بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل الزيدي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
أهلاً بك عضواً في المنتدى. وأشكر لك مشاركتك السابقة وهذه، إلا أن لي بعض الملحوظات أو قل التدقيقات التي أرجو أن يتسع لها صدرك. ها أنت ذا يا أخي تقرر بعض مسائل ثلاثة المذاهب الزيدية والأشعرية والسلفية، وتخالف السلفية علناً. ثم تأتي بأقوال بعض الزيدية بعد أن سميت نفسك زيدياً. وكأنك تقول على استحياء إنك تخالفنا أي الأشعرية في هذه المسائل وتتبنى رأي الزيدية، ولا تجد رأينا حقاً. ولا يخفى ما في النقول التي أتيت بها من تعريض بأقوال الأشعرية والإشارة إلى خطئها، كما لم يخف تلميحك بأننا نحن وإياكم متفقون على مخالفة السلفية وهذه نقطة تقارب والتقاء بين المذهبين.
وأحب أن أقول لك بصراحة أيها الأخ، إني أحب أسلوباً أكثر وضوحاً من هذا. فكم أود أن يعلن المرء عن نفسه بكلام صريح، ويقول لي أنت تقول كذا وكذا، وأن أخالفك في هذا الكلام، لأني أعتبر كلامك خاطئاً والدليل على خطئه هو كذا وكذا، وأنا أقول في مقابل قولك كذا، والدليل عليه كذا. هكذا هي طريقة الباحثين عن الحقيقة، والراغبين في الوصول إليها كما أفهمها أنا على الأقل، ولا أسيء بك الظن، ولكني أعجب من طول طرايق الناس في توصيل المعاني التي يريدونها، مما يثير شكوكي في مقاصدهم أحياناً.
ولتعلم أني أعتقد أن خير ما يبدأ به للتقريب بين المذاهب هو تأسيس قواعد الخلاف، وبيان الخلافات وتحريرها مهما كانت فرعية وصغيرة، لا تجاوز الخلافات قبل تحقيقها ومعرفة لوازمها، ومعرفة المنهج النظري والأساس الذي تولدت عنه هذه الخلافات.
وها أنت ذا تأتي إلى منتدى تأسس لنشر مذهب أهل السنة والجماعة وهم الأشعرية والماتريدية، كما تعلم تمام العلم. فحين يأتي زيدي إلى هذا المنتدى ويعرض أقواله في مقابل أقوالنا بصرف النظر عن مدى تحقيقه لأقوالنا وقوة عرضه لها، فما الذي يريده هذا الشخص؟ أنت قل لي.
هل تريد أن تناقشنا في كل مسألة مسألة من التي ذكرت الخلاف فيها: الرؤية، والكلام النفسي، والكسب، وكون الصفات عين الذات أم زائدة عليها. إن كان الأمر كذلك فأهلاً وسهلاً بك مرة أخرى، وأنا أوافق على الكلام معك إن كنت تريد ذلك، فابدأ بأي مسألة تشاء، قررها على مذهبك ورد مذهبي فيها ودعنا نشرع في الكلام. وإن كان مقصدك شيئاً آخر، فبينه لنا، فإنا لا نعرض أقوال المخالفين لأهل السنة في هذا المنتدى دون التنبيه على موضع الخلاف ومقدار خطورته ومنشأ هذا الخلاف وما يلزم عليه، لأنك كما تعلم فإنه يوجد في هذا المنتدى من هو محقق لمذهب أهل السنة، كما أن فيه أيضاً من بالكاد يستطيع تصوير مسائل الكلام. وهذا أمر لا بد من مراعاته لكي لا تلتبس الأمور على المبتدي.
والآن آتي إلى مناقشة سريعة لمجمل ما كتبته في هذه المشاركة تحت عنوان التوحيد في مسألة الرؤية. ولن أستوعب كل ما قلته ههنا لانشغالي، ورغبتي في معرفة مقصدك من كتابة هذا المقال. ثم النقاش بيننا آتٍ،وأنا سأفرغ لك إن شئت، والله يفعل ما يريد.
إن الخلاف بيننا وبينكم في مسألة الرؤية لا يجوز أن يطلق القول فيه بأنه لفظي، لأنه إنما هو لفظي في جانب من جوانبه، أو لنقل إن نفيكم للرؤية وإثباتنا لها تواردا على محلّين مختلفين. نعم إن ما نفيتموه أنتم وهو الرؤية بشرائطها القانونية الحالية فإننا أيضاً نفيه في الدنيا والآخرة،ولكننا نثبت وراء ذلك نوع إدراك يحصل لنا في الدار الآخرة للذات العليّ سبحانه، ونسميه رؤية، وهو زائد على المعرفة الاستدلالية البرهانية التي توصلنا لها بعقولنا في الدنيا من العلم بوجوب وجوده، وعلمه، وقدرته، وإرادته، وغير ذلك من الصفات والأحكام التي أثبتناها لله تعالى. وقول العلامة المحقق محمد زاهد الكوثري رحمة الله عليه: (فيجب أن يكونوا متفقين أيضاً على حصول معرفة ضرورية بالله سبحانه لهم فى الجنة فوق معرفتهم الاستدلالية الغيبية به تعالى فى دار الدنيا) فهذا الوجوب وإن كان مأمولاً فإنه غير واقع، لأنكم تصرحون بنفي الرؤية التي يشرحها بعينها كلام المولى الكوثري. فلا أدري ماذا أفادك الإتيان بقوله في هذا الموضع.
وهذا الخلاف لا يمكنني أن أسميه خلافاً لفظياً، كما ترى. بل هو خلاف معنوي حقيقي.
أما استدلال السيد بدر الدين بالآية الكريمة، فظاهر أنه متعلق بمطلق الرؤية في الدنيا والآخرة بهذه الشروط المعهودة في رؤية الحوادث وبدونها. وهذا الكلام لا يسلم له مطلقاً، ومناقشات الأشعرية لهذه الآية مشهورة، ولا تخفى على مطلع مثلك. نعم إذا أراد الاستدلال على حشوي فإنه يجوز أن يقول إن هذه الأبصار بهذه القيود لا تدرك الإله سبحانه لا في الدنيا ولا في الآخرة،لأن الإله ليس من جنس ما تدركه، ولكنا نمنع ما وراء هذا الكلام من تعميم، وهو التلميح بأن الله تعالى لا يجوز أن يرى مطلقاً بالرؤية التي يشرحها أهل السنة.
فقوله: (فأما الروايات فكثير منها يمكن تفسيره بمعنى قريب, وهي أن الرؤية فيها مقيدة بكونها كما يرون القمر , والقمر لا نرى إلا شعاعه لا جرمه, لان الجرم بعيد جداً ولا يرى من بعيد إلا النور , فالمعنى: إنها تتجلى للمؤمنين عظمته تعالى وجلاله وحكمته ورحمته وجبروته وعزته بما يشاهدون فى القيامة من قضائه سبحانه وتعالى)
أقول: أولاً كلامه في أن القمر بعيد لا يرى إلا شعاعه ولا يرى جرمه من أغرب ما سمعت في حياتي، لأن كل رؤية بالعين بحسب قوانين عملها المعروفة الآن إنما هي كذلك، سواء كانت لجرم بعيد أو قريب. وقوله كما يرون القمر لم لا يفهم منه شدة اليقين برؤيته ووضوح تلك الرؤية أو عدم اختصاصها بالبعض دون الآخر مثلاً لا سيما وأن الحديث الشريف يشير إلى شيء من ذلك حيث يقول لا تضامون في رؤيته، فلم نظر إلى رؤية القمر من هذه الجهة، وههنا تأويلات أخرى محتملة.
إن قوله: إنها تتجلى .. إلخ، كلام لطيف، وقد يكون إدراك هذه المعاني وشدة تحققها في النفس لا بالنظر العقلي هو المعني بالرؤية. ولكن هذا هو عين تأويل الرؤية سواء سلمنا له استدلاله بالحديث الشريف الذي ذكره على ذلك أم لا. ولكن هذا الأمر هو عين المتنازع فيه إن كنت تلمح ذلك أيها النبيه. لأن غاية ما قلناه هو أنا نثبت رؤية تحصل لنا في الآخرة، ولا نعرف حقيقة تلك الرؤية. فإن كنتم تقولون إنها إدراك يحصل للإنسان من غير نظر، بل بالاضطرار فلم تنازعوننا في إثبات مثله، وإن كنتم تنفون هذا المعنى فلم ترتكبون هذا الإنكار والأخبار كثيرة في هذا الباب. فإن قلتم لا نسلم قطعيتها، قلنا فلم لا تجيزونها على سبيل الظن؟ فقد تقرر أن قوة الاعتقاد من قوة الدليل، وحيث لا موجب قطعياً فلا نلزم أحداً بالقطع. ولكنكم لا تجيزون أن يكون شيء اسمه رؤية بغير هذه الحاسة والكيفية من المقابلة واتصال شعاع وكون المرئي جسماً وفي جهة من الرائي إلخ من الشروط العادية، فبم تفسرون المرائي والأحلام وقد حصلت بفقدان بعض تلك الشرائط؟
وحاصل مذهبكم ما نقلته أنت عن عبد الله بن حمزة الحسني، أنكم لا تجيزون الرؤية لاستحالتها في الدنيا والآخرة.
وحاصل الجواب عنه أنا لا نسلم أن الرؤية منحصرة في هذه المعتادة، بل معناها أعم من ذلك، ويمكن رؤية الذات العلي بنوع رؤية لا تستلزم التشبيه والتجسيم حاشى الله تعالى أن يكون له صورة تنطبع في النفوس. ولا نسلم أن ذلك مستحيلاً كما ذكر، بل ذلك جايز في العقول، ثابت ولو على غلبة الظن في المنقول، فلا مبرر لنفيه. ولو وقفنا منكم موقف المعارض لكم بالنصوص المثبت للّفظ، المفوض مطلقاً للمعنى، وسلمنا لكم ظنية النصوص لا قطعيتها، فما الذي يبرر عندها قولكم: إن الرؤية مستحيلة حال تنزيهنا للعلي الجليل عن مشابهة الحوادث؟
ثم إن غاية ما توصل إليه السيد بدر الدين باجتهاده هو ظن هذا المعنى للرؤية،ولا يرقى بنا ما قاله إلى القطع بهذا المعنى الذي فسرها به، فبم يرجح قوله على قولنا؟
قولك: (وليس من التشبيه وصف الله تعالى بأنه عالم و قادر وحي وسميع وبصير)
ليس هذا محل نزاع بيننا وبينكم. ولكن النزاع في أنه هل هنالك صفة قايمة بالذات الإلهي اسمها العلم، وأخرى اسمها القدرة، والإرادة إلخ أم لا؟ وأنتم سميتم أنفسكم أهل التوحيد لنفيكم تلك الصفات، وتوهمكم بأن إثباتها يقتضي تعدد القدماء، مع أنكم تعلمون أن ذلك لا يلزمنا، لأنا نقول إن تلك الصفات لا هي عين الذات في الذهن، ولا هي غير الذات العليّ في الخارج. وكان الأليق بك وأنت تتكلم تحت عنوان التوحيد أن تقرر أنه هل من وجهة نظرك كزيدي يلزم أهل السنة القول بتعدد القدماء، أو لا؟ وهل هذا الخلاف حقيقي أو لا؟ وما الذي يترتب على هذا الخلاف؟ بدل أن تضعنا وإياكم في طرف في مقابل أهل الحشو والتجسيم. فإنهم إنما يخالفوننا ويخالفونكم، وأنتم تخالفونهم وتخالفوننا، ونحن نخالفهم ونخالفكم. وما أحببت يوماً من مخالف لي أن يكلمني أنا والحشوي، لأن بعض المخالفين يتعمد أن يأتي بكلام السلفية في مقام الكلام مع أهل السنة فيتوهم القاري أن السلفية منهم، ولا يخفى شدة تهافت القوم، فيظلم أهل السنة بسبب تلك الأقوال الساقطة ممن ينتسبون إليهم وهم ليسوا منهم.
قولك: (الرؤية عند السلفية...) لا تعليق لي عليه، بل أعرف هذا وأكثر عن ابن تيمية، ولا أدري إن كنت اطلعت على الكاشف الصغير عن عقائد ابن تيمية لشيخي الفاضل سعيد فودة، فلقد بحث هذه المسائل والكثير غيرها هناك.
في انتظار جوابك. وفقكم الله تعالى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحقّ وأنت خير الفاتحين