سورة الاحقاف
قال الرازى
قوله { إِلاَّ بِظ±لْحَقّ } معناه إلا لأجل الفضل والرحمة والإحسان، وأن الإلظ°ه يجب أن يكون فضله زائداً وأن يكون إحسانه راجحاً، وأن يكون وصول المنافع منه إلى المحتاجين أكثر من وصول المضار إليهم، قال الجبائي هذا يدل على أن كل ما بين السمظ°وات والأرض من القبائح فهو ليس من خلقه بل هو من أفعال عباده، وإلا لزم أن يكون خالقاً لكل باطل، وذلك ينافي قوله
{ مَا خَلَقْنَـظ°هُمَا إِلاَّ بِظ±لْحَقّ }
[الدخان: 39] أجاب أصحابنا وقالوا: خلق الباطل غير، والخلق بالباطل غير، فنحن نقول إنه هو الذي خلق الباطل إلا أنه خلق ذلك الباطل بالحق لأن ذلك تصرف من الله تعالى في ملك نفسه وتصرف المالك في ملك نفسه يكون بالحق لا بالباطل، قالوا والذي يقرر ما ذكرناه أن قوله تعالى: { مَا خَلَقْنَا ظ±لسَّمَـظ°وَاتِ وَظ±لأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا } يدل على كونه تعالى خالقاً لكل أعمال العباد، لأن أعمال العباد من جملة ما بين السمظ°وات والأرض، فوجب كونها مخلوقة لله تعالى ووقوع التعارض في الآية الواحدة محال فلم يبق إلا أن يكون المراد ما ذكرناه فإن قالوا أفعال العباد أعراض، والأعراض لا توصف بأنها حاصلة بين السماوات والأرض، فنقول فعلى هذا التقدير سقط ما ذكرتموه من الاستدلال والله أعلم. وأما المطلب الثالث: فهو دلالة الآية على صحة القول بالبعث والقيامة، وتقريره أنه لو لم توجد القيامة لتعطل استيفاء حقوق المظلومين من الظالمين، ولتعطل توفية الثواب على المطيعين وتوفية العقاب على الكافرين وذلك يمنع من القول بأنه تعالى خلق السمظ°وات والأرض وما بينها لابالحق. وأما قوله تعالى: { وَأَجَلٍ مُّسَمّىً } فالمراد أنه ما خلق هذه الأشياء إلا بالحق وإلا لأجل مسمى وهذا يدل على أن إلظ°ه العالم ما خلق هذا العالم ليبقى مخلداً سرمداً، بل إنما خلقه ليكون داراً للعمل، ثم إنه سبحانه يفنيه ثم يعيده، فيقع الجزاء في الدار الآخرة، فعلى هذا الأجل المسمى هو الوقت الذي عينه الله تعالى لإفناء الدنيا.
...
المسألة الثانية: قالت المعتزلة هذه الآية تدل على أنه تعالى إنما منعهم الهداية بناء على الفعل القبيح الذي صدر منهم أولاً، فإن قوله تعالى: { إِنَّ ظ±للَّهَ لاَ يَهْدِي ظ±لْقَوْمَ ظ±لظَّـظ°لِمِينَ } صريح في أنه تعالى لا يهديهم لكونهم ظالمين أنفسهم فوجب أن يعتقدوا في جميع الآيات الواردة في المنع من الإيمان والهداية أن يكون الحال فيها كما ههنا، والله أعلم...
وقال القرطبي
وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } يريد يوم القيامة. ولما نزلت فرح المشركون واليهود والمنافقون وقالوا: كيف نتبع نبياً لا يدري ما يُفعل به ولا بنا، وأنه لا فضل له علينا، ولولا أنه ظ±بتدع الذي يقوله من تلقاء نفسه لأخبره الذي بعثه بما يفعل به؛ فنزلت:
{ لِّيَغْفِرَ لَكَ ظ±للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ }
[الفتح: 2] فنسخت هذه الآية، وأرغم الله أنف الكفار. وقالت الصحابة: هنيئاً لك يا رسول الله، لقد بيّن الله لك ما يفعل بك يا رسول الله، فليت شعرنا ما هو فاعل بنا؟ فنزلت:
{ لِّيُدْخِلَ ظ±لْمُؤْمِنِينَ وَظ±لْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ظ±لأَنْهَارُ }
[الفتح: 5] الآية. ونزلت:
{ وَبَشِّرِ ظ±لْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ ظ±للَّهِ فَضْلاً كِبِيراً }
[الأحزاب:47]. قاله أنس وابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة والضحاك. وقالت أم العلاء امرأةٌ من الأنصار: ظ±قتسمنا المهاجرين فطار لنا عثمان بن مَظْعُون بن حُذافة بن جُمَح، فأنزلناه أبياتنا فَتُوفِّيَ، فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب! إن الله أكرمك. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: " وما يدريك أن الله أكرمه " ؟ فقلت: بأبي وأمي يا رسول الله! فمن؟ظ° قال: " أمّا هو فقد جاءه اليقين وما رأينا إلا خيراً فوالله إني لأرجو له الجنة ووالله إني لرسول الله وما أدري ما يفعل بي ولا بكم " قالت: فوالله لا أزكّي بعده أحداً أبداً. ذكره الثعلبي، وقال: وإنما قال هذا حين لم يعلم بغفران ذنبه، وإنما غفر الله له ذنبه في غَزْوَة الحُدَيْبِيَةِ قبل موته بأربع سنين.
قلت: حديثُ أمِّ العلاء خرّجه البخاري، وروايتي فيه: «وما أدري ما يُفعل به» ليس فيه «بي ولا بكم» وهو الصحيح إن شاء الله، على ما يأتي بيانه. والآية ليست بمنسوخة؛ لأنها خبر. قال النحاس: محال أن يكون في هذا ناسخ ولا منسوخ من جهتين: أحدهما أنه خبر، والآخر أنه من أوّل السورة إلى هذا الموضع خطاب للمشركين واحتجاج عليهم وتوبيخ لهم؛ فوجب أن يكون هذا أيضاً خطاباً للمشركين كما كان قبله وما بعده، ومحال أن يقول النبيّ صلى الله عليه وسلم للمشركين: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» في الآخرة؛ ولم يزل صلى الله عليه وسلم من أوّل مبعثه إلى مماته يخبر أن من مات على الكفر مخلّد في النار، ومن مات على الإيمان وظ±تبعه وأطاعه فهو في الجنة؛ فقد رأى صلى الله عليه وسلم ما يفعل به وبهم في الآخرة
وليس يجوز أن يقول لهم ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الآخرة؛ فيقولون كيف نتبعك وأنت لا تدري أتصير إلى خفض ودَعة أم إلى عذاب وعقاب. والصحيح في الآية قول الحسن، كما قرأ علي بن محمد بن جعفر بن حفص عن يوسف بن موسى قال حدّثنا وكيع قال حدّثنا أبو بكر الهذلي عن الحسن: «وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ فِي الدُّنْيَا» قال أبو جعفر: وهذا أصح قولٍ وأحسنه، لا يدري صلى الله عليه وسلم ما يلحقه وإياهم من مرض وصحة ورخص وغلاء وغنى وفقر. ومثله:
{ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ ظ±لْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ ظ±لْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ ظ±لسُّوغ¤ءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }
[الأعراف: 188]. وذكر الواحدي وغيره عن الكلبي عن أبي صالح أن ابن عباس " لما اشتدّ البلاء بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يهاجر إلى أرض ذات نخل وشجر وماء؛ فقصّها على أصحابه فاستبشروا بذلك، ورأوا فيها فرجاً مما هم فيه من أذى المشركين، ثم إنهم مكثوا برهة لا يرون ذلك فقالوا: يا رسول الله، متى نهاجر إلى الأرض التي رأيت؟ فسكت النبيّ صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي لا أدري أأخرج إلى الموضع الذي رأيته في منامي أم لا. ثم قال: «إنما هو شيء رأيته في منامي ما أتبع إلا ما يُوحَى إلي» " أي لم يوح إليّ ما أخبرتكم به. قال القُشَيري: فعلى هذا لا نسخ في الآية. وقيل: المعنى لا أدري ما يفرض عليّ وعليكم من الفرائض. واختار الطبري أن يكون المعنى: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، أتؤمنون أم تكفرون، أم تعاجلون بالعذاب أم تؤخّرون.
قلت: وهو معنى قول الحسن والسُّدِّي وغيرهما. قال الحسن: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم (في الدنيا، أما في الآخرة فمعاذ الله! قد علم أنه في الجنة حين أخذ ميثاقه في الرسل، ولكن قال) ما أدري ما يفعل بي في الدنيا أأخرج كما أخرجت الأنبياء قبلي، أو أقتل كما قُتلت الأنبياء قبلي؛ ولا أدري ما يفعل بكم؛ أأمّتي المصدّقة أم المكذّبة، أم أمتي المرمية بالحجارة من السماء قَذْفاً، أو مخسوفٌ بها خَسْفاً؛ ثم نزلت:
{ هُوَ ظ±لَّذِيغ¤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِظ±لْهُدَىظ° وَدِينِ ظ±لْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ظ±لدِّينِ كُلِّهِ }
[الصف: 9]. يقول: سيظهر دينه على الأديان.
ثم قال في أمته:
{ وَمَا كَانَ ظ±للَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ }
[الأنفال: 33] فأخبره تعالى بما يصنع به وبأمته؛ ولا نسخ على هذا كله، والحمد لله. وقال الضحاك أيضاً: «ما أدري ما يفعل بي ولا بكم» أي ما تؤمرون به وتنهون عنه. وقيل: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول للمؤمنين ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في القيامة؛ ثم بين الله تعالى ذلك في قوله: { لِّيَغْفِرَ لَكَ ظ±للَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } وبيّن فيما بعد ذلك حال المؤمنين ثم بيّن حال الكافرين.
قلت: وهذا معنى القول الأوّل؛ إلا أنه أطلق فيه النسخ بمعنى البيان، وأنه أمر أن يقول ذلك للمؤمنين؛ والصحيح ما ذكرناه عن الحسن وغيره. و «ما» في «ما يفعل» يجوز أن تكون موصولة، وأن تكون استفهامية مرفوعة. { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَىظ° إِلَيَّ وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ }...
قال الرازى
ثم قال تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـظ°بُ ظ±لْجَنَّةِ خَـظ°لِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على مسائل أولها: قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ أَصْحَـظ°بُ ظ±لْجَنَّةِ } وهذا يفيد الحصر، وهذا يدل على أن أصحاب الجنة ليسوا إلا الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة قبل التوبة لا يدخل الجنة وثانيها: قوله تعالى: { جَزَاءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وهذا يدل على فساد قول من يقول: الثواب فضل لا جزاء وثالثها: أن قوله تعالى: { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } يدل على إثبات العمل للعبد ورابعها: أن هذا يدل على أنه يجوز أن يحصل الأثر في حال المؤثر، أو أي أثر كان موجوداً قبل ذلك بدليل أن العمل المتقدم أوجب الثواب المتأخر وخامسها: كون العبد مستحقاً على الله تعالى، وأعظم أنواع هذا النوع الإحسان إلى الوالدين، لا جرم أردفه بهذا المعنى، فقال تعالى: { وَوَصَّيْنَا ظ±لإِنْسَـظ°نَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } وقد تقدم الكلام في نظير هذه الآية في سورة العنكبوت، وفي سورة لقمان،...