تعليقات على تفسير المنار لمحمد رشيد رضا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أفضل الأنبياء والمرسلين، وبعد
فقد أحببت أن أذكر هنا بعض الملاحظات النقدية على تفسير المنار لمحمد رشيد رضا، أهتم فيها ببيان طريقته في التفسير وجهات يتضح بها موافقته أو مخالفته لأهل السنة، وطريقتهم في أخذ العلوم والأحكام، فإن المفسر الذي لا تكون طريقته موافقة لأهل السنة في ذلك، فإنا لا يصح لنا إن نعتمده لطلاب العلم إلا القادرين على النقد والتصويب وقليل ما هم، أما أن نحض الناس عليه ونعتمده في دراساتنا ووتدريسنا، فلا.
وأدعو الله تعالى أن يكون فيما أكتب هنا فائدة لأهل العلم وطلابه...
والله هو المسئول أن يوفقني وإياكم إلى انتهاج نهج أهل الحق، لننال رضاه....
1- قال محمد رشيد رضا في المنار (1/7):"كان من سوء حظ المسلمين أن أكثر ما كتب في التفسير يشغل قارئه عن هذه المقاصد العالية، والهداية السامية، فمنها ما يشغله عن القرآن بمباحث الإعراب وقواعد النحو ونكت المعاني ومصطلحات البيان، ومنها ما يصرفه عنه بجدل المتكلمين وتخريجات الأصوليين واستنباطات الفقهاء المقلدين، وتأويلات المتصوفين، وتعصب الفرق والمذاهب بعضها على بعض، وبعضها يلفته عنه بكثرة الروايات وما مزجت به من خرافات الإسرائيليات، وقد زاد الفخر الرازي صارفا آخر عن القرآن هو ما يورده في تفسيره من العلوم الرياضية والطبيعية وغيرها من العلوم الحادثة في الملة على ما كانت عليه في عهده، كالهيئة الفلكية اليونانية وغيرها وقلده بعض المعاصرين بإيراد مثل ذلك من علوم هذا العصر وفنونه الكثيرة الواسعة، فهو يذكر فيما يسميه تفسير الآية فصولا طويلة بمناسبة كلمة مفردة كالسماء والأرض من علوم الفلك والنبات والحيوان، تصد قارئها عما أنزل الله لأجله القرآن."اهـ
هذا ما قاله محمد رشيد رضا، ولننظر فيما زعمه ونحلل قوله لنصل إلى ما يذهب إليه.
إنه يذكر هذا الكلام أثناء ذكر منهجه وطريقته هو في تأليف التفسير، ولأي هدف يكتب بهذه الطريقة، ولذلك فهو يعترض على هؤلاء الأعلام الذين كان لكل واحد منهم هدف وغاية كان منهجه تبعا لذلك.
ولعل محمد رشيد رضا غفل عن أن الغاية التي حددها هي التي تفرض عليه الطريقة والأسلوب، فلما اختلفت غاية المفسرين اختلفت طريقتهم.
فمن فسر القرآن بالمأثور كان غايته ذكر بيان القرآن بما ورد من الأثر والحديث، والنقل عن المتقدمين.
ومن اهتم بإعراب القرآن إنما كان ذلك لأن هدفه كان بيان أثر الإعراب على معاني القرآن الكريم، واختلاف وجوه الدلالات بناء على ذلك.
ومن اهتم بذكر المسائل الفقهية في تفسيره إنما كان هدفه وغايته إظهار أثر القرآن في اختلاف الفقهاء، أو بيان دلالة القرآن على مذهبه الذي يذهب إليه مالكيا أو شافعيا أو حنفيا أو حنبليا. ولا غضاضة في ذلك على واحد منهم.
وكذلك يقال فيمن اهتم بذكر الإشارات الصوفية والفوائد البلاغية وغيره ذلك....
فلا غضاضة على واحد منهم ما دام ملتزما بالمنهج العلمي الرصين في تفسيره للقرآن، كل واحد منهم بحسب دائرة اهتمامه.
والقارئ لكلام محمد رشيد رضا هنا وفي غير هذا الموضع، يرى تحامله على العديد من المناهج المذكورة، تعصبا منه لرأيه وطريقته، فقد وقع إذن فيما انتقد به الآخرين!!!
ولا يجوز لأحد أن يقول إن هذه المناهج والطرق المختلفة في تفسر القرآن، تبعد القارئ عن معانيه السامية وكلياته المفيدة الدافعة للتمسك بالدين والاعتناء بهدى رسول رب العالمين، إن من يدَّعِ ذلك، فإنما يقع في نفسه ويستنزل مكانته.
فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر أثر هذه الطرق في تحرير المعاني الكلية التي يبحث عنها رشيد رضا في تفسيره، بل إنه لولا استفادته هو نفسه من هؤلاء الذين اعترض عليهم لما استطاع أن يصل إلى ما وصل إليه مما أصاب فيه....
وأما اعتراضه على الإمام الرازي وادعاؤه أنه غلا في إيداع تفسيره مما ذكر، فإنما هو دليل على قصور ف فهمه لما ذهب إليه الإمام الرازي من طريقة في التفسير، وغلو مبني على نزعة وهابية غير خفية في نفس رشيد رضا، ومجرد كلام مكرر لا قيمة له لعبارة صدرت من بعضهم ادعى فيها أن في تفسير الإمام الرازي كل شيء إلا التفسير، وقد وهم من قال ذلك ، بل افترى على الإمام، بل فيه كل شيء مع التفسير كما قاله الإمام المجتهد تقي الدين السبكي، رداً على من زعم ذلك.
وأما مقارنة رشيد رضا لتفسير الإمام الرازي ببعض تفاسير المعاصرين يقصد بهم تفسير الطنطاوي، فهو دليل على عدم استيعاب واضح من رشيد رضا لتفسير الإمام، وإنزال مقصود من مرتبة تفسيره العالية عندما يقارنه بتفسير الطنطاوي.... !!!
وأما ادعاء رشيد رضا أن الإمام ينتهز فرصة ورود كلمة مثل السماء ليورد ما انتهت إليه المعارف التجريبية في عصر الإمام في هذا الموضع، فهو من اغتراره برأيه، ولو تأنى على نفسه لأمسك عن كتابة هذه العبارة التي لا تليق بمنزلة الإمام الرازي. فإن الإمام إنما يورد ما يفيد في توضيح المقصود من الآية المعينة، وإذا ذكر بعض التفاصيل الكونية فإنما ذلك لدفع القارئ إلى تصور هذه المعاني لعل ذلك يحدث في نفسه من الأثر الذي يحضه على التفكير في عظمة الله تعالى فيخضع له وينزل عند أوامره ونواهيه.....
وأما ما أضار إليه من الإسرائيليات فسنتكلم عليه في موضعه إن شاء الله تعالى.
2- قال محمد رشيد رضا في تفسيره (1/101):" وقد أطال الفخر الرازي في استطرادات عديدة ومسائل مستنبطة من لوازم للمعاني قريبة أو بعيدة، ولكنها تشغل مريد الاهتداء بالقرآن. وأطال ابن القيم في أول كتابه (مدارج السالكين) القول في استنباط المسائل منها من طريق الدلالات الثلاث المطابقة والتضمن والالتزام...."(ثم قال) :"والفرق بين هذه المستنبطات –ي مستنبطات ابن القيم- ومستنبطات الرازي أن أكثر تلك في المصطلحات العربية والعقلية والكلامية والفقهية، وأكثر هذه في المقاصد الروحية التعبدية لتلك المصطلحات والعلوم، فهي تزيد قارئها دينا وإيمانا وتقوى، ولكن لا يصح أن يسمى شيء منهما تفسيرا للفاتحة، ولو كنا تعده تفسيرا، لاقتبسناه أو لخصناه في هذه الفوائد."اهـ
فتأمل كيف يمدح تطويل ابن القيم ويعرض عن مدح ما يسميه تطويلا من الإمام الرازي، ويعلل لمدحه هذا بأنه مما يزيد التقوى. وبأن ما أتى به الإمام الرازي في مختلف العلوم فلم يقتصر فيه على علم معين، وأما ما أتى به ابن القيم، فإنما هو في ما يزيد التقوى على حد قوله.
وقد نسي رشيد رضا أن كتاب ابن القيم المسمى بمدارج السالكين في التصوف على طريقة المجسمة، فكان من الملائم أن يورد من الفوائد ما يلائم التصوف، وأما الإمام الرازي فإنما يفسر القرآن، والمطلوب من المفسر أن يورد ما يحتمله اللفظ بحسب القواعد العلمية والأدبية من معانٍ بلا التزام علم دون علم ، ولذلك فقد كانت المعاني التي يوردها الإمام الرازي مختلفة ومتنوعة وترجع إلى علوم ومعارف متعددة الأجناس، منها الكلامية ومناه اللغوية والنحوية، ومنها الفقهية ، ومنها السلوكية والصوفية....الخ.
وأما ما زعمه رشيد رضا أخيرا من أن ذلك لا يسمى تفسيرا، فنقول له: إن كانت تلك المعاني مبينة لدلالات الكلمات والتركيبات القرآنية ، فلم لا يسمى ذلك تفسيرا، ولا يضيرنا بعد ذلك إن لم يوافق هواك، أو لم يتلاءم مع ما تهدف إليه من أهداف...