[ALIGN=CENTER]بسم الله الرحمن الرحيم[/ALIGN]
[ALIGN=JUSTIFY]الحمد لله رب الذي لا إله إلا هو،الذي استحق المحامد كلها بكمال وجوده وغناه عما سواه، وتفضُّله بنعمة الإيجاد لسائر المحدثات. والشكر لله الذي إذا شكره الإنسان على نعمه، وجب عليه شكر جديد على أن جعله قادرا على شكره.
والصلاة والسلام على سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، الذي تمت هداية الناس أجمعين على يديه.
اللهم وفقنا يا الله إلى معرفتك ، واجعل فينا القدرة على الارتقاء في هذا الوجود بعبادتك والاستجابة لشرعك.
وبعدُ
فاعلم أن الإنسان في هذا الوجود لا ينفك عن الاعتقاد، أي لا ينفك عن أن يعتقد بصحة أمر وبفساد أمر.
ولا يمكن للإنسان أن يسير في هذا الوجود بدون هذا. لأنه لو جاز هذا لجاز عادة أن يبقى الإنسان حيَّاً من دون أن يفعل فعلا ما.
وهذا باطل قطعا، ويتضح هذا البطلان بمجرد تصور الحالة المذكورة. وتفصيلها أن الإنسان في بعض الجوانب من حياته مريد لما يكون منه، وهذا الأمر يدرك بالضرورة بالتفرقة بين حركة الارتعاش واختيارك تفاحة من بين عدة حبات من التفاح.وكون الإنسان مريدا يعني أنه يرجح أمرا على أمر،
ومن المعلوم انه يستحيل ترجيح بين أمرين بدون مرجح.
وهذا المرجح الذي تعتمد عليه الإرادة هو الفكرة التي يعتقد بها الإنسان في نفسه،
وهذه الفكرة قد تكون نتيجة تفكير عقلي أو شعور عضوي وجداني أو غريزي أو غير هذا، وبغض النظر عن مصدر هذه الفكرة أو هذا العقد، فلا بد من التسليم بوجوده، وهذا هو المطلوب.
فثبت فعلا أن الإنسان لا ينفك عن عقد تتكيف نفسه به، وتصدر منه الأفعال على وَفق هذا العقد المذكور،ولا حاجة بنا إلى القول بأن العقد يجب أن يكون ثابتا لا يتغير أو يجوز كونه متغيرا ، فالحاصل على كلا الوجهين أنه لا بد من ذلك العقد.
إذا سلم لنا ذلك فإننا نقول:
إن الإنسان إذا رفع رأسه إلى السماء ، ورأى سعة الموجودات وتعددها واتساقها في نظام معين لا تتعداه،ثم نظر فيما حوله ورأى موجودات من أشجار وحيوانات وجمادات وغيره من البشر، وأدرك احتياجه إليهم واحتياجهم إليه، وعرف أنه لا تتم له حقيقة الوجود المتزن إلا بالانسجام معها على وفق نظام معين اختيارا أو كرها، كما هي الكواكب وسائر الموجودات، ثم نظر في ذاته، ورأى جسمه الكثيف وأدرك أنه جاهل بكثير من أعضاء هذا الجسم وحقيقته، وكيفية ارتباط أجزائه ببعضها واتفاقها على وظيفة معينة، ولاحظ بعد ذلك أن هناك أمرا واحدا لا يخفى عليه، وهُوَ هُوَ ذاته، فالإنسان إذا تجرد من هذا الجسم وحاول تركيز عقله في التفكير بذاته، كما لو تصور أنه يطير في عدم بلا جسم ولا أعضاء، فإنه يجزم عند ذاك أنه عارف بذاته لا يشك بوجود نفسه.
إذا فكر الإنسان بهذا الأسلوب ، فإنا ندعي أنه لا يمكن أن ينفك عن السؤال من أين أتيت وإلى أين المصير وماذا أفعل في هذا الوجود، وكذلك فإنه يتساءل عن بقية أفراد الجنس البشري.
وندعي أيضا أن الإنسان إذا وصل إلى هذه المرحلة من التفكير فإنه لا يمكن أن تطمئن نفسه وتصفو من كدوراتها إلا بالإجابة على هذه الأسئلة.والجواب عليها يكون ضرورة لا يمكن الانفكاك عنها عند الشعور بها.
وندعي أن الجواب الجازم على هذه الأسئلة لا يمكن أن يكون جزئيا أو مرحليا، لأن السؤال ليس عن جزئي ولا عن زمان معين ولا عن مكان نعين، بل الجواب يجب أن يكون كليا شاملا،
وكذا لا يمكن أن يكون الجواب قائما على الاحتمال أو الأخذ بالأحوط، لأن هذه أجوبة لأسئلة تبدأ بكيف وتبحث عن وسيلة لعمل ما، ومطلوب هذه الأسئلة هو العلم بأصل هذا الوجود وهدفه، وهذا حقيقة لا يتم إلا بالجزم والقطع.
ويلزم من هذه الأمور، أن الإنسان إذا حصل على هذه الأجوبة وأدركها وعقد نفسه عليها، يلزمه أن لا يفعل فعلا إلا بناءا على ضوئها واسترشادا بها، لأنه في هذه الحالة يكون في طريق تحصيل كمال وجوده،ولا يمكن لإنسان إذا اعتقد أن كماله لا يحصل إلا بهذا الطريق أن يسير في طريق غيره إلا من لا يُعَدُّ من العقلاء.
ولهذا كان من الطبيعي أن يكون كل إنسان يفعل فعلا معتقدا أنَّ هذا هو طريق سعادته ولهذا فهو يفعله.
وهذه إشارة إلى أن الإنسان لا يمكن أن ينفصل عن الاعتقاد بفكرة. وأما من يؤمن أن طريق سعادته وكماله مع كمال وسعادة الوجود كله إنما يكون بحسب طريق معين، وهو يخالف هذا الطريق، فهذا لا يلتفت إليه إذ لا يعد من العقلاء في هذا المجال.
إذن انحصر الكلام في العلم ولو على سبيل الإجمال بأصل الوجود، أو على الأصح العلم بمقدار يكفي لبناء فكرة كلية عن هذا الوجود.
وذلك لأن المطلوب الذي وصلنا إليه هو سعادة وخير الإنسان بل الوجود كله،هذا لا يتم بالنسبة للإنسان إلا بالعمل، والإنسان لا ينسب إليه العمل إلا إذا أراده، نقصد العمل الاختياري، وإرادته يجب أن تكون متناغمة مع أصل وغاية هذا الوجود، إذن لا بدَّ من العلم بطريق صيرورة الوجود، حتى يصح لنا إرادة الانسجام معه، فالعلم ضروري.
وقد يصير الكلام بعد هذا في أن العلم بهذا الأمر هل هو ممكن فعلا، إذ قد نتصور أمرا واجبا ولا نستطيع الوصول إليه،
فالجواب على هذا: أن أصل العلم ممكن ، ولا يمكن لإنسان منع أصل علم الإنسان، أي لا يمكن لأحد أن يقول إننا لا يمكننا العلم بأمر مطلقا، فهذا الكلام تنقضه الضرورة والتجربة والعقل ،إذ يحس كل إنسان في نفسه أنه يعلم بعض الأمور ويكون جازما أن علمه هذا صحيح ومطابق. ويكون فعلا كذلك.
ما دام أصل العلم قد ثبت ، فنقول لا يشترط لإمكان العلم بالشيء عقلا إلا وجود عاقل، أي موجود قابل لأن يعلم،وتميز المعلوم في نفسه،ولا شرط ثالث غيرهما.
وهذان ثابتان في حالتنا ، فالإنسان قابل لأن يعلم، والمطلوب العلم به متميز وهو الوجود الذي هو الموجود، فكل موجود يتميز عن غيره بأمور والوجود يتميز عن العدم ، إذ لو لم يحصل التمايز لصار العدم والوجود واحدا، وهذا باطل فالوجود غير العدم. ولو لم يتميز موجود عن موجود لصار الوجود واحدا وحدة مطلقة لا تعدد فيها بوجه من الوجوه، وهذا باطل بالحس والعقل.
ما دام أصل العلم قد ثبت فنقول:
إما أن نكون عالمين منذ أول وجودنا أو لا نكون، وباطل أن نكون عالمين منذ أول وجودنا فوجب أن يكون علمنا فينا زائدا على أصل وجودنا، ولا يخلو الأمر بعد هذا عن احتمالين:
إما أن يكون العلم الذي نحصل عليه بالضرورة أي علما ضروريا
أو مكتسبا،
ونقصد بالضروري ما لا نستطيع الانفكاك عنه ولو توقف على شرطٍ.
وهذا النوع من العلم جائز عقلا وواقع فعلا لا شك فيه،
فالعلم بأن الجزء أقل من الكل ضروري لا يمكن الانفكاك عنه، ويحصل فينا بأدنى التفات بعد وجود مفهوم الجزء والكل،
وأما العلم الاكتسابي فهو مقابل الضروري السابق ، والتسليم بوقوعه أيضا واجب ، وذلك أنه لو كانت كل علومنا ضرورية لما كنا طالبين للعلم بأمر، إذ الفرض أننا نعلمه، إذن ثبت وجود نوعين من العلم أو درجتين على الأصح.
فيما سبق سلمنا أن الوجود متعدد،
ولكن يوجد بين أفراد الوجود علائق فهذان أمران قطعيان ،
فأما الأول فبين،
وأما الثاني فلأننا نلاحظ اعتماد كل موجود على آخر ولو من ناحية معينة، كما أشرنا في أول الكلام ،
فالإنسان لا يمكن أن يهمل العلاقة بينه وبين مجموع البشر، ولا بينه وبين غيره من الموجودات، إذ وجوده معتمد على وجودها،وما دام ثبت لنا هذان الأمران فلا يمكن إنكار إمكان العلم بهما، ولذا فالعلم ان تعلق بموجود مع قطع النظر عن علاقته بغيره، فهذا العلم يطلق عليه تصور،وإن تعلق بوجود من حيث علاقته بغيره فهذا تصديق، فالتصور إدراك مفرد، أي إدراك الموجود من حيث هو فرد منفرد عن غيره. والتصديق إدراك نسبة، أي نسبة أمر لأمر ، ولا يمكن حصول إدراك النسبة من دون تصور طرفيها ، أي المنسوب إليه والمنسوب. ويطلق على التصديق الحكم.
وسبق أن قلنا أن العلم يأتينا من الخارج، ولا نعني أنه كله يأتي من الخارج، بل يمكن أن يكون أصله من الخارج وهو لازم عن النفس، وذلك ممكن لأن النفس العالمة إنما هي بالنسبة إلى غيرها خارج كما أن غيرها بالنسبة إليها خارج،فيوجد اشتراك بينها وبين غيرها، ولهذا فإنها إذا علمت أمرا عن الخارج عن غير طريق الخارج فالمراد أنها علمته من حيث إنها عالمة بنفسها لأنها هي أصلا خارج. أي يوجد اشتراك ما بينها وبين الخارج.
وبهذا ثبت أن هناك مصدرين للعلم :
حقيقة الأول النفس من حيث هي عاقلة،
والثاني لا بد أن يكون أمرا غير النفس يوصل إليها ما لا بدَّ لها منه، فيكون واسطة بينها وبين الخارج، وهو ما نطلق عليه اسم الحواس الظاهرة.
فثبت طريقان للعلم :
الأول النفس وهي الذات،
والثاني الحسُّ.
ويمكن بعد هذا أن نجزم أن النفس من حيث هي عاقلة فلا يمكن أن تعلم أمرا عن الخارج إلا عن طريق الحس،
ولو علمت عن غير طريق الحس الظاهر فعن طريق الحس الباطن تعلم.
وبعد هذا الكلام عن العلم، يلزمنا أن ننظر فيه لا من حيث ماهيته كما هو، لأننا هنا لا يهمنا أن نعلم كيفية العلم بقدر ما يهمنا أن نعلم كيف نصل إلى العلم.
وهذا المطلب يكفي فيه أن نعرف متى يحصل فينا العلم عند نظرنا في أمر ما، ومتى لا يحصل.
أول أمر نشاهده من أنفسنا ومن غيرنا أن الذي يدعي أنه عالم لا بد أن يكون جازما بما تعلق به علمه، ولا يكون قابلا للشك فيه، وهذا يدرك بالبداهة، فمجرد الشك في ما نقول أنه علم ينفي كونه علما، فالعلم إذن يجب أن يكون قطعيا .
ثم بعد هذا نقول:
إن كل أحد يصل إلى العلم بأمر لا يمكنه أن يتجاهله كأن يغير علمه بواسطة الإرادة إلى لا علم، فالعلم لا دخل له بالإرادة، بل الإرادة هي التي تعتمد على العلم، وهذا يعني أن الإنسان لا يمكن أن يريد عكس ما يعلم ويمكن أن يريد ما يعلم، ولكن نقول يمكنه أن يحب ما يعلم أو لا يحب، ويمكن أن يحب ما لا يعلم، وهذا الأمر مهم جدا فليس كل ما نحبه فهو حق، بل كل حق فيجب أن نحبه، ولكن لا يعني هذا الوجوب أن يحصل في الواقع،وذلك لأنه يعتمد تحققه على الإرادة.
من هذا يمكن أن نقول أن العلوم كلها ضرورية، بمعنى إذا حصلت في الإنسان فإنه لا يمكنه أن يغيرها بإرادته، وأيضا يمكن أن نقول أن الإنسان إذا علم أمرا فلا يحتاج إلى أحد لكي يقول له معلما ودالا: إنك علمت هذا الأمر بل هو بمجرد حصول العلم فيه فإنه يعلم أنه عالم بهذا الأمر ، وهذا ما يمكن إن نطلق عليه أن كاشفية العلم ذاتية، أي إننا نعلم إننا علمنا بنفس علمنا،
فالخلاصة أن أي أمر نعلمه أو أي علم يحصل فينا، فإنه يكشف عن شيئين:
الأول:ذاته،
الثاني: ما تعلق هو به.
وهذه الأوصاف التي تلازم العلم مفيدة جدا وهي في غاية الأهمية إذ سوف تفيدنا في توسيع دائرة الوسائل التي نكشف بها عن حصول العلم أو عدم حصوله.
وذلك كأن نقول: مطلق الخبر يمكن أن يفيد العلم ويمكن ان يفيد الظن ويمكن أن لا يفيدهما.وإمكان إفادة الخبر للعلم يكون إثباته ممكنا بالعقل فيقال:
أي إنسان يشعر من نفسه أنه يحس بأمور في وجدانه ويتصور صورا في خياله، ويحصل على أحكام في عقله، فإنه يجزم أنه يمكن أن يوصل هذه الأمور التي يشعر بها إلى غيره عن طريق الكلام، الذي يعم اللفظ والفعل مطلقا، أو نقول لا ريب أنك تشعر ولو في بعض الأحيان أنك تخبر غيرك عن واقع، وذلك بغض النظر هل يصدقك أو لا، فهذا الأمر ليس ضروريا بيانه وتحليله الآن، ولا يستطيع إنسان أن يخالفه فهو ضروري، فنقول ما دام يمكن أن تخبر أنت غيرك بأمر يكون حقا وصدقا في الخارج موجود أو في نفسك، فهل يستحيل أن يخبرك غيرك بأمر يكون هو في حد ذاته صدقا وحقاً.
من الواضح الجلي أنه يمكن من غيرك كما يمكن منك، فلا فرق من هذا الجانب ، فيجوز القياس فالأمثال لها نفس الأحكام، وما جاز على أمر فيجوز على مثله، إذن يمكن أن يكون الخبر صادقا كما يمكن أن يكون كاذبا،
فالمسألة الآن هي كيف يكن أن نستدل على الخبر الصادق من غيره.[/ALIGN]