بسم الله الرحمن الرحيم .. الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله، وبعد.
هذا نص مهم ومفيد، يبين فيه الإمام ملاخسرو، رحمه الله تعالى، وهو من أئمة الفقه الحنفي الكبار، كيف أنه استفاد من توليه منصب القضاء في تتبع جزئيات الوقائع والنوازل، وهذا أمر لا يعرف بمجرد الدراسة النظرية، ولكن بتنزيل هذه الأحكام على أصحابها، فيحتاج المفتي إلى مزيد من النظر والتدقيق لا يتاح لكل شخص، كما أن معرفة أنواع الناس وتفاصيل أحوالهم يتعاطاه القاضي بنوع من التدقيق غير تعاطي الفقيه...
قال الإمام ملا خسرو رحمه الله تعالى في مقدمة كتابه: درر الحكام شرح غرر الأحكام، ما نصه:
[فإن الله تعالى لما جعل نبينا - عليه السلام - خاتم الأنبياء والرسل والموضح لأقوم المناهج والسبل وكانت حوادث الأيام خارجة عن التعداد، ومعرفة أحكامها لازمة إلى يوم التناد، ولم تف ظواهر النصوص ببيانهما بل لا بد من طريق لها واف بشأنها اقتضت الحكمة الآلهية جعل مثل هذه الأمة مع علمائهم كمثل بني إسرائيل مع أنبيائهم فجعل في قدماء هذه الأمة أئمة كالأعلام، مهد بهم قواعد الشرع، وشيد بنيان الإسلام، وأوضح بآرائهم معضلات الأحكام لينال الفلاح من اتبعهم إلى يوم القيام، اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة، تضيء القلوب بأنوار أفكارهم، وتسعد النفوس باتباع آثارهم، وخص من بينهم نفرا بإعلاء أقدارهم ومناصبهم، وإبقاء أذكارهم ومذاهبهم.
إذ على أقوالهم مدار الأحكام، وبمذاهبهم يفتي فقهاء الإسلام، وخص منهم الإمام الأعظم، والهمام الأقدم، سراج الملة والدين الثابت، الإمام أبا حنيفة نعمان الثابت، بوأه الله تعالى أعلى غرف الجنان، وأفاض على مرقده سجال الغفران بكثرة المجتهدين من المتمسكين بمذهبه وغزارة مستنبطاته وعذوبة مشربه. فإن ما أفاده من الأحكام بحر متلاطم الأمواج، بل لإماطة ظلمة الضلال سراج وهاج.
ولقد كنت من إبان الأمر وعنفوان العمر مغترفا من ذلك البحر وأصوله، متفحصا عن مسائل أبوابه وفصوله، بالاستفادة من المنسوبين إليه، والإفادة للطالبين المكبين عليه، وابتليت في أثنائه ببلاء القضاء بلا رغبة فيه ولا رضاء، وأعد ما يمضي فيه من عمري عبثا ومخالطة العوام ومخاطبة غير أهل الإسلام خبثا، حتى كان يخطر في خلدي دائما أنه غير لائق بحالي.
وكنت أسأل الله تعالى أن يبدل بالخير مآلي، ومع ذلك لم يكن ذلك الابتلاء خاليا عن حكمة ولا عاريا عن فائدة ومصلحة، حيث كان سببا لتتبع أحكام جزئيات الوقائع والنوازل، والعثور على تقييد إطلاقات المتون في تقرير المسائل،
فصار باعثا لي على كتب متن حاو للفوائد، خاو عن الزوائد، موصوف بصفات مذكورة في خطبته، داعية لكمل الرجال إلى خطبته، مرعي فيه ترتيب كتب الفن على النمط الأحرى والوجه الأحسن، فاختلست فرصا من بين الاشتغال، وانتهزت نهزا مع توزع البال، وحين قرب إتمامه وآن أن يفض بالاختتام ختامه خلصني الله تعالى من بلاء القضاء، إذ بعد حصول المراد بالابتلاء يخلص من البلاء، فوجب علي شكر نعمتي إتمامه وإحسان التلخيص عن البلاء وإنعامه، فشرعت في شرحه شكرا للنعمتين الموصولتين لصاحبهما إلى الدولتين راجيا من الله تعالى أن يوفقني لإتمامه ويسهل لي بالسلامة طريق اختتامه وعازما أن أسميه بعد الإتمام (درر الحكام في شرح غرر الأحكام) إنه قريب مجيب عليه توكلت وإليه أنيب]
وهذه ترجمة الملا خسرو من كتاب الأعلام للزركلي:
(مُلّا خُسْرُو
(000 - 885 هـ = 000 - 1480 م)
محمد بن فرامُرز بن علي، المعروف بملا - أو منلا أو المولى - خسرو: عالم بفقه الحنفية والأصول. رومي الأصل. أسلم أبوه. ونشأ هو مسلما، فتبحر في علوم المعقول والمنقول، وتولى التدريس في زمان السلطان محمد بن مراد، بمدينة بروسة. وولي قضاء القسطنطينية، وتوفي بها، ونقل إلى بروسة. قال ابن العماد: صار مفتيا بالتخت السلطاني، وعظم أمره، وعمر عدة مساجد بقسطنطينية. من كتبه (درر الحكام في شرح غرر الأحكام - ط) فقه، كلاهما له، مجلدان، و (مرقاة الوصول في علم الأصول - ط) رسالة، وشرحها (مرآة الأصول - ط) و (حاشية على المطول - خ) في البلاغة، و (حاشية على التلويح - ط) في الأصول، و (حاشية على أنوار التنزيل وأسرار التأويل - خ) كتبت سنة 947 )