المسألة الشيعية كيف يمكن علاجها؟ :رسالة مفتوحة للسيد حسن نصر الله
البروفيسور أبو يعرب المرزوقي
أستاذ الفلسفة في الجامعة التونسية
علتان تحولان دون المرء وعدم الكلام في المسألة الشيعية بعد أن استفحل الخلاف بين مذهبي الأمة الرئيسيين بفعل تأجيج الأعداء لمرض عضال أصاب الأمة منذ الفتنة الكبرى وحان أوان علاجه الجذري حتى لا تذهب ريح الأمة:
فأما العلة الأولى فهي ما وصل إليه حال المسلمين في هذا الظرف العصيب وضرورة علاج العلاقة بين السنة والشيعة علاجا عقليا هادئا علنا نصل إلى فهم الداء فنكتشف الدواء. وهو ما كنت سأعرضه على السادة الحاضرين لندوة تقريب المذاهب التي دعيت إليها ولم احضر بسبب ما كنت أتوقعه من انحصار اللقاء في أعراض المرض السياسية من المسألة وإهمال محددات فهمهما العلمي.
وأما العلة الثانية فهي ما سمعته من رد تفوه به السيد حسن نصر الله في إحدى خطبه الأخيرة متكلما عن عالمين سنيين جليلين هما القاضي أبو بكر بن العربي وعبد الرحمن بن خلدون لم يذكرهما بالاسم لكنه لمح إليهما تلميح اتهام معتبرا رأييهما في مقتل الحسين تبريرا لجريمة زياد بن معاوية.
اتهام عالمين جليلين لا مبرر له
يعلم الجميع أنه لا يوجد بين السنة من يمكن أن يتهم بالحط من شأن آل البيت خلال كل التاريخ الإسلامي. فهم يعتبرون عليا خليفة راشدا. وهم يضعون ابنيه في المنزلة التي يضعهما فيها الرسول الأكرم. وهم ينزلون الزهراء المنزلة التي كانت لها في قلب أبيها. وهم لا يسلمون بشرعية معاوية بل هو عندهم العلامة على نهاية الخلافة الراشدة. وهم يجمعون على تفسيق يزيد. والأهم من ذلك كله أخيرا أنهم لا يوظفون آل البيت في معارك سياسية داخلية لتأجيج الحرب بين قبائل الأمة (بين آل البيت وآل أبي سفيان في قريش) أو بين شعوبها (الشعوبية بين العرب والفرس في الأمة) بل وضعوا نظريات ثورية لتحرير الأمة من أدوائها لكي تتمكن من الاستئناف السوي بعد الفتنة: نظرية عدم التأثيم التي حللها ابن خلدون في المقدمة.
لا أحد من السنة خاصتها وعامتها أقدم على هذه التجارة لأنها خاسرة في الدنيا والآخرة حتى عند الظن بأنها رابحة في احداهما على حساب اخراهما. ذلك أنهم ينزهونهم عن مثل هذه الدنايا. وفي هذا السياق جاء كلام القاضي أبي بكر ابن العربي وكلام العلامة ابن خلدون في مقتل الحسين بن الإمام علي كرم الله وجهه. فالأول لم يقل إن الحسين قد قتل بسيف جده بل قال قتل بشرع جده. والفرق شاسع. والأمانة واجبة. على العلماء خاصة. وهو لم يتهمه بالخروج بل بتكليف نفسه ما ليس بوسعها. فلا يمكن لقاض من حجم ابن العربي أن يزل مثل هذه الزلة. لا يمكن أن يتهم حفيد رسول الله بالخروج بمعناه عند الخوارج خاصة ويزيد يفسقه السنة بإجماع علمائهم. إنما هو قد اعتبره خرج عن سنة الرسول في الدعوة ومقاومة الشر: فلو اتبع الحسين سنة الرسول في مقاومة الشر لطبق أولى القواعد أعني تحقيق شروط النجاح فيه حتى لا يعطي للشر فرصة الانتصار على الخير. لذلك فقد مر الرسول الكريم نفسه بالمراحل الثلاث في استراتيجية مقاومة الشر: بدأها بالقلب ثم انتقل إليها باللسان ليصل في الغاية إلى مرحلة المقاومة باليد بعد أن حقق شروط النجاح.
أما ابن خلدون فهو قد فسر رأي ابن العربي بهذا المعنى الذي وصفنا فقال في إطار تبرئة الحسين رضي الله عنه مما قد يظن به من طلب للحكم معتبرا إياه قد ثار على فسق يزيد:" وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره. فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها في نفسه بأهليته وشوكته. فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة. وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين" (المقدمة دار الكتاب اللبناني ط.3 ص. 382-3 بيروت ص1967).
هل في هذا اتهام للحسين بالخروج وهل هو تبرير لمقتله؟ أم هو فهم لما حصل وتعليل علمي؟ أليس ذلك الشرط الضروري والكافي لتحرير المسلمين من عقدهم حتى تعود الأخوة بين فرق الأمة بعد فهم العلل الموضوعية لما حصل وتبادل العذر بين الفرقاء؟ فابن خلدون لم يبرئ يزيد بل فسقه بل أكد على إجماع الكافة على فسقه ولم يتهم الحسين بالخروج بمعناه عند الخوارج بل هو اعتبره ثائرا ضد الفسق ولم يحصر المسألة في الحسين بل هو اعتبر شيعة آل البيت من فضلاء الأمة الذين شاركوا السنة في الحكم بفسق يزيد وضرورة السعي لإصلاح شأن الأمة. ومعنى ذلك أن الأمة لم تزل عندئذ على وحدتها فلم يثر الحسين لأنه شيعي بل لأنه مسلم فحسب. أما القول إنه قتل بشرع جده وليس بسيف جده كما ورد في الخطاب فإنه يعني أنه لم يطبق سنة رسول الله في الدعوة إلى الحق التي تشترط توفير الأدوات التي تحقق الغايات: وهو ما اعتبره ابن خلدون خطأ سياسيا وليس خطأ شرعيا.
متى سيخرج حزب الله من الازدواجية
ولهذه العلة يصح القول إن حزب الله في لبنان لا يُفهم فعله إلا بالاستراتيجية المحمدية ولا يُفهم خطابه إلا بالاستراتيحية الحسينية: فيكون في شبه فصام يحول دونه والدور الإيجابي المنتظر منه في توحيد الأمة بتحرير التشيع من تهمة الصفوية ويعود به إلى حب آل البيت الخالص وعلى رأسهما محمد ومن أحب أعني كل صحابته وأمهات المؤمنين. فهو لا يقتصر على الثورة على الظلم والعدوان الذي يبني عليه دعايته وهي جزء من الترسيب الذي ينبغي التحرر منه من أجل الغايات الاستراتيجية المشروطة بوحدة الأمة بل هو يحقق شروط النجاح فيها بأسباب العلاج التي تقتضيها سنن التاريخ والكون كما يصفها القرآن الكريم وسنة جد الحسين التي اعتبره ابن خلدون ومن قبله القاضي أبو بكر بن العربي قد قتل بسبب عدم اتباعها في معركة الخير والشر: يتحالف حتى مع أمراء الحرب الأهلية في الحكومة للحفاظ على القدر الأدنى من تماسك الجبهة الداخلية ويحارب بالجمع بين منطق الكر والفكر ومنطق التخندق ردا على عدم توازن القوى بمطاولة الضعيف ماديا والقوي روحيا على العدو الذي اختار استراتيجية المناجزة لضعفه الروحي وقوته المادية.
ما قاله العالمان السنيان حزب الله لم يقله لكنه فعله ما يفيد أكثر منه. فهو قد فهم علة فشل الحسين بمجرد أن برهن على دهائه الاستراتيجي في منازلة أخبث خلق الله تماما كما تعلمنا من السنة المحمدية التي ردت كيد أجدادهم: فالعمل الحقيقي من أجل الخير ليس مجرد الثورة على الشر بل الثورة التي توفر شروط النجاح عليه لئلا تكون فرصة تجعله ينتصر فتتكون العقد ويزداد العداء بسبب الحقد الدفين بين البشر. والمنتصر إذا كان صاحب دعوة إلى الحق لا يحقد ولا يكره بل هو يجمع بين جمال العلم ومهابة الحلم: وتلك هي أخلاق رسول الله كما تبينت يوم الفتح الأكبر فلم لا نجدها في خطاب الشحن الطائفي المليء حقدا وكراهية في المآتم التي تسمى أعيادا ؟ متى يشفى الغليل من يزيد الذي لست أعلم كيف أصبح رمز السنة رغم كونها فسقته بالإجماع ؟
وموقف الجماعة السنية من الخوارج يوم خذلوا رابع الخلفاء الراشدين هو من جنس موقف الجماعة الشيعية من فسق يزيد دلالة على وحدة الأمة. دعوة الحسين لإصلاح شأن الأمة وتحريرها من فسق خليفتها يمكن أن يحسب لهم لو لم يخذلوه عندما احتدم القتال: فالخوراج خذلوا رابع الراشدين فغضبت السنة دون مذهبية وزيد فسق فغضبت الشيعة دون مذهبية أو هكذا عرض ابن خلدون الأمر.
وذلك هو المطلوب في تحقيق وحدة الأمة. فلا يمكن اليوم أن يحالف الشيعي أمريكا لغزو العراق بالفعل ثم يزعم محاربتهم لتحرير فلسطين بالكلام. لكن السنة لم يغيروا حكمهم في الخوارج فهم قد اعتبروهم خارجين من الإسلام لخروجهم على الخليفة الشرعي ولا يزالون على هذا الحكم: وهم الذين يهزمون أمريكا في العراق وفي فلسطين وليست دولهم المحالفة لأمريكا هي التي تقاوم بخلاف زعم دولة الشيعة التي هي نفسها الحليف بالفعل هناك والخصيم بالقول هنا. ولو كانت السنة مذهبية تعتبر عليا شيعيا لكان الخروج عليه لصالحها فأيدته.
السنة لا ينظرون إلى الأمر بهذه العين المذهبية بل هم اعتبروهم خرجوا على أمير المؤمنين الشرعي. ولما كانوا يفسقون زيادا وينفون شرعية معاوية بمجرد اعتباره نهاية الرشد في إمارة المؤمنين فإنه لا يمكن أن يكونوا قد اعتبروا الحسين خارجيا كما يتصور السيد حسن نصر الله في تعريضه غير الأمين لرأي هذين العالمين الجليلين انتقالا من القول إنه قتل بشرع جده إلى القول إنه قتل بسيفه. ولما كنت ممن يحسن الظن بالسيد حسن نصر الله فإني اعتبر ذلك من الزلات التي تنتج عن الغفلة أو السهو. ومن ثم فهي ليست مبررا كافيا لاتهام حسن القصد ممن لا يزال عندي أحد أبطال الأمة دون منازع بل هو عندي الأمل الوحيد في درء الفتنة الطائفية ليس في لبنان وحده بل وكذلك في العراق لو قرر أن يستقل قليلا عن المرجعية التي يصعب أن تتحرر من سياسة الدولة التي قد يكون فيها رجال الدين الصادقين ضحايا للنزعة القومية في إيران كما يحصل عندنا. فمن يدري فلعل غباء بعض العرب يساعد النزعة القومية في إيران في تصديها للنزعة الإحيائية لقيم القرآن في الثقافة الإسلامية ومن ثم التخلص مما هو عربي بإطلاق قصدت السادة المشرفين على التراث الشيعي الذي هو في الجوهر إسلامي ويعتز به كل مسلم أيا كان مذهبه خاصة إذا خلصناه مما سنصف في هذه الرسالة.
تشخيص الداء
ما العلة إذن في بقاء الأمة ضحية للمعاناة منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم ؟ لم بقي المسلمون خلال التاريخ الإسلامي كله ومنذ وفاة الرسول الكريم منقسمين إلى عشر يحاسب الأعشار التسعة الأخرى بذنب لم يرتكبوه بل ارتكبه جدود طالبي الحساب لا المطلوب منهم لو كان يحق لنا أن نحمل الأجيال الخالفة مسؤولية الأجيال السالفة؟ من دعا الحسين واعدا إياه بالقيام بأمره ثم خذله ؟ أليس طالبوا الحساب اليوم هم خلائف أولئك الذين تخلوا عن نصرة الخليفة الرابع وخذلوا حفيدي رسول الله بعد أن غرروا بثانيهما لفشلهم في محاولة التغرير بأولهما الذي نأى بنفسه عن تفريق الأمة ليس خوفا على نفسه بل عملا بسنة جده: لا يمكن أن يمر المرء إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد إلا إذا تحققت الشروط ولم يكن الضرر الذي يمكن أن يحصل أكبر من الضرر الذي يراد إزالته ؟ كل خصائص المسألة الشيعية في ضمير المتشيعين والمتسننين المسألة التي تعصف بالأمة فعلا وانفعالا كانت منذئذ كلها بلا استثناء عائدة إلى عقدة الذنب التي تولدت عن هذه الجريمة التي لطخت تاريخنا جميعا: وطرفاها من السنة حزب يزيد الذين تفسقهم السنة بالإجماع وحزب الحسين الذين تخلوا عنه وكان ينبغي تحميلهم مسؤولية الخذلان عند النزال. وإذن فالسنة حتى في ذلك الحين فضلا عن الأجيال اللاحقة من كلا الفريقين كلهم براء من جريمة يزيد على الأقل لموقفهم المبدئي من تفسيقه أما الشيعة فإن جيل الحسين ليسوا أبرياء من جريمة التخاذل الذي جعلهم يتركون الحسين للمصير المعلوم والأجيال اللاحقة لا تثريب عليها وهي بالانتقام له تقترف ذنوب الأولاد والأحفاد ولا تكفر عن ذنوب الأجداد.
تحميل جمهور المسلمين الحاليين مسؤولية ما لا يد لهم فيه شيعة كانوا أو سنة لأن الذنوب لا تورث والمسؤولية شخصية (كل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) هو إذن نوع من الإسقاط المرضي الذي ينبغي أن يعالج لئلا تذهب ريح المسملين. ذلك أن البحث التاريخي يبين أن جمهور السنة أقل مسؤولية من جمهور الشيعة في ما حصل لحفيدي رسول الله. فهم لم يغرروا بهما ولم يسعوا إلى إيصال أحدهما إلى ما نعلم ليتخلوا عنه في معركة خاسرة بحسابات فقه الحرب الإسلامية فقهها الذي لا يحمل نفسا إلى وسعها. والغريب أن هذا الحكم يصح كذلك على يزيد الثاني أو صدام حسين: فحزبه لم يكن سنيا بل هو يعد من منظور الفقه السني حزبا خارجا عن الدين بإطلاق وعصبية حزبه المؤسسين كانت بالأساس شيعية على الأقل في البدء. ثم إن كل جرائمه كانت ضد السنة. ومع ذلك فلست أدري كيف بات صدام ممثلا للسنة التي عليها أن تدفع الحساب بديلا منه!
وهكذا فإن المذنبين ـ إن صح تحميل الذرية ذنب الأصول ـ لم يكتفوا برمي ذنبهم على غيرهم بل هم خلال كل التاريخ تحركهم إرادة الانتقام من السنة بعد تحميلهم جريرة خذلانهم لآل البيت أمام جور بعض الحكام: تلك هي المسألة الشيعية عند النظر إلى ما انجر عنها من أعراض مرضية يصورونها للعامة حبا لآل البيت وهي في الحقيقة من أدوات الترسيب المضر بالأمة. ذلك أنه لا يمكن أن يكون حب المسلم الحسين أكبر من حبه عليا أو من حبه محمدا: فلم لا يحتفل بطعن علي ولا بوفاة الرسول تسليما بأن طعن عمر أو قتل عثمان يمكن أن يكونا أقل شأنا عند من يميز بين الصحابة بغير وجه حق.
فهل يمكن لعقلاء الأمة وحكمائها ـ ولست أشك في أن السيد نصر الله من أفاضلهم ـ أن يعالجوا هذه الأعراض بمعنيي العلاج فهما وتطبيبا فيكون العدوان الأمريكي والإسرائيلي على الجميع فرصة لتوحيد الأمة من أجل المستقبل وتحريرها من أفسد ما في ماضيها لتلتفت إلى مهماتها الجليلة في قيامها بواجبات الرسالة أعني المساعدة في تحرير البشرية والعالم من شرور العولمة ؟ إلى متى سيظل الشيعي يسعى إلى الانتقام من قتلة الحسين في حين أن قتلته الفعليين هم الذين دعوه ثم خذلوه أعني جدود أصحاب الترسيب الذي يشق وحدة الأمة فيجعل أعداءها يستأسدون عليها ؟
فأما العلاج بمعنى التحليل من أجل الفهم فهو تاريخي ويستهدف حل عقد الماضي في المستويين الحدثي وما حمل عليه من توظيف إيديولوجي في النزعات القومية التي ينبغي أن ننزه منها التشيع الصادق أعني ما يمكن أن نقول إنه المشترك بين جميع المسلمين من حب لآل البيت وفخر ببطولة الخليفة الرابع وصرامته الخلقية وصدقه في صحبة الرسول الكريم وخدمة الرسالة. وأما العلاج بمعنى التشخيص من أجل التطبيب فهو استراتيجي ويستهدف وصف الحلول التي ترجع التآخي بين المسلمين ليفرغوا إلى ما يمكن أن يأتي على مستقبل الإسلام والمسلمين إذا تفرقوا فلم يتصدوا متواصين بالحق ومتواصين بالصبر.
لكن هذين الوجهين ليسا إلا فرعين من المسألة إذ هما تابعان لأصل عميق يمثله وهم مزدوج صدر عن التوظيف الإيديولوجي الذي أفسد التشيع الصادق. فتوظيف التشيع الإيديولوجي في الصراع القومي بين العرب والفرس ثمرة لتعالي الأولين باسم الحاضر وتفاخر الثانين باسم الماضي أصبح أهم مطايا انبعاث الحضارة الفارسية في شكل رد فعل شعوبي على فعل أكثر منه شعوبية. وقد بلغ رد الفعل ذروته في السياسة القومية للعهد الصفوي في صراعه مع الخلافة العثمانية التي كانت سنية بالأساس فاكتمل في القومية بمعناها الغربي الحديث الذي أجج الصراع بين قوميات الإسلام الخمس التي يعود إليها فضل بناء الحضارة الإسلامية الكلاسيكية قصدت العرب والترك والفرس والكرد والبربر فأعماهم عن الخطر الأستراتيجي الذي يتهدد الأمة:
فأما الوهم الأول فهو وهم الخلاف العقدي ويتعلق بمنزلة الحكم في الدين إذ بات الشيعي يعتبره جزءا من العقيدة بل الجزء الأساسي ومن ثم تحول الدين إلى سياسة وأصبحت كل سياسية دينية فعادت الأمة إلى كاثوليكية ذات بابوية متخفية.
وأما الوهم الثاني فهو وهم الخلاف الثقافي الناتج عن ترسيب ردود الفعل التي تميز سلوك كل أقلية تشعر بالغبن ترسيبا قصديا لخدمة الغرض الإيديولوجي لكأن السنة تنفي على علي كونه خليفة راشدا أو لا تحب آل البيت الحب الصادق.
وبين أن فرعي هذا الوهم يتغاذيان: كلاهما يغذي الثاني ويغتذي منه. وبذلك تصبح المسألة الشيعية مربعة الأبعاد. فإما بعداها الأولان فيصدران عن توظيف التشيع توظيفا إيديولوجيا آل إلى الغلو في الدين وفي العداء الثقافي بين أعرق شعبين من شعوب الأمة في بناء الحضارة الإسلامية: منزلة الحكم الذي صار ركنا من الدين وترسيب ردود الفعل ترسيبا صيرها عداء ثقافيا. وأما بعداها الأخيران فينتجان عن عدم علاج الوهمين الأولين اللذين أصبحا دائين ينخران جوهر الإسلام وقيام الأمة أعني: العداء التاريخي والعمى الاستراتيجي بين المسلمين بكل فرقهم.
ولما كان من المعلوم أن علاقة العلية تنقلب عند البحث فيها من منظور مطالب المستقبل بات من الواجب أن نقدم النتائج (مسألة الحكم ومسألة ترسيب ردود الفعل إلى أن صارت صداما ثقافيا) التي ترسبت في الوعي الجمعي على المقدمات (العداء التاريخي والعمى الأستراتيجي) لأنها أصبحت أخطر على مصير الأمة كما يبتين ذلك من تحديد طبيعة الخطر الاستراتيجي الذي يتربص بالمسلمين. لذلك فسنفحص الأبعاد على الترتيب التالي:
1- كيف صار الحكم صراعا عقديا؟
2- كيف صار ترسيب ردود الفعل صراعا ثقافيا؟
3- كيف تكثف العداء التاريخي؟
4- وكيف آل كل ذلك إلى العمى الاستراتيجي؟
5- الخطر الاستراتيجي ما هو ولم لا مرد له من دون وحدة المسلمين؟