بسم الله الرحمن الرحيم
أما معرفتك التي تدعيها يا هيثم بالعلوم الرياضية وهذه حالك فهو من عجائب الدنيا. ما الذي أقحمك في هذه المطالب وأنت لا تعرف فيها كوعك من بوعك!
إن برهان التطبيق صحيح تماماً ولا غبار عليه. ومن قال غير ذلك فهو جاهل.
فبرهان التطبيق لا يقوم على إثبات ما لا نهاية له حتّى يرد عليه ما تقول، بل يسلّم مقولة الخصم بوقوع ما لا يتناهى بالفعل في الوجود على التعاقب، ثم يلزم الخصم بالتناقض، لأن لازم الفرض يناقضه. وإذا كان اللازم باطلاً فالملزوم مثله. فيبطل القول بحوادث لا أوّل لها في جانب الماضي.
أما الطنطنة التي عملتها بشأن طرح اللانهايات، فإن الرياضيات تجيز ذلك في بعض الصور إن كنت لا تدري. وقبل أن أشرح لك ذلك، ولا أظن أن مثلك سيفهمه أريد أن أنبه القراء إلى أن اللانهاية في الرياضيات مجرد مفهوم فرضي محض لا تحقق له في الخارج، كما أن الأعداد السالبة مجرد فرض رياضي يعبر عن الكميات العددية في الاتجاه المعاكس للاتجاه الموجب لا أكثر. وكما أن الصفر عدد بالتعريف وليس عدداً طبيعياً، كما اتفق عليه علماء الرياضيات، وأحدث التعديلات الرياضية التي أدخلت أنهم ألغوا ما كانوا يسمونه (ط ستار) التي تعبر عن الأعداد الطبيعية التي تبدأ من الصفر. فقالوا الصفر ليس عدداً طبيعياً. ولا أعلم رياضياً يقول بأن المالانهاية عدد طبيعي أو حتى عدد أصلاً. وأما القسمة على صفر فنتيجتها بالاتفاق أو بالتعريف كما يقولون تساوي مالانهاية، وإنما اتفقوا على ذلك لأنه إذا قسم عدد كبير جدّاً بالنسبة إلى عدد صغير جدّاً فإن الناتج عدد كبير جداً. وفي الحقيقة أي الواقع الخارجي لا يمكن تحقق ما لا نهاية له، فلذا اخترعوا مفهوم النهايات، وقالوا مثلاً س تؤول إلى مالانهاية، أو س تؤول إلى صفر. ولكن س هذه التي يتكلمون عنها لا يمكن أن تبلغ لا رياضياً ولا في الواقع اللانهاية أو الصفر إذا كانت كميّة متزايدة أو متناقصة. ولعمري قبل أن تخوض في هذه المباحث هل تعرف ما قاله الرياضيون في تعريف اللانهاية والعدد والسلسلة والمجموعة والكمية غير المعينة والكمية غير المعرفة وغير ذلك مما يحتاج إلى تصوره قبل الخوض في ذلك.
إن برهان التطبيق أيها الناصح ليشبه صورة مشهورة معروفة في الرياضيات يعرفها الطلبة في المرحلة الإعدادية التي ربما رسبت فيها أنت في مادة الرياضيات، وهي طريقة تحويل الأعداد الدورية إلى كسور. مثلاً:
حول 2.3 دوري إلى كسر.
إنك تعرف أن 2.33 أكبر من 2.3
وأن 2.333 أكبر من 2.33 ويمكنك أن تستمر على هذا النحو لا إلى نهاية. بمعنى آخر إن الوهم يمكنه أن يتصور أعداداً لا نهائية بين 2.3 و 2.4. و2.4 قطعاً أكبر من 2.3 دوري بلا خلاف. فكيف يصح في الواقع أن تكون هنالك كمية محددة أكبر من كمية لانهائية الأجزاء!!!!!
ولو كنت دارساً للرياضيات أيها المدّعي لعلمت أن هنالك إشكالات فلسفية كبيرة جداً على كثير من النظريات والتعريفات الرياضية. وعلى أي حال لنعد إلى مسألتنا.
إن حل السؤال هو أن نفرض أن نفرض س= 2.33333……. دوري
ثم نضرب طرفي المعادلة في 10
10 س = 23.3333333…….
وبطرح المعادلتين نحصل على:
9 س = 21
ومنه س= 21/9
وهذا شكل من طرح اللانهايات يا فالح تجيزه الرياضيات قولاً واحداً.
ولو كنت تفهم برهان التطبيق لعلمت أنه يسلّم ما يقول به الخصم من أنه توجد سلسلة لا نهائية من الحوادث طرفها اليوم، كما توجد سلسلة أخرى لا نهائية من الحوادث طرفها أمس. وهذا في الرياضيات يعبر عنه كما يلي، وأرجو المعذرة فقد لا تسعفني الرموز الموجودة ههنا في لوحة المفاتيح:
[س ن.......... س3، س2] هذه هي جملة الحوادث من المالانهاية في الماضي إلى أمس ولنسمها أ
[س ن.......... س3، س2، س1] هذه هي جملة الحوادث من المالانهاية في الماضي إلى أمس ولنسمها ب
وإن أ اتحاد ب يساوي ب
وإن أ تقاطع ب يساوي أ
وإن ب عدا أ يساوي س1 وليس هذا إلا عمليّة طرح رياضية صحيحة على المجموعات. وإنما الخلط في ذهنك أنك تحسب جملتي الحوادث عددين كل منهما يساوي لانهاية فلا تجيز طرحهما لأن اللانهايات لا تطرح، والواقع أن هذا خبط منك، لأن كلّ جملة من الجملتين هي مجموعة وليست عدداً، كما أن اللانهاية نفسها ليست عدداً.
والأمر الآخر الذي لم تلاحظه وأنت تقرع طبل رأسك بدليل التطبيق دون أن تفهمه، هو التناقض العقلي اللازم عن فرض هاتين الجمليتين اللانهائيتين. وبيانه:
أن أ محتاواة في ب مما يعني أن ب أكبر من أ قولاً واحداً عند الرياضيين.
والعقل لا يجيز كون ما لانهاية له أكبر من مالانهاية أخرى، حال كون كل واحد منهما لا نهائياً.
إذن لا يمكن أن يكون أي مما فرض لانهائياً في الوهم لانهائياً في الواقع، بل إن كلّ واحدة من الجملتين نهائية قطعاً.
ومن لم يفهم هذا الكلام وقع في إشكال كبير كما حصل مع الفلاسفة وتبعهم فيه ابن تيمية حين جوزوا قدم العالم بالنوع. وقالوا بأن الله لم يزل خالقاً للحوادث بالفعل. وفي حين منع الفلاسفة قيام الحوادث في الذات الإلهي القديم وقالوا بكونه علّة لها صدرت عنه بالفيض أزلاً، أجاز ابن تيمية قيام حوادث لا أول لها في ذات الله دون أن يرى في ذلك بأساً. فتأملوا كيف ينزه الله تعالى...
ولذلك تجده وأتباعه السلفية يمقتون برهان التطبيق الذي يقطع سلسلة الحوادث، وينفي قدم العالم بالنوع، ويثبت استحالة وجود جنس الحوادث في الأزل مع الله تعالى، لأنه كان ولم يكن شيئاً قبله، وكان ولم يكن شيء معه. وابن تيمية ينسى تماماً رواية لم يكن شيء معه حين يناقش هذه المسألة، واعجب من ذلك قدر ما تريد.
فإن قال قائل، لم تمنعون وجود حوادث متعاقبة بلا أول في جانب الماضي وتنفون هذه اللانهاية، وفي نفس الوقت تقولون مثلاً إن المؤمنين خالدون في الجنة لا إلى نهاية. والجواب: إن هنالك فرقاً كبيراً بين اللانهاية في جانب المستقبل واللانهاية في جانب الماضي. لأننا حين نقول إن المؤمن خالد في الجنة فمعناه إننا كلما تصورنا زماناً فإنه يمكننا أن نتصور بعده زمان آخر يكون فيه موجوداً. وهذا الكلام لا يعني مطلقاً أن اللانهاية قد تحققت بالفعل، بل إنه لا يمكن أن يبلغ أحد تلك اللانهاية لأنها لا تبلغ أصلاً أي لا يمكن تحققها.
أما من يجيز وقوع حوادث لا أول لها في جانب الماضي يكون طرفها هذا اليوم مثلاً، فإننا نقول له إن الماضي قد انتهى بالفعل، ومعنى كلامك أن ما لانهاية له من الأمور المحدودة المعدودة قد وقع بالفعل فيما مضى. فكيف بلغت اللانهاية حداً معيّناً. كيف تكون هذه السلسلة لانهائية وقد انتهت ووقعت بالفعل...... فلو كان ثمّة حوادث منذ الأزل تتعاقب فإننا لا يمكن أن نبلغ اليوم مطلقاً..... لأن معنى أننا بلغنا طرف المالانهاية هو أنها انتهت. هذا خلف. فلا تكون مالانهاية.
وفيما قلنا كفاية لمن كان له قلب ذكي ليفهم الفرق بين الأمرين، ويفهم مغالطات هيثم، وعدم تفريقه بين الفرض الرياضي والواقع الذي لم يحتكم إليه الرياضيون أصلاً حين وضعوا مفهوم اللانهاية. بل كان همهم الاتفاق على مفهوم يحل كثيراً من الأسئلة الرياضية ويكون جواباً اتفاقياً عليها.
أما سؤال وحيد دهره عن وجود خطوط لانهائية متفاوتة في الطول، فالجواب أن السؤال مبني على مغالطة. لأنه لا توجد خطوط لانهائية في الواقع مطلقاً، وكل ما دخل الوجود من الحوادث فهو معدود ومحدود، وأما في مجرّد الفرض الذهني فإنه إذا فرضت في عقلك لانهايتن فلا يقبل العقل أن تكون أياً منهما أكبر من الأخرى أو أصغر منها أو محتاواة فيها. وهذا هو التناقض الذي يوضحه برهان التطبيق، والذي يلزم منه نفي وجود تلكما الجملتين المفروضتين.
وأرجو أن يكون القراء قد التفتوا إلى سبب اهتمام سلفي لا يحقق علماً من العلوم بمسألة عقليّة كهذه. فهو يريد أن يرى مسوغاً لقول رئيسهم ابن تيمية وهو قدم العالم بالنوع. وداعيته إلى ذلك محض هواه، لأنه لا يعلم هذه المباحث، وأنا بانتظار نقاشه إن كان يستطيع أن يأتي بأدلة علمية تنفي برهان التطبيق. والله تعالى الموفق.
التعديل الأخير تم بواسطة جلال علي الجهاني ; 08-02-2004 الساعة 13:50
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين