بسم الله الرّحمن الرحيم
الأخ الكريم أبو محمد،
سؤالك: (ما معنى ان تعلق صفة السمع والبصر بذوات الكائنات وصفاتها الوجودية تنجيزي حادث وصلوحي قديم؟ كيف يكون تنجيزياً حادثاً)
الجواب: الله تعالى متّصف أزلاً بالسمع والبصر، والسمع والبصر عند أكثر العلماء لا يتعلّقان إلا بالموجود، أيّ أنّ كلّ موجود فإنّ الله تعالى يراه ويسمعه، وفي الأزل ليس ثمّة إلا الله تعالى الموصوف بصفاته العليّة. فالله تعالى في الأزلّ يرى ويسمع ذاته العليّ الموصوف بصفات الكمال. ثمّ خلق الله تعالى كلّ موجود سواه، وهو ما عبرت عنه بذوات الكائنات وصفاتها الوجودية، فلمّا وجدت هذه الكائنات تعلّق سمع الله تعالى وبصره بها عند وجودها. ولم يكن متعلّقاً بها قبل ذلك سمعه وبصره. ولا يقال لم تكن منكشفة له سبحانه وتعالى، أو أنه زاد في المنكشف له شيء، لأنّ هذه الكائنات قبل أن يخلقها الله تعالى كان معلومة له علماً تاماً، ومنكشفة له انكشافاً تاماً.
وقد استشكل بعض العلماء اعتبار أن يكون تعلّق السمع والبصر وهو تعلّق انكشاف على ما يشرحه الأشاعرة، استشكلوا أن يكون تعلق السمع والبصر تنجيزياً حادثاً، لأنّه إما أن يكون ما انكشف له تعالى بالسمع والبصر منكشفاً قبلُ بالعلم أو لا. فإن كان الأول فلم يحدث انكشاف البتة، واعتبار حدوثه تحصيل للحاصل، والثاني محال.
فاقترح بعضهم حلاً وهو اعتبار تعلّق السمع والبصر تنجيزياً قديماً فحسب كتعلق العلم.
وحقق آخرون أنّ السمع هو عين العلم بالمسموعات، والبصر هو عين العلم بالمبصرات، وعليه فيكون تعلقهما هو عين تعلّق العلم، أي تنجيزياً قديماً.
واعلم أنّ هذه المسألة من أعوص المسائل، وأخطرها. وعلى من يخوض فيها أن يتوخى الحيطة والحذر. لأنّ هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها، إنما هي اجتهادات للعلماء مبنية على غلبة ظنّ، وليست يقينية. أما القول الأوّل وهو ما أوردته أنت وسألت عنه، وعليه سؤالات قويّة. وأمّا القول الثاني فيشكل فيه تصوّر المعدوم مبصراً ومسموعاً. وأما القول الثالث ففيه أنه إعادة لكلّ من صفتي السمع والبصر إلى صفة أخرى هي العلم، وهو ترك لظاهر الشريعة، فلا بد من امتلاك دليل معتبر شرعاً لترك هذا الظاهر.
وينبغي أن يتبع أمثالنا قول إمام مجتهد فيما اختاره، ولا يتصدّى للنظر والاختيار بنفسه قبل أن يحقق هذا العلم ويصل فيه رتبة تؤهله لذلك، فمن خاض فيما لا يعلم ربّما زلّت قدمه وهو لا يدري، وفي هكذا مباحث ينبغي أن يتحرّز الفطن عن أن يقول على الله تعالى ما لا يعلم.
ولو قال المرء إنّ الله تعالى عليم سميع بصير، وعلمه محيط بجميع المعلومات، وبصره محيط بجميع المبصرات، وسمعه محيط بجميع المسموعات. وأطلق القول بأنّ المعلومات هي كلّ واجب وجائز ومستحيل. وتعلق العلم بها تعلق تنجيزي قديم. ثمّ قال والمسموعات هي كلّ ما من شأنه أن يسمع، والمبصرات كلّ ما من شأنه أن يبصر، بقطع النظر عن كونها موجودة أو معدومة، والله تعالى منزه عن أن يشبه علمه أو سمعه أو بصره صفات المخلوقات، أو أن تشبه تعلّقات صفاته تعلّقات صفات المخلوقات. لأتى بالقدر المقطوع به، ولم يقصّر إن ترك ما سوى ذلك من الاجتهادات التفصيلية، إن شاء الله تعالى.
ومن اختار من ثلاثة الأقوال المذكورة للعلماء قولاً تبعاً لإمام معيّن فهو إن شاء الله على طريق السلامة. ومن أراد أن يزيد في البحث والنظر، فإن كان من العوامّ فليدع ذلك لأهله، وإن كان عالماً أو طالب علم بحاثة فطين فليتوخ الحذر. والله تعالى أعلم بالصواب. وهو تعالى المسؤول أن يفتح علينا ما أغلق، وأن يهدينا إلى طريق الرّشاد.
سؤالك: (الثاني: ما معنى أن للعلم تعلقين: أحدهما تنجيزي قديم والآخر تنجيزي حادث عند حدوث المسموعات والمبصرات؟)
الجواب: تعلّق العلم يا أخ أبو محمد تنجيزي قديم فحسب بجميع الواجبات والجائزات والمستحيلات. فلا يكون سؤالك في محلّه. فإن كنت تقصد تعلق السمع والبصر بقرينة قولك المسموعات والمبصرات، فهو عين سؤالك الأوّل.
وأرجو يا أخي ألا تعتب على أحد فنحن مشغولون جداً، وبصراحة أنا حين أجد أنّ السؤال قد تمت مناقشته في المنتدى بالتفصيل مثل أسئلتك هذه، فأكتفي بما هو موجود، وأظن الإخوة الكتاب في المنتدى يفعلون ذلك، ويشتغلون بالجديد والأهمّ. والله تعالى الموفق.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين