[SIZE=5]فلسفة الابتلاء:الابتلاء كمفهوم فلسفى اسلامى لتفسير طبيعه الوجود الانسانى ومفاهيم الخير والشر(2)
د.صبري محمد خليل/ أستاذ فلسفه القيم الاسلاميه في جامعه الخرطوم
Sabri.m.khalil@gmail.com
التفسير الصحيح لمقولة الانسان خير بطبعه: فالتفسير الصحيح لمقوله الانسان" خير بطبعه " هو انه تتوافر للإنسان – عمليا - إمكانية فعل الخير- وقد عبر القرآن عن هذه الإمكانية بمصطلح الفطرة ( فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ(
مقارنة بين مفهومي الفطرة والطبيعة الإنسانية: فمفهوم الفطرة في المنظور القيمى الاسلامى ،هو المفهوم المقابل لمفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربى- خاصة المستند الى الفلسفات المثاليه والليبراليه- ، والذي يتجاوز في ذات الوقت سلبياته. حيث ان مفهوم الطبيعة الإنسانية في المنظور القيمى الغربي ، يتضمن دلالة أن الوجود الإنساني هو وجود مطلق،وبالتالى فان له طبيعه ثابته ، قد تكون خيره- كما فى مذاهبها القائمه على التفاؤل المطلق - او شريره - كما فى مذاهبها القائمه على التشاؤم المطلق - . بينما مفهوم الفطرة فى المنظور القيمى الاسلامى يتضمن دلالة أن الوجود الانسانى وجود محدود بالوجود المطلق - الذى ينفرد به الله تعالى - فالفطرة مشتقة من الخلق وهو صفة ربوبية ينفرد بها الله تعالى- ومضمونها الفعل المطلق فى الايجاد- (فاطر السماوات والأرض) (الأنعام: 14 ) (ومالي لا أعبد الذي فطرني) (يس: 22) فالفطرة تتعلق بظهور الفعل المطلق في الإيجاد- اى الخلق كصفه ربوبية-- في شكله الأخير،المرتبط بالوجود الشهادى المحدود الزمان والمكان، أي ظهوره كهداية "تكوينية"، فهي بالتالي إمكانية انضباط حركة الإنسان بالسنن الإلهية الكلية والنوعية، التى تضبط حركه الوجود الانسانى "المستخلف"، وهى لا تتبدل، لذا نجد أن القرآن يعتبر أن "عدم التبدل" هو سمة مشتركة بين الفطرة والسنن الإلهية: قال تعالى (ولن تجد لسنة الله تبديلا) (الأحزاب: 62 - الفتح: 23)، وقال تعالى (فطرة الله التي فطر الناس عليها ولا تبديل لخلق الله))الروم : 30(.
نقد لمذهب تفسير الفطرة باعتبارها مبادئ وقيم قبليه: وإذا كان هناك مذهب فى تفسير الفطره باعتبارها قائمة على مبادئ قبلية سابقة على تجربة الإدراك الحسي ، ومنفصلة عن الواقع الموضوعي- فهو يقارب التصور الغربى لمفهوم الطبيعة الإنسانية- استدلالاً بالعديد من النصوص وأهمها حديث الفطرة (كل مولود يولد على الفطرة)، غير أن هذا المذهب ترجع جذوره الى مصادر اجنبيه "الفلسفة الأفلاطونية" ، ويتناقض مع منهج المعرفة الاسلامى، الذى يجعل للواقع وجود موضوعي مستقل عن وعي الإنسان، ويقرر ان وسائل معرفته هي الحواس والعقل، (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة). لذا رفضه الكثير من العلماء يقول الامام ابن تيمية (ومعلوم أن كل مولود يولد على الفطرة، ليس المراد به أنه يوم ولدته أمه يكون عارفاً بالله موحداً بحيث يعقل، فان الله يقول والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً (" ، ويقول الرازي (إن هذه العلوم البديهية ما كانت حاصلة في نفوسنا ثم حدثت وحصلت .... إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها بواسطة إعانة الحواس التي هي السمع والبصر (..فمنهج المعرفة الإسلامى اذا يتفق مع التيار التجريبي فى الفلسفه الغربيه الحواس كوسيلة لمعرفة الواقع المادي ، لكنه يختلف عنه فى:اولا: كونه لا يحصر وسائل المعرفه فى الحواس - فهناك العقل والوحي أيضا – ولا مصادر المعرفه فى الوجود المحسوس- فهناك الوجود العقلي والوجود الغيبي ايضا –ثانيا:كما انه يرى ان وسائل ومصادر المعرفة السابقة تمثل المعرفة المكتسبة ، والتى جزء من المعرفة الانسانية وليست كلها ، فهناك ايضا المعرفة الفطرية ولكنها امكانيه وليست تحقق ..ثالثا: ان المعرفة ليست مجرد عكس الوعى للواقع ، بل محصلة التأثير المتبادل بين العقل والواقع .
التمييز بين الإرادة والرضا الالهيين: ان هذه الامكانية مطلوبه - قيميا – لذا ميز النص القرآني بين الارادة والرضا الالهيين ،فالله تعالى أودع فى الإنسان القدرة على التزام إرادة الله التكوينية والتكليفية فينال بذلك رضا الله ( رضي الله عنهم ورضوا عنه )، كما أودع فيه القدرة على مخالفة إرادته فيوجب ذلك غضب الله (.. وغضب الله عليهم )ـ يقول ابن تيميه (وجمهور أهل السنة مع جميع الطوائف وكثيرون من أصحاب الاشعرى يفرقون بين الإرادة والمحبة والرضا ، فيقولون انه وان كان يريد المعاصي لا يحبها ولا يرضاها بل يبغضها ويسخطها وينهى عنها، وهؤلاء يفرقون بين مشيئة الله ومحبته ) (رسالة التوحيد: ص 50(
الشر محصله الكسب البشري: فطبقا للمنظور القيمى الاسلامى فان الشر الحادث فى العالم هو محصلة الكسب البشرى ( ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون). (إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى الله ما لا تعلمون (
الشر ينسب الى مخلوقات الله ولا ينسب لله تعالى: وطبقا لهذا المنظور لا يجوز نسبة الشر الى الله تعالى ، فهو الخير المطلق على وجه الانفراد كما اشرنا سابقا ، ثبت عن الرسول (صلى الله عليه وسلم ) أنه كان يقول في دعاء الاستفتاح ) لبيك وسعديك، والخير كله في يديك، والشرّ ليس إليك ) ( رواه مسلم في صحيحه). ولكن يجوز نسبة الشر الى مخلوقاته (من شر ما خلق) (الفلق: 2(.
مفهوم الحكمة الالهيه المطلقه: وقد قضت إرادة الله بحدوث هذا الشر المنسوب الى مخلوقاته – واهمها الانسان فى حال مخالفته لها – ليس لانها محل رضا الله - ولكن على مقتضى الحكمة الالهيه المطلقه والتى تنقسم الى قسمين:
حكمه معلومه: يعلمها الإنسان، لان الله تعالى ابلغ بها البشر من خلال الوحى، ومن أمثلتها الحكم التى اشرنا اليها سابقا ان حدوث الشر المحدود جزء من الابتلاء الالهى للإنسان ، وان الابتلاء بالشر الغاية منه رجوع الناس من الشر الى الخير.
حكمه خفيه: لا يعملها الانسان,لان الله اختص نفسه بها فهى غيب، ومن امثلتها ان حدوث شر جزئي ظاهر ، قد يكون وراءه خير كلى خفى لايعلمه الا الله تعالى . ومن ادلتها قوله تعالى ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) . وكذلك قصه موسى (عليه السلام ) وعبد من عباد الله آتاه رحمة من عنده وعلمه من لدنه علما ، الواردة فى الآيات 60-82 من سوره الكهف ، فهذه الايات تدل على ان هذا العبد من عباد الله فعل افعال ظاهرها الشر" جزئى " ولكن باطنها خير"كلى "، تنفيذا لاراده الله، ولكن على وجه الاختصاص باعتبار انه موحى اليه سواء كان هذا العبد نبى غير مرسل - وهو مذهب الجمهور- او عبد صالح من اولياء الله – ومذهب بعض العلماء- وفى كل الاحوال فان ذلك قبل ختم النبوة وانقطاع الوحي. يقول ابن حزم) والخضر "عليه السلام " نبي قد مات ، ومحمد "صلى الله عليه وسلم " لا نبي بعده)( المحلى:ج1/ص71) ، وورد في فتاوى الرملي ( أما السيد الخضر فالصحيح كما قاله جمهور العلماء أنه نبي ..)( ج4/ص222 ) ، وورد فى فتح الباري لابن حجر) وينبغي اعتقاد كونه نبيا لئلا يتذرع بذلك أهل الباطل في دعواهم أن الولي أفضل من النبي) (ج1/ ص 219 (.
مفهوم اللطف الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الشر الحادث فى العالم مع كونه محدود ومصدره مخلوقاته وليس ذاته ، وكون الله قد اذن به على مقتضى الحكمة الالهيه المعلومه او الخفيه - لغايات خيره، فإنه خاضع للطف الالهى المطلق والذى يدل عليه كون اللطيف من أسمائه الحسنى (وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ ) (الملك:14) وله مظاهر متعددة ومنها:اولا: ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبيه - ييسر للإنسان سلوك الطرق التى تقربه الى الخير وتبعده عن الشر بطرق خفية لا يعلمها ، على مقتضى الأسباب وبدون اجبار . يقول ابن القيم ( واسمه اللطيف يتضمن : علمه بالأشياء الدقيقة ، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية )( شفاء العليل :ص 34). ومن نماذجها فى القران الكريم قصة يوسف (عليه السلام )، وتنقل أحواله من رؤياه و حسد إخوته له، وسعيهم في إبعاده ومحنته بالنسوة ثم بالسجن .ثم بالخروج منه بسبب رؤيا الملك العظيمة ، وانفراده بتعبيرها ، وتبوئه من الأرض حيث يشاء، ثم ما حصل بعد ذلك من من لقاء بابوه واخوته ، واعتراف اخوته له بخطائهم واقرارهم بمكانته، وكل ذلك تمت الاشاره اليه فى قول يوسف (عليه السلام) (إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) ( السعدى / تفسير أسماء الله الحسنى/ ص227) .ثانيا: ان الفعل الالهى المطلق- الذى عبر عنه القران بمصطلح الربوبية - يخفف من الشر قبل حدوثه فى الوجود الشهادى المحدود زمانا ومكانا لطفا بالإنسان. وهذا التخفيف الإلهى لا يتعارض مع مفهومى القضاء والقدر الواجب الإيمان بهما ، لأنه لا يتعلق بالقدر المطلق ، اى الذى يعلمه الله تعالى ذو العلم المطلق على وجه الانفراد ، وتحققه غير مشروط ، فهو غير القابل للتغيير، بل يرتبط بالقضاء النسبى"اى الذى يعلمه سواه تعالى ممن علمهم محدود "كالملائكة مثلا" ، وتحققه مشروط "اى متوقف على شروط معينة"، فهو قابل للتغيير بالالتزام بشروطه ومثاله الزيادة فى اجل ورزق الإنسان ورد الشر ، المعلوم لدى ملائكه الموكل لها كتابه الاجال وقبض الارواح والأرزاق ، فى حالات البر والدعاء وصلة الرحم ، كما في الحديث الذي رواه أحمد والترمذي وابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال( لا يزيد في العمر إلا البر، ولا يرد القدر إلا الدعاء، وإن الرجل ليحرم الرزق بخطيئة يعملها ) ، وقال( صلى الله عليه وسلم (( من سره أن يبسط له في رزقه، أو ينسأ له في أثره، فليصل رحمه).( رواه البخاري). قال النووي( ... وأما التأخير في الأجل ؛ ففيه سؤال مشهور، ولا وهو أن الآجال والأرزاق مقدرة، لا تزيد تنقص...وأجاب العلماء بأجوبة :الصحيح منها: ... والثاني : أنه بالنسبة لما يظهر للملائكة ... فيظهر لهم في اللوح أن عمره ستون سنة إلا أن يصل رحمه، فإن وصلها زيد له أربعون، وقد علم الله سبحانه وتعالى ما سيقع له من ذلك، وهو من معنى قوله تعالى" يمحو الله ما يشاء ويثبت". (
مفهوم العوض الالهى: كما ان المنظور القيمى الالهى يقرر ان كل من أصابه هذا الشر المحدود ، المنسوب الى مخلوقات الله ، والذي أذن تعالى بحدوثه بحكمه الهيه معلومه او خفيه، فان الله تعالى يعوضه بدلا منه خير، سواء فى الدنيا او الاخره ، قال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( ما أصاب العبد من هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه)( أخرجه مسلم في صحيحه(.
مفهوم العدل الالهى: كما ان المنظور القيمى الاسلامى يقرر ان الفعل الالهى المطلق يتصف بالعدل:: (وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً)( الأنعام :115) . فالعدل الالهى لازم التحقق سواء فى المبتدا او المنتهى ، اى ان كل فعل خير يثاب سواء فى الدنيا او الاخره ،وكل فعل شرير يعاقب سواء فى الدنيا او الاخره (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه . وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهفمن يعمل) , كما انه – اى العدل الالهى – لازم التحقق على وجه الاجمال" المجموع"، ان لم يكن على وجه التفصيل" الاحاد" ، فلكل الناس نصيب من النعم الالهيه التى لا تحصى (وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ) ، ومجموع ما يناله كل فرد منها مساوي لنصيب غيره ، لكن الافراد يختلفون فقط فى نوع ومجال وزمن تحقق هذه النعم الالهيه لكل منهم .
اثابه فاعل الخير تشمل المسلم والكافرمع اختلاف الكيفيه والتوقيت: فالمنظور القيمى الاسلامى يقرر ان فعل الخيرهو فطره انسانيه (فطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها)،وهذا يعنى انه امكانيه مطلوبه قيميا من المسلم والكافر. والعداله الالهيه تقتضى ان يثاب فاعل الخير- كما يعاقب فاعل الشر – المسلم والكافر، فالاختلاف بينهما لا يرجع الى الاثابه ذاتها – فهو ثابت فى حقهما معا - بل الى كيفيتها وتوقيتها ، قال تعالىهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ )، ينقل القرطبى فى تفسيره (قال محمد ابن الحنيفة والحسن : هي مسجلة للبر والفاجر ، أي مرسلة على الفاجر في الدنيا والبر في الآخرة(|.
اختلاف انتفاع المسلم والكافر بفعل الخير فى الكيفيه والتوقيت : ويترتب على هذا انتفاع المسلم والكافر ايضا بفعل الخير،وان الاختلاف بينهما لا يرجع الى الانتفاع ذاته – فهو ثابت فى حقهما – لكن يرجع الى كفيته وتوقيته. فقد اتفق العلماء ان الكافر ينتفع بفعل الخير- الذى لا تشترط فيه النيه - في الدنيا . أما في الآخرة فرغم انهم فاتفقوا انه لا ينتفع به بمعنى أنه لا ينجيه من النار نهائيا ، ولكنهم اختلفوا في انتفاعه به بمعنى تخفيف العذاب عنه على مذهبين:الأول: النفى، الثاني:الاثبات بمعنى انه يمكن أن ينفعه الله به تفضلا ، استندا الى بعض النصوص، وقال بهذا المذهب العديد من العلماء ,يقول الْبَيْهَقِيُّ( ... وَيَجُوز أَنْ يُخَفِّف عَنْهُمْ مِنْ الْعَذَاب الَّذِي يَسْتَوْجِبُونَهُ عَلَى مَا اِرْتَكَبُوهُ مِنْ الْجَرَائِم سِوَى الْكُفْر بِمَا عَمِلُوهُ مِنْ الْخَيْرَات) . ويقول ابن حجر فى معرض الرد على النفاه ( وَهَذَا لَا يَرُدّ الِاحْتِمَال الَّذِي ذَكَرَهُ الْبَيْهَقِيُّ , فَإِنَّ جَمِيع مَا وَرَدَ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّق بِذَنْبِ الْكُفْر , وَأَمَّا ذَنْب غَيْر الْكُفْر فَمَا الْمَانِع مِنْ تَخْفِيفه). وسئل الشيخ محمد الرملي : هل يثاب الكافر على القرب التي لا تحتاج إلى نية ... ؟ فأجاب: نعم يخفف الله عنه العذاب في الآخرة - أي عذاب غير الكفر- كما خفف عن أبي لهب في كل يوم اثنين بسبب سروره بولادة النبي (صلى الله عليه وسلم) , وإعتاقه ثويبة حين بشرته بولادته (عليه الصلاة والسلام) (للمزيد انظر: هل ينتفع الكافر بعمل الخير في الآخرة؟ موقع رابطة العلماء السوريين / الاستشارات والفتاوى / رقم الفتوى : 47 / 5 مايو 2013(.
الظهور الذاتي " التجلي" للخير الالهى المطلق: وله شكلين:
مقيد: فى عالم الشهادة " المتضمن الحياة الدنيا "، وله شكلين :الأول تكويني يتمثل فى المعجزه، والثانى تكليفي يتمثل فى الوحى، وكلاهما مقصور على الرسل والانبياء، وبالتالى فان غايتهما هداية الإنسان لما فيه صلاحه فى الدنيا والاخره ، لأنهما جزء من مفهومى النبوة والرسالة .
مطلق: في عالم الغيب " المتضمن للحياة الآخرة" ، ويتضمن: اولا: الجزاء الأخروى على أفعال الإنسان الخيرة والشريرة فى الدنيا( فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)، تحقيقا للعدالة الالهيه ( جَزَاء وِفَاقاً)( النبأ :26). ثانيا :.الجنه كثواب اخروى على العمل الصالح للمؤمنين فى الدنيا قال تعالى(وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). ثالثا: التجلي الذاتي " الخاص " ، المقصور على الصالحين من المؤمنين، والذي اشارت اليه النصوص ، كقوله تعالى(وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة )، وهو ما عبر عنه أهل السنة ب " رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة ". وبعبارة اخرى فان الخير المطلق- الذى ينفرد به الله تعالى - يتجلى فى الحياه الاخره ، لمن أظهره فى الحياه الدنيا- بتقييد وجوده به تكوينيا"بالالتزام بالسنن الالهيه"،وتكليفيا "بالالتزام بمفاهيم وقيم وقواعد الوحى الكليه"- . كما انه يحتجب عمن كتمه فى الحياه الدنيا - بعدم تقييد وجوده به تكوينيا وتكليفيا –
تصحيح المفاهيم الخاطئة عن العذاب الأخروي:
العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته بل وسيله لتحقيق العدل: فالنصوص تقرر ان العذاب الاخروى ليس غايه فى ذاته ، وانما هو وسيله لتحقيق العداله الالهيه (مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم(.
العدل الالهى مرتبط بالرحمه- الالهيه - : "مفهوم العفو الالهى"وقاعده "جواز اخلاف الله تعالى وعيده"عند اهل السنه :غير ان العدل الالهى ليس عدل مجرد، بل عدل مرتبط بالرحمه – الالهيه - ( عْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ). ومن مظاهر هذا الارتباط العفو الالهى ، الذى اشارت اليه العديد من النصوص: (انَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)(النساء: 43) . ويشمل التجاوُزُ عن الذنب وتَرْك العِقاب عليه ( وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) . واتساقا معه قررت اهل السنه قاعده (لايجوز على الله تعالى اخلاف وعده – اى وعده للمحسن بالثواب- ولكن يجوز عليه اخلاف وعيده- اى وعيده للمسى بالعقاب-) ،وقد نقل ان القيم هذه القاعده فى كتاب مدارج السالكين فى معرض بيانه اقوال العلماء فى تفسير الايه" مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا " (هذا وعيد وإخلاف الوعيد لا يذمّ، بل يمدح، والله تعالى يجوز عليه إخلاف الوعيد، ولا يجوز عليه خلف الوعد (.
قاعدة" كل مسلم يدخل الجنة فى الحال او المآل : وقد قررت العديد من النصوص ان من قال لا إله الا الله دخل الجنة ومنها قوله (صلى الله عليه وسلم)، من قال: لا إله إلا الله صدقًا من قلبه دخل الجنة) (اخرجه أبو يعلى في مسنده 6/10)، ورتب أهل السنة على هذه النصوص قاعدة ان كل مسلم يدخل الجنة فى الحال " المبتدأ " (اى ان كل مسلم مطيع لإرادة الله يدخل الجنه وتحرم عليه النار)، او فى المآل "المنتهى "(اى ان المسلم العاصى لارادة الله امره متوقف على المشيئه الالهيه ( وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء)، ان شاء غفر له ذنوبه وادخله الجنه بدون عقاب، سواء بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين كالملائكة والأنبياء - وعلى راسهم الرسول (صلى الله عليه وسلم)- بعد اذن الله لهم (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وان شاء أدخله النار لينال عقابه على ذنوبه ثم أخرجه منها ايضا بدون شفاعة او بشفاعة الشافعين بعد الاذن الالهي.
خلود المسلم مرتكب الكبيره فى النار معلق وليس مطلق: واذا كانت النصوص تقرر خلود المسلم مرتكب الكبيره فى الناركما فى قوله تعالى ( وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا )( النساء: 48 ).فان علماء اهل السنه قد قررو ان هذا الخلود ليس خلود مطلق كما هو الحال عند الكافر الذى بلغته الرسلات السماويه وانكرها ، بل هو خلود معلق , اى متوقف على مشيئه اللهتعالى، ان شاء انفذه وان شاء اوقفه ، استناد الى نصوص اخرى كقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ). يقول الطبري في “تفسيره”(وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله)، ويقول الطحاوي ( وأهل الكبائر في النار لا يخلدون، إذا ماتوا وهم موحدون، وإن لم يكونوا تائبين، بعد أن لقوا الله عارفين مؤمنين، وهم في مشيئته وحكمه، إن شاء غفر لهم وعفا عنهم (.
لا يدخل كل الكفار النار " مفهوم اهل الفتره عند اهل السنه" : والنصوص تقرر ان العذاب الاخروى مقصور على من بلغته الرسالات السماويه وانكرها ، قال تعالى: (كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً).لذا قال العديد من علماء هل السنه إنّ أهل الفترة معذورون اى من ماتوا على الكفرفى فتره انقطاع الرسالات، يقول الامام الغزالى ) ... ولم تبلغهم الدعوة، فإنهم ثلاثة أصناف:صنف لم يبلغهم اسم محمد"صلى الله عليه وسلم" أصلًا، فهم معذورون...) (فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ص 84). اما كيفيه حسابهم فقال بعض العلماء يحاسبون حسب فطرتهم ،وقريب منه قول آخرون أنهم يمتحنون يوم القيامة ، ومنهم ابن كثير الذى يقول : ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات؛ فمن أطاع دخل الجنة. وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة. وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها. وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض. وهذا القول هو الذي حكاه أبو الحسن علي بن إسماعيل عن أهل السنة والجماعة، وهو الذي نصره أبو بكر البيهقي في كتاب الاعتقاد.
.................................................. ...................
الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات
https://drsabrikhalil.wordpress.com