (بكل واحد، وتلك) الامور المعينة هي (معرفات) للإمتثال لا مؤثرات فيه، فالعلل العقلية هي التي تؤثر وأما هنا فالعلل شرعية وهي من قبيل المعرفات واجتماع معرفات على معرف واحد واقع لا شيء فيه.
والجواب البرهاني هو أن الإمتثال حاصل بواحد غير معين ونمنع أنه لا وجود له إلا في الذهن بل له وجود في الخارج باعتبار وجود أفراده، فغير المعين متحقق في أفراد معينة يوجد بوجودها من المكلف؛ فالمكلف قد فعله بفعل ما يحققه وهو تلك الأفراد المعينة.
وأجيب (عن الثاني بأنه) أي الوجوب المعين (يستدعي) محلا معينا وهو (أحدهما لا بعينه، كالمعلول المعين) كالضوء مثلا (يستدعي علة) كالشمس أو المصباح أو النار (من غير تعيين) لإحداها، وأجيب (عن الأخيرين بأنه يستحق ثواب) فعلِ (وعقاب) تركِ (أمورٍ معينةٍ لا يجوز ترك كلها ولا يجب فعلها) كلها، وحاصل الجواب: أنه يستحق ثوابَ وعقابَ فعلِ وتركِ واحدٍ غير معين من أمور معينة.
(تذنيب) _وهو تتمة مسألة وليس فرعا عنها_ : (الحكم) الواجب كما أنه قد يتعلق بأمور متعددة على سبيل التخيير فهو أيضا (قد يتعلق) بأمور متعددة (على) سبيل (الترتيب)، وينقسم هذا الحكم باعتبار حكم الجمع بين متعلقاته المتعددة إلى ثلاثة أقسام:
الأول:الحرمة؛ (فيحرم الجمع) بينها (كأكل المذكَّى والميتة)؛فالخطاب قد تعلق بأكل المذكى أولا ثم بأكل الميتة اضطرارا ويحرم الجمع بينهما.
الثاني:(أو) الإباحة حيث (يباح) الجمع بينها وذلك (كالوضوء والتيمم) لمن تيمم خوف ضررٍ ثم توضأ.
الثالث:(أو) الندب حيث (يسن) الجمع بينها (ككفارة) المجامع في شهر (الصوم) حيث يجب عليه اعتاق رقبة فإن عجز فصيام شهرين فإن عجز فإطعام ستين مسكينا ويسن الجمع بينها.
المسألة (الثانية): ينقسم الوجوب باعتبار وقت فعله إلى موسع و مضيق.
(الوجوب إن تعلق بوقت) أي بفعل مؤقت بوقت؛ (فإما أن يساوي) الوقتُ (الفعلَ كصوم رمضان وهو) الواجب (المضيق، أو ينقص) الوقت (عنه فيمنعه) أي يمنع إيقاع الفعل بتمامه في الوقت (من يمنع التكليف بالمحال) عقلاً (إلا) إذا كان التكليف به (لغرض القضاء) أي بقصد ابتداء الفعل فيه ثم إكماله قضاءً بعد الوقت فإنه جائز عقلا وواقع شرعا؛ ومثال الوجوب المضيق (كوجوب الظهر على الزائل عذره) كالجنون والصغر والحيض (وقد بقي) من الوقت (قدر تكبيرة)، (أو يزيد) الوقتُ (عليه) أي على الفعل فيسعه مرارا وهو الوجوب الموسع.
وقد اختلف العلماء فيما يقتضيه هذا الإيجاب على خمسة مذاهب:
المذهب الأول: (فيقتضي) أي الوجوب الموسع _على المختار_ (إيقاع الفعل في أي جزء من أجزائه) أي من أجزاء الوقت (بعدم أولوية البعض) أي بدليل عدم أولوية بعض الأوقات على بعض؛ فإيقاع الفعل يجب في جزءٍ واحد غير معين وأما الإيجاب أي أصل الوجوب فهو يتعلق في ذمة المكلف في أول وقت الفعل.
المذهب الثاني: (وقال المتكلمون):نتفق مع المذهب الأول في أن الإيجاب تعلق بالفعل في أول الوقت دون وجوب إيقاعه فيه ولكننا نقول أيضا أنه لا (يجوز تركه في) الوقت (الأول) إلا (بشرط العزم في) الوقت (الثاني وإلا لجاز ترك الواجب بلا بدل، ورُدَّ بأن العزم لو صلح بدلا لتأدى الواجب به) إذ من شأن البدل أن يقوم مقام المبدل منه ولو قام مقامه لما طولب المكلف بالفعل وهو باطل. ورد أيضاً (بأنه لو وجب العزم في الجزء الثاني لتعدد البدل والمبدل منه واحد) وهو باطل لأن البدل من شأنه أن يوافق المبدل منه تعددا واتحادا، فقولهم باطل إلا إن قالوا أن العزم يجب في الجزء الذي لم يفعل فيه الفعل ثم ينسحب هذا العزم الواجب على كل الأوقات التي لم يحصل فيها الفعل وبذلك يتحد البدل مع المبدل منه.
المذهب الثالث: (ومنا) أي الشافعية (من قال):أن الإيجاب يقتضي أن (يختص) إيقاع الفعل (بالأول) أي بالجزء الأول من الوقت، وإيقاعه (في الآخر) أي بعد انتهاء الجزء الأول (قضاء).
المذهب الرابع: (وقالت الحنفية) أن الإيجاب يقتضي أن (يختص) إيقاع الفعل (بالآخر) أي بآخر جزء من الوقت الموسع وإيقاعه (في الأول) أي كل ما سوى الجزء الأخير (تعجيل)، وقال الشراح أن هذا مذهب بعض الحنفية وجمهور الحنفية يقولون أن سبب وجوب أداء الفعل هو جزء الوقت الذي يليه أداء الفعل فإن لم يبق من أجزاء الوقت إلا جزء واحد كان هذا الجزء الأخير هو سبب وجوب الفعل، وحاصل الكلام أن سبب الوجوب عند الحنفية هو كل جزء على البدل إن اتصل به الأداء وإلا فآخر جزء .
المذهب الخامس: (وقال الكرخي):الشخص (الآتي) بالفعل في (الأول) أي ما سوى الجزء الأخير (إن بقي) إلى آخر الوقت (على صفة الوجوب) أي على صفة التكليف، (يكون ما فعله واجبا) معجلا، (وإلا فنافلة)، ولعل ذلك لاعتباره أن آخر الوقت معتبر في سقوط التكليف بالفعل كما هو معتبر في إيجابه؛ أي أن المعتبر في كون الفعل الواقع واجبا هو تعلق وجوب الإيقاع به لا أصل الوجوب فقط.
والحنفية (احتجوا بأنه لو وجب) إيقاع الفعل في (أول الوقت لم يجز تركه) لأن شأن الواجب أن لا يجوز تركه والواقع بخلاف ذلك أي يجوز تركه، (قلنا: المكلف مخير بين أدائه في أيِّ جزء من أجزائه) فتعيينكم الجزء الأخير للوجوب تحكم،فوجوب إيقاع الفعل في الجزء الأخير ليس من مقتضى الإيجاب بل من غيره،والحاصل أنه كما أن الواجب المخير يقتضي إيجاب واحد من الأفعال المعينة لا على التعيين فكذلك الواجب الموسع يقتضي إيجاب الفعل في واحد من الأزمان المعينة لا على التعيين فالذي ينافي الوجوب الموسع هو ترك الفعل في جميع أجزاء الوقت أما تركه في بعض الأجزاء مع الإتيان به في البعض الآخر فلا ينافي أن الفعل واجب في الوقت الذي لم يفعل فيه.
(فرع):الواجب (الموسع) قد يكون الوقت فيه معلوما أي محدد الطرفين وذلك كالصلاة و(قد) يكون غير معلوم النهاية بحيث (يسعه العمر) كله وذلك (كالحج وقضاء الفائت، فله التأخير ما لم يتوقع فواته إن أخر) أي فوات وقت فعله إن أخره وذلك بعجزه عن الفعل (لمرض أو كبر) سن،فإذا توقع فوات الوقت إن أخر القيام بالفعل ولم يفعله كان آثما.