بسم الله الرحمن الرحيم
كنت قد أعددت ردوداً على كثير مما جاء في مقالة فادي، وكنت أؤجل الحديث فيها حتّى ننتهي من الإشكالات التي طرحها بخصوص النص القرآني، وما تشعّب إليه الحديث هناك. ويبدو أن النقاش هنالك قد طال، بل بالكاد بدأت مع فادي مناظرة حول حكم فاعل الكبيرة، وقد فصلناه في موضوع مستقل. والحقّ أن هذه المقالة أيضاً تضمّنت عدداً من الأمور لعلّه يحسن نقاش كلّ منها على حدّة، كمسألة المعلوم من الدّين بالضرورة أعني أنه هل هنالك شيء في الشرع يسمّى بذلك، وهل هنالك ضوابط لمعرفته، وإذا ثبت وجوده فما حكم منكره.. إلخ. وكذلك موضوع المصلحة الذي بدأت بنقاشه في القسم الثاني من مناقشة إشكالية فهم النصّ القرآني، ثم انقطع بنا الحديث... وعلى أي حال، شجّعني كلام فادي الأخير في نقاشه مع مولانا المحقق العلامة سعيد فودة واستحسانه لمناقشة كلّ مسألة طرحها على حدة، أن أضع بعض الأسئلة والملاحظات على بعض مفاصل المقالة وأخص التي تتعلق بحكم الحجاب مباشرة لما أنّ المقالة تتحدّث فيه أصالة حال كونها مثيرة لكثير من المسائل من حوله. ولن أتبع طريقة الردّ الإجمالي، ثمّ انتظار الردّ والردّ على الردّ، وهكذا، فقد جرّبنا ذلك من قبل ولم نجده مجدياً بل زاد في تشعيب المواضيع، واشتكى الناس من عسر المتابعة، مما جعلنا نقتطع النصوص ونكررها لإثبات ما قيل ومناقشته. ولذا فأفضل أسلوب السائل والمجيب، بكلام واضح مختصر، لتحرير الأقوال، ومناقشة الأدلّة، وذلك أجدى وأوضح، وأسهل للقارئ غير المثابر. والله تعالى أعلم، وهو الهادي إلى سبيل الرّشاد.
أولاً: ما هو الحجاب الذي نتباحث في حكمه الشرعيّ الآن؟ أهو تغطية جميع جسم المرأة الحرّة وشعرها إلا الوجه والكفّين حال كونها مختارة لوجودها في الأماكن العامّة التي يراها فيها غير محارمها، أم هو شيء آخر؟
ثانياً: قال فادي: (وقد قلت إن هذه العلة مختصة بالنساء الحرائر لأن الأَمَةَ -غير الحرة- لا يجب عليها الحجاب -وإن كانت مسلمة- كما يجب على الحرة عند جمهور العلماء)
أقول: إقرارك بأن جمهور العلماء على الأقلّ يقولون بوجوبه في أوّل سطور المقالة قدر جيّد يختصر علينا الكثير. ولكنه نفي للإجماع على وجوبه قطعاً. فأسألك:
أ- من هم العلماء الذين خالفوا الجمهور في وجوب الحجاب الذي عرّفته أنا بأنّه تغطية الشعر وجميع جسم المرأة إلا الوجه والكفّين.. إلخ؟ والذين خالفوا في وجوب هذا القدر، ما هي حدود مخالفتهم؟ وأرجو منك يا فادي أن تتحرّى وأن تذكر العلماء الذين خالفوا بالاسم وما هو القدر الذي خالفوا فيه بحسب اطلاعك؟
ب- أنت يا فادي تقول: (نقل الإمام الماوردي عن الإمام الطبري والإمام داود رحمهم الله أن عورة المرأة الواجب سترها كعورة الرجل –القبل والدبر-)؟
أقول: فهل أنت مستيقن بأن ما نقله الماوردي عن الإمام الطبري وغيره كان في عورة المرأة الواجب سترها أمام الرجال الأجانب وليس في تحديد العورة من الرجل أو نحوه. كما وقع في كلام الشوكاني في نيل الأوطار عند تعليقه على حديث أبي داوود وغيره: (لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميّت)، حيث قال: (....وعن أحمد ومالك في رواية العورة القبل والدبر فقط وبه قال أهل الظاهر وابن جرير والاصطخري...) فلعلّ الأمر اختلط عليك؟ لا سيّما وأن الإمام الطبري يقول بوجوب الحجاب وله رد على من خالف في أنّ الفخذ عورة. فهل أنت بهذا النقل تنسب للإمام الطبري وداوود الظاهري أم تنقل النسبة؟ إن كان الأول فلا يثبت قولهما بذلك بهذا النقل فقط إن ثبت، وإن كان الثاني فماذا تريد منه؟
ج- ما هو المخصص لقوله تعالى: (... نساء المؤمنين...) في اعتقادك؟
د- قولك: (وإن كانت مسلمة) لماذا أتيت به؟ فإنه لو وجب لوجب على الكافرة والمسلمة؟ أم أنّك تقول بأن الكافر غير مكلّف بالتكاليف العمليّة؟
ثالثاً: قلت إن علة إيجاب الحجاب هي قوله تعالى: (ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين)، فما معناه عندك؟ أي ما هي بالضّبط هذه العلّة؟ وهل الآية نصّ قاطع فيه أم أنّها تحتمل معنى غيره؟
رابعاً: مع قولك: (إلا أن الأمر كان متعلقاً بأذية الحرة، كما هو ظاهر)
يصبح قولك: (وعليه فلو فرضنا أن مجتمع الصحابة رضي الله عنهم كان مجتمعاً خالياً من الإمَاء فلن يعود هنالك أي مبرر لأن تلبس الحرة الجلباب حتى تتميز به عن غيرها، ولن يأمرها الله بالحجاب عندها) ممنوعاً. لأن أذيّة الفسّاق للحرّة متصوّر بل واقع في كلّ عصر، وفي عصرنا مع انقطاع الإماء. ومعلوم لكلّ من يسير في الطرقات أنّ الأذيّة واقعة بالفعل عليهنّ اليوم، وأنّ الحجاب إن لم يمنعها بالكليّة فإنه يقيّدها إلى حدّ كبير جدّاً.
خامساً: أنت تقول: (وعليه فإن الأمر بالحجاب إنما كان لتتميز الحرة عن الأمة في زيها ومظهرها)
فأقول: هل كان لتمييزها أو لمنع أذيّتها، أم لتمييزها ومنع أذيتها؟
الأوّل منعناه لاحتمال الأذية. فإذا كانت القضيّة قضيّة تمييز لا أكثر ولا اتصال لها بالعفّة والاحتشام والتستر والامتناع عن السفور وسد كثير من الذرائع...إلخ من الأمور الكثيرة التي استنبطها العلماء من الأمر بالحجاب، إذا لم يكن ستر جسم المرأة وشعرها مقصوداً بالذات ومأموراً به من الشرع، وكان مجرّد علامة على الحرّة تميّزها عن الإماء التي عرف أنّ منهن بغايا، فلم لم تؤمر المرأة الحرّة بربط عصبة حمراء مثلاً على رأسها إلخ، والعصابة للعلامة شايعة عند العرب، كما اشتهر السادة والأشراف بعمائمهم السود والخضر، أعني لماذا هذه الطريقة المخصوصة في اللباس التي شرحها الإمام الطبري بتوسّع في الروايات التي ذكرها في وصف لباس النساء زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأنّهنّ كنّ يدنين الجلباب من أعلى الرّأس حتّى القدمين ويضربن الخمر على الجيوب، ويغطّين الوجه كاملاً والأنف إلا عيناً واحدة. وفي روايات يشددنه على الجبين ويقنعن عند الحاجب. وهذا اللباس أقرب ما يكون للباس نساء العراق إذا غطّين الوجه على ما وصف الطبريّ رحمه الله تعالى؟
وإن كان الثالث: فلا يسلّم ارتفاعه الموجب لارتفاع حكمه على التسليم العليّة المدّعاة. فلا يزال علامة على المسلمة المحتشمة، ومانعاً من احتمال أذيّتها.
قولك: (وقد ذكر الإمام الشوكاني في كتابه نيل الأوطار أن قوما ذهبوا إلى استحباب ستر العورة وعدم وجوب ذلك، وهذا الرأي – أي القول بكراهية التعري – وإن كان غريبا عن المجتمعات المحافظة إلا أنه مقبول جدا عند المجتمعات المنفتحة فلا ينبغي للمرء أن يرده لأنه يخالف ما تربى عليه وألفه، والله هو الهادي والموفق)
أقول: لقد بحثت في نيل الأوطار، فما وجدت غير هذا الموضع.
قال الشوكاني: (حديث أبي سعيد الخدري ثم مسلم وأبي داود والترمذي بلفظ لا ينظر الرجل إلى عورة الرجل ولا المرأة إلى عورة المرأة ولا يفضي الرجل إلى الرجل في الثوب الواحد ولا تفضي المرأة إلى المرأة في الثوب الواحد والحديث يدل على وجوب الستر للعورة كما ذكر المصنف لقوله احفظ عورتك وقوله فلا يرينها وقد ذهب قوم إلى عدم وجوب ستر العورة وتمسكوا بأن تعليق الأمر بالاستطاعة قرينة تصرف الأمر إلى معناه المجازي الذي هو الندب ورد بأن ستر العورة مستطاع لكل أحد فهو من الشروط التي يراد بها التهييج والإلهاب كما علم في علم البيان وتمسكوا أيضا بما سيأتي من كشفه صلى الله عليه وسلم لفخذه وسيأتي الجواب عليه والحق وجوب ستر العورة في جميع الأوقات إلا وقت قضاء الحاجة وإفضاء الرجل إلى أهله كما في حديث ابن عمر السابق وعند الغسل على الخلاف الذي مر في الغسل ومن جميع الأشخاص إلا في الزوجة والأمة كما في حديث الباب والطبيب والشاهد والحاكم على نزاع في ذلك باب بيان العورة وحدها عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا تبرز فخذك ولا تنظر إلى فخذ حي ولا ميت رواه أبو داود وابن ماجه الحديث أخرجه أيضا الحاكم والبزار من حديث علي) اهـ
وموضع الاستشهاد قوله: (وقد ذهب قوم إلى عدم وجوب ستر العورة وتمسكوا بأن تعليق الأمر بالاستطاعة قرينة تصرف الأمر إلى معناه المجازي الذي هو الندب)
فهل هذا الموضع الذي تقصده من كلام الشوكاني أم هو موضع آخر. فإن كان من موضع آخر فأت به، ثمّ يكون لنا كلام.
قولك: (بقي أن يقال إنني لا أعلم حديثا يوجب ستر العورة إلا وفيه ضعف، كما لا توجد آية تدل على هذا المعنى بوضوح فيما أعلم)
أقول: هل هذا الكلام الذي تقوله عن بحث واستقصاء واستقراء تام واجتهاد منك، أم أنّك تقوله تقليداً؟ ولعلّك تراجع نفسك فأنت تعترف على الأقل بأن جمهور العلماء يوجبون الحجاب، فهل أوجبوه عن هوىً منهم؟
فهذا ما أحببت أن أبدأ به، والتعليق على بقيّة المسائل التي أريد الكلام فيها سيأتي قريباً. ولا أريد أن نفتح أوراقاً كثيرة ونتكلّم في مسائل كثيرة فينتشر الكلام. ونطلب من الأخ فادي أن يجيبنا على هذه الأسئلة، لنحدّد اتجاه الكلام أكثر، إن شاء الله تعالى.
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين