سورة الشورى
قال الرازى
والصفة الثالثة قوله { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } وهذا يدل على مطلوبين في غاية الجلال أحدهما: كونه موصوفاً بقدرة كاملة نافذة في جميع أجزاء السمـٰوات والأرض على عظمتها وسعتها بالإيجاد والإعدام والتكوين والإبطال والثاني: أنه لما بيّـن بقوله { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } أن كل ما في السمـٰوات وما في الأرض فهو ملكه وملكله، وجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في السمـٰوات وفي الأرض، وإلا لزم كونه ملكاً لنفسه، وإذا ثبت أنه ليس في شيء من السمـٰوات امتنع كونه أيضاً في العرش، لأن كل ما سماك فهو سماء فإذا كان العرش موجوداً فوق السمـٰوات كان في الحقيقة سماء، فوجب أن يكون كل ما كان حاصلاً في العرش ملكاً لله وملكاً له، فوجب أن يكون منزّهاً عن كونه حاصلاً في العرش، وإن قالوا إنه تعالى قال: { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ } وكلمة ما لا تتناول من يعقل قلنا هذا مدفوع من وجهين الأول: أن لفظة ما واردة في حق الله تعالى قال تعالى:
{ وَٱلسَّمَاء وَمَا بَنَـٰهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَـٰهَا }
[الشمس: 5، 6] وقال:
{ لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَـٰبِدُونَ مَا أَعْبُدُ }
[الكافرون: 2، 3] والثاني: أن صيغة من وردت في مثل هذه السورة قال تعالى:
{ إِن كُلُّ مَن فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ إِلاَّ آتِى ٱلرَّحْمَـٰنِ عَبْداً }
[مريم: 93] وكلمة من لا شك أنها واردة في حق الله تعالى فدلّت هذه الآية على أن كل من في السمـٰوات والأرض فهو عبد الله فلو كان الله موجوداً في السمـٰوات والأرض وفي العرش لكان هو من جملة من في السمـٰوات فوجب أن يكون عبد الله، ولما ثبت بهذه الآية أن كل من كان موجوداً في السمـٰوات والعرش فهو عبد لله وجب فيمن تقدست كبرياؤه عن تهمة العبودية أن يكون منزّهاً عن الكون في المكان والجهة والعرش والكرسي. والصفة الرابعة والخامسة قوله تعالى: { وَهُوَ ٱلْعَلِيُّ ٱلْعَظِيمُ } ولا يجوز أن يكون المراد بكونه علياً العلو في الجهة والمكان لما ثبتت الدلالة على فساده، ولا يجوز أن يكون المراد من العظيم العظمة بالجثة وكبر الجسم، لأن ذلك يقتضي كونه مؤلفاً من الأجزاء والأبعاض، وذلك ضد قوله ٱللَّهُ أَحَدٌ }
[الإخلاص: 1] فوجب أن يكون المراد من العلي المتعالي عن مشابهة الممكنات ومناسبة المحدثات، ومن العظيم العظمة بالقدرة والقهر بالاستعلاء وكمال الإلٰهية...
المسألة الثانية: في فائدة قوله { مِن فَوْقِهِنَّ } وجوه الأول: روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قال والمعنى أنها تكاد تتفطر من ثقل الله عليها. واعلم أن هذا القول سخيف، ويجب القطع ببراءة ابن عباس عنه، ويدل على فساده وجوه: الأول: أن قوله { مِن فَوْقِهِنَّ } لا يفهم منه ممن فوقهن وثانيها: هب أنه يحمل على ذلك، لكن لم قلتم إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الله عليها، ولم لا يجوز أن يقال إن هذه الحالة إنما حصلت من ثقل الملائكة عليها، كما جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: " أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع شبر إلا وفيه ملك قائم أو راكع أو ساجد " وثالثها: لم لا يجوز أن يكون المراد تكاد السمٰوات تنشق وتنفطر من هيبة من هو فوقها فوقية بالإلٰهية والقهر والقدرة؟، فثبت بهذه الوجوه أن القول الذي ذكروه في غاية الفساد والركاكة والوجه الثاني: في تأويل الآية ما ذكره صاحب «الكشاف»: وهو أن كلمة الكفر إنما جاءت من الذين تحت السمٰوات، وكان القياس أن يقال: يتفطرن من تحتهن من الجهة التي جاءت منها الكلمة، ولكنه بولغ في ذلك فقلب فجعلت مؤثرة في جهة الفوق، كأنه قيل: يكدن يتفطرن من الجهة التي فوقهن، ودع الجهة التي تحتهن، ونظيره في المبالغة قوله تعالى
{ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسَهُمْ ٱلْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَٱلْجُلُودُ }
[الحج: 19، 20] فجعل مؤثراً في أجزائه الباطنة الوجه الثالث: في تأويل الآية أن يقال { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين، لأنه تعالى قال قبل هذه الآية { لَّهُ مَا فِي ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ثم قال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } أي من فوق الأرضين والوجه الرابع: في التأويل أن يقال معنى { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة التي حصلت هذه السمٰوات فيها، وتلك الجهة هي فوق، فقوله { مِن فَوْقِهِنَّ } أي من الجهة الفوقانية التي هن فيها....
. واعلم أن مخلوقات الله تعالى نوعان: عالم الجسمانيات وأعظمها السمٰوات، وعالم الروحانيات وأعظمها الملائكة، والله تعالى يقرر كمال عظمته لأجل نفاذ قدرته وهيبته في الجسمانيات، ثم يردفه بنفاذ قدرته واستيلاء هيبته على الروحانيات، والدليل عليه أنه تعالى قال في سورة
{ عَمَّ يَتَسَاءلُونَ }
[النبأ: 1] لما أراد تقرير العظمة والكبرياء بدأ بذكر الجسمانيات، فقال:
{ رَبّ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا ٱلرَّحْمَـٰنِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً }
[النبأ: 37] ثم انتقل إلى ذكر عالم الروحانيات، فقال
{ يَوْمَ يَقُومُ ٱلرُّوحُ وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً }
[النبأ: 38] فكذلك القول في هذه الآية بين كمال عظمته باستيلاء هيبته على الجسمانيات، فقال: { تَكَادُ ٱلسَّمَـٰوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } ثم انتقل إلى ذكر الروحانيات، فقال: { وَٱلْمَلَـٰئِكَةُ يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } فهذا ترتيب شريف وبيان باهر. واعلم أن الموجودات على ثلاثة أقسام: مؤثر لا يقبل الأثر، وهو الله سبحانه وتعالى وهو أشرف الأقسام، ومتأثر لا يؤثر، وهو القابل وهو الجسم وهو أخس الأقسام، وموجود يقبل الأثر من القسم الأول، ويؤثر في القسم الثاني وهو الجواهر الروحانيات المقدسة، وهو المرتبة المتوسطة، إذا عرفت هذا فنقول الجواهر الروحانية لها تعلقان: تعلق بعالم الجلال والكبرياء، وهو تعلق القبول، فإن الجلايا القدسية والأضواء الصمدية إذا أشرقت على الجواهر الروحانية استضاءت جواهرها وأشرقت ماهياتها، ثم إن الجواهر الروحانية إذا استفادت تلك القوى الروحانية، قويت بها على الاستيلاء على عوالم الجسمانيات، وإذا كان كذلك فلها وجهان: وجه إلى جانب الكبرياء وحضرة الجلال، ووجه إلى عالم الأجسام والوجه الأول أشرف من الثاني. إذا عرفت هذا فنقول: قوله تعالى: { يُسَبّحُونَ بِحَمْدِ رَبّهِمْ } إشارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الجلال والكبرياء، وقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } إشاارة إلى الوجه الذي لهم إلى عالم الأجسام، فما أحسن هذه اللطائف وما أشرفها وما أشد تأثيرها في جذب الأرواح من حضيض الخلق إلى أوج معرفة الحق...
واعلم أن قوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } يدل على أنهم لا يستغفرون لأنفسهم، ولو كانوا مصرين على المعصية لكان استغفارهم لأنفسهم قبل استغفارهم لمن في الأرض، وحيث لم يذكر الله عنهم استغفارهم لأنفسهم علمنا أنهم مبرءون عن كل الذنوب والأنبياء عليهم السلام لهم ذنوب والذي لا ذنب له ألبتة أفضل ممن له ذنب وأيضاً فقوله { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي ٱلأَرْضِ } يدل على أنهم يستغفرون للأنبياء لأن الأنبياء في جملة من في الأرض، وإذا كانوا مستغفرين للأنبياء عليهم السلام كان الظاهر أنهم أفضل منهم. ...