1- اسمه ونسبه :
هو الإمام، العالم، العلامة، شمس الدين أحمد بن سليمان بن كمال باشا ، أحد الموالي الرومية.
فنسب إلى جده كمال باشا، واشتهر بابن كمال باشا، أو كمال باشا زاده، أو ابن الكمال الوزير. كما عرف واشتهر بـ ’مفتي الثقلين‘، لوسع اطلاعه، وعمق إحاطته بالمسائل الشرعية، وقوة محاكمته في المناظرة.
2- مولده ونشأته وطلبه العلم :
ولد شمس الدين أحمد في سنة 873هـ (1468-1469م) بمدينة طوقات من نواحي سيواس (طوقات وسيواس: مدينتان تقعان في شمال شرق تركيا).
ويرى البعض أن مولده كان بمدينة أدرنه، وهذا مرجوح، لأن ابن كمال باشا نشأ فيها وقضى مراحل حياته الأولى بِهذه المدينة، ولذلك فإن أصحاب هذا القول ظنوا أنه ولد فيها.
ونشأ أحمد شاه في بيت عز ودلال، إذ كان جده كمال أحد أمراء الدولة العثمانية، وكان ذا حظوة لدى سلاطينها، حيث كان مربيا لبايزيد الثاني، ولي العهد آنذاك، ثم صار ’نشانجي الديوان السلطاني‘( أي: الذي يختم المراسم والمكاتيب بختم السلطان المعروف بطغراء السلطان). ولم تذكر المراجع أنه كان عالما، ولا من تلاميذه التفتازانيُ، والسيد الشريف الجرجاني، كما ذكره الدكتور حامد صادق قنيبي في مقدمة تحقيق معنى النظم والصياغة لابن كمال باشا، في ’مجلة الجامعة الإسلامية‘، العددان 71-72، السنة 18، 1406هـ، ص 170.
وكذلك كان والده سليمان بن كمال باشا من قادة الجنود الإسلامية الخاقانية في زمن السلطان محمد الفاتح، واشترك في فتح القسطنطينية مع جنود سنجقِ أماسيا عام 857هـ-1453م، وصار بعد الفتح وكيلا لجند السلطان برتبة ’صوباشي‘ أي منصب من تتوفر فيه الكفاية لضبط البلد من جهة السلطان، ثم توفي في استانبول، ودفن إلى جانب مدرسة أبيه كمال معه. فهو إذن من قبل أبيه ينتمي إلى أسرة عسكرية قيادية جهادية.
وأما أمه فهي منتمية إلى أسرة علمية، فهي بنت المولى الفاضل محيي الدين محمد الشهير بابن كُوبَلو (ت 874هـ)، وهو من العلماء المشهورين بالفضل في زمانِهم، جعله السلطان محمد الفاتح قاضيا بالعسكر المنصور بعد ما تولى بعض المناصب، ثم عزله في سنة 872هـ. وكان للمولى المذكور بنتان، تزوج إحداهما المولى سنان باشا، وتزوج ثانيتهما سليمان جلبي ابن كمال باشا، فولد له منها ولد، اسمه أحمد شاه، وهو المولى العالم الفاضل المشتهر في الآفاق بابن كمال باشا.
وقد مال في صباه إلى تحصيل العلم والكمال، وأنفق ريان عمره في اقتباس كل فضيلة تسمو به إلى المحل الأرفع، وصرف حداثة سنه في إحراز كل معرفة تُعليه ذروةَ العز الأنفس، والمجد الأتلع، وحفظ القرآن الكريم، وضبط في ابتداء أمره من اللغة ما نقع بِها غلة صدره، وأحاط علما بوجوه القراءات والعلل، وأمن على نفسه غائلة التورط في مداحض الزلل، ثم استظهر في فنون الأدب كتبا قلما تصدى لحفظها أقرانه، ويهتدي لضبطها أسنانه، ثم استولى على أخذ الشعر، ورقى إلى الإعجاز منْزلة السحر.
ثم حدثت في طبعه الشريف داعية الرياسة، لما كان آباؤه من أصحاب الكر والفر والسياسة، فلحق بزمرة العسكر، وصرف عنان همته إلى سمت آخر".
وانقطع بذلك عن طلب العلم، وظل يشتغل ويترقى في الرتب في الجيش، وكان يرتقب منه أن يغدو قائدا عسكريا حازما، وأميرا مطاعا مثل آبائه وأجداده.
وخرج سنة 897هـ في سفر مع الجيش السلطاني متوجها نحو ألبانيا، وكان في هذا السفر في معية الوزير الكبير إبراهيم بن خليل باشا، وكان معهم الأمير أحمد بك بن أَوْرَنوس، وهو المقدم على سائر الأمراء آنذاك، بل ليس فيهم أعظم منه في حينه، ولا يتصدره أحد منهم.
وحدثت حادثة في مدينة فليبه -(مدينة تقح إلى الجنوب الشرقي من صوفيا، عاصمة بلغاريا)- أثّرت في نفس ابن كمال باشا، فتحول من صفوف الجيش إلى صفوف العلماء، وذلك بعناية إلهية خاصة رفعتْه بالعلم والإخلاص مقاما عليا.
فقد قص علينا ابن كمال باشا قصة تحوله من صفوف العساكر السلطانية إلى صفوف العلم، فلنترك له الحديث، فهو بِها أولى، وبروايتها أجدر.
قال ابن كمال باشا: "وكنتُ واقفا على قدميّ قدام الوزير المزبور، والأمير المذكور عنده جالس، إذ جاء رجل من العلماء، رث الهيئة، دنيء اللباس، فجلس فوق الأمير المذكور، ولم يمنعه أحد عن ذلك، فتحيرتُ في هذا، فقلت لبعض رفقائي: من هذا الذي جلس فوق هذا الأمير؟
فقال: هو رجل عالم مدرس بِمدرسة فِليبه، يقال له: المولى لطفي.(وستأتي ترجمته)
قلت: كم وظيفته؟
قال: ثلاثون درهما!
قلت: فكيف يتصدر هذا الأمير، ومنصبه هذا المقدار؟
قال رفيقي: إن العلماء معظمون لعلمهم، ولو تأخر لم يرض بذلك الأمير، ولا الوزير.
قال رحمه الله تعالى: فتفكرت في نفسي، فقلت: إني لا أبلغ مرتبة الأمير المسفور في الإمارة، وإني لو اشتغلت بالعلم يمكن أن أبلغ رتبة العالم المذكور، فنويت أن أشتغل بالعلم الشريف".
وقد أثرت هذه الحادثة في مفهوماته، فغير مجرى حياته جذريا، فترك الجيش بعد عودته من السفر، ولازم العلماء.
يقول: "فلما رجعنا من السفر، وصلت إلى خدمة المولى المذكور ’لطفي‘، وقد أعطي هو عند ذلك مدرسة دار الحديث بِمدينة أدرنه، وعين له كل يوم أربعون درهما. فقرأت عليه حواشي المطالع".
وقد سبق له قراءة مبادئ العلوم في صدر شبابه.
وتحقق أمله وحلمه العظيم، "أخذ العلوم عن أفواه الرجال النحارير، وقرأ الفنون على أفاضل الفضلاء المشاهير، منهم: المولى لطفي المزبور (ت 900هـ)، والمولى مصلح الدين القسطلاني (ت 901هـ)، والمولى خطيب زاده (ت 901 هـ)، والمولى معروف زاده".
"فأخذ علم الفروع والأصول عن المولى القسطلاني، عن المولى حضر بك، عن المولى يكان، عن المولى شمس الدين الفناري، عن الشيخ أكمل الدين (البابرتي)، عن الإمام قوام الدين الكاكي، عن الإمام حسام الدين السغناقي صاحب ’النهاية‘، عن الشيخ الإمام حافظ الدين الكبير البخاري، عن شمس الأئمة الكردري، عن شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني، صاحب ’الهداية‘، عن نجم الدين (عمر) النسفي، عن أبي اليسر البزدوي، عن أبي يعقوب اليساري، عن أبي إسحاق النوقدي، عن أبي جعفر الهندواني، عن أبي قاسم الصفار، عن نصير بن يحي، عن محمد بن سماعة، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة رحمهم الله. وهذا أحد طرق العنعنات".
ويذكر ابن الحنائي علي أفندي (ت 979هـ) أنه "أخذ الفقه عن مولانا سنان باشا، وعن مولانا لطفي المقتول".
ولعل هذا الأخذ والتلقي عن طريق المولى لطفي، عن المولى سنان باشا، إذ لم تذكر المصادر الأخرى تلمذته لسنان باشا مباشرة، لأن سنان باشا توفي عام (891هـ)، أي قبل تحول ابن كمال باشا من صفوف الجيش إلى صفوف العلماء بست سنين تقريبا. وكان المولى لطفي من أخص تلامذة المولى سنان باشا، ولما أتى المولى على القوشجي الرياضي الشهير، ببلاد الروم أرسله المولى سنان باشا إليه، وقرأ العلوم الرياضية عليه، وحصل سنان باشا العلوم الرياضية بواسطته.
ويقول الكفوي: "ومن لطائف صنع الله التي جلت أن تعد، وكبرت لعظم شأنِها عن أن تحد، أنه لم يَخل في عصر من الأعصار كافة المدن والأمصار عن ذي ذهن وقاد، وصاحب طبع نقاد، يبذل جهده في اكتساب ما يرفع في الدارين قدره، ويطلع من أفق النباهة بدره، فتصدى لاقتباس العلم ودراسته، ويجتهد في صونه عن الضياع حراسته، صرف همته إلى تحرير مراسم الشرع، وأجرى سواد الحبر في بياض الرَّق، ووقف همته على تَمهيد قواعد الأصل والفرع، وسوّد وجه الباطل، وبيض مَحيا الحق، به كل من يقتدي يسترشد ويهتدي، وما هو في عهده إلا هذا المولى".
"واشتغل بالعلم الشريف بالغدو والآصال"، "ودأب، وحصّل، وصرف سائر أوقاته في تحصيل العلم، ومذاكرته، وإفادته، واستفادته، حتى فاق الأقران، وصار إنسان عين الإنسان".
"قرأ عليه –أي على المولى لطفي-، ثم قرأ على غيره، إلى أن مهر، وصار إماما في كل فن، بارعا في كل علم، تُشَد الرحال إليه، وتعقد الخناصر عليه".
مصادر هذه الترجمة:
طاشكبري زاده: الشقائق 227-228؛ الكفوي: كتائب أعلام الأخيار 380ب-383أ؛ التميمي: الطبقات السنية 1: 355-357؛ الغزي: الكواكب السائرة 2: 107-108؛ حاجي خليفة: كشف الظنون 1: 283؛ ابن العماد: شذرات الذهب 8: 238-239؛ ابن الغزي: ديوان الإسلام ق 71؛ اللكنوي: الفوائد البهية 21-22؛ البغدادي: هدية العارفين 1: 141-142؛ جميل بك العظم: عقود الجوهر 1: 217-226؛ محمد طاهر البروسوي: عثمانلي مؤلفلرى 1: 223-224؛ البستاني: دائرة المعارف 3: 482؛ سركيس: معجم المطبوعات العربية 1: 227-228؛ الزركلي: الأعلام 1: 133؛ كحالة: معجم المؤلفين 1: 238؛ بروكلمان: تاريخ الأدب العربي (بالألمانية)2: 597-602، والذيل 2: 668-673، 1306.
علميه سالنامه سي 346-356؛ قنالى زاده حسن جلبي: تذكرة الشعراء 1: 122-134؛ نهال آدْسِزْ: الكشف البيبليوغرافي لِمؤلفات ابن كمال باشا في مكتبات استانبول، مجلة الشرقيات، العدد السادس 71-112، والسابع ص 83-135 (وهذه الثلاثة الأخيرة بالتركية).
يتبع......