1-تمهيد
أهل السنة والجماعة الحقيقيون يعملون دائما على وحدة الفكر الجماعي للأمة الإسلامية، ومن مظاهر هذا التوحيد مثلا قيام هذا المذهب على المحكمات من نصوص الوحيين دون المتشابهات، واعتبار إجماع سواد المسلمين وجماعتهم كما هو معهود في تاريخنا المجيد، ومن أمثلة هذا التوحيد ما قام به حجة الإسلام أبو حامد الغزالي في تهافت الفلاسفة، حيث وحّد كل الفرق الإسلامية في صف واحد ضد الفلاسفة والملحدين، إشارة إلى أن الخلاف الذي بيننا وبين الإسلاميين لا يُهم إذا تعرضت أصول الدين للاختراق، فقال: (ولا أنتهض ذابا عن مذهب مخصوص، بل أجعل جميع الفرق إلبا واحدا عليهم، فإن سائر الفرق ربما خالفونا في التفصيل، وهؤلاء يتعرضون لأصول الدين، فلنتظاهر عليهم، فعند الشدائد تذهب الأحقاد)اهــ.
بينما تجد أهل الانحراف في الطرف النقيض من هذه الصورة، كالروافض والتيميين، فحضورهم على مرّ التاريخ كان على هاش الصفحة، يقوم فكرهم على المتشابهات دون المحكمات، ويعادون عامة المسلمين وجماعتهم تطرفا وشذوذا عن الجماعة.
فالشيعة مثلا، تجد مذهبهم يقوم على لعن العامة، يقصدون بهم عامة المسلمين والصحابة، كما هو معلوم في أصولهم.
أما التيميون، فمذهبهم يقوم على التنكر لهذا التراث العريق، واتهام الأمة والسواد الأعظم من "أمة لا إله إلا الله" بتحريف الدين والتلاعب به كما فعل إمامهم ابن تيمية، إلى درجة اتهامه أباه وجده مجد الدين بالانحراف عن الخط الصحيح!
وجامعاتهم تنشر المئات من الرسائل الجامعية التي تتهم السواد الأعظم من مفسري الكتاب والسنة بأنهم حرفوا معاني الوحيين! دون أن نسمع من المتشدقين بوحدة الأمة -وخاصة الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين ومن دار في فلكه- أي كلمة أو موقف أو بيان يبينوا فيه أن هذا العمل يسبب تفريقا للمسلمين.
ولا أدل على ذلك من قول إمامهم ابن عبد الوهاب: ({اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ}، فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم والأئمة بعده بهذا الذي تسمونه الفقه، وهو الذي سماه الله شركاا)اهــ من رسالة ابن عبد الوهاب إلى عبد الله بن عيسى في قبوله كتب أهل الباطل.
هكذا ينظر شيخ إسلامهم إلى تراثنا العريق، فما بالك بمن هم دونه؟
وأول مظهر من مظاهر التفريق هو صورة مؤسس مذهبهم، الذي خرق الإجماعات وفارق الجماعة، وشق عصا الطاعة، وهو الذي بعث برسالة من سجنه إلى الغوغاء يشبه فيها خصومته لعلماء عصره وجهاده ضدهم بالجهاد ضد التتار! فقال: (ونحن ولله الحمد على عظيم الجهاد في سبيله...بل جهادنا في هذا مثل جهادنا يوم قازان)! لماذا؟ لأنه يرى أن علماء عصره كانوا من حزب الشيطان يحاولون تحريف الدين وإفساده (فإنّ الشيطان استعمل حزبه في إفساد الدين الذي بعث الله به رسله وأنزل كتبه) ثم وصف أهل الدين في زمنه بأنهم كانوا على الدينٍ الذي لا يفصلهم عن الردة إلا أن يتعمدوا مخالفة الرسول، فقال: (لو كان ممن يعرف ما جاء به الرسول ويتعمد مخالفته لكان كفرا وردة عن الإسلام)اهــ.
ثم يرتد صدى هذا التعصب الأعمى إلى تلميذه ومهرّب كتبه ابن القيم، حيث يقول في نونيته واصفا حاله مع خصومه الذين ينزهون الله عن الجسمية:
(الله أكبر كشرت عن نابهالــ*****ــحرب العوان وصيح بالأقران
وتقابل الصفان وانقسم الورى*****قسمين واتضحت لنا القسمان) الأبيات 2371 وما بعدها
فلماذا انقلبت المسائل العلمية إلى حرب عند ابن القيم؟ لأنه يرى أن خصومه من أهل العلم والدين عملوا على (هدم قواعد دين الإسلام والإيمان)! هذا الذي بين القوسين هو عنوان فصله الذي كان يدعو فيه إلى محاربة المنزهين عن التجسيم، البيت 2389 وما بعده.
وكتب غوغاء الدعوة الوهابية إلى هذا اليوم تطفح بتكفير أهل البلاد الإسلامية، إلا لمن يفترضونه على شاكلتهم.
وهتان الفرقتان، لم تظهرا وتقويا في زمن إلا وانحط فيه المسلمون، ولم يعل صوتهما ولم يحفل الناس يهما إلا في أوقات مرض الأمة ووهنها وتراجعها، فظهور هؤلاء المنحرفين يتناسب طرديًّا مع تخلف المسلمين وانهزامهم، فحيثما وجدت أحداهما وجدت المرض، ووجدت التنكر والكراهية لعامة المسلمين وسوادهم، ووجدت الخرافة والتعصب، والغدر والقتل والدماء.
وهذا حتى يعلم الناس أنّه إذا ضعُف أهل السنة والجماعة الذين هم سواد الأمة وبياضها فسوف يقوى أهل الأهواء والأمراض، وسوف تفقد الأمة هويتها، تماما كما هو حاصل في أزماننا هذه، أزمان التخلف والانحدار.
فكلما ضاقت صفحة الإسلام البيضاء وقلّ وضوح متنها وضعف سواد جماعتها، كلما زاد وضوح الحواشيء المنسيّة في هامش التاريخ، طردا وعكسا، حتى إن الناظر لو نظر في تلك الصفحة فلن تبصر عيناه إلا الهامش، وهذا هو الحاصل في هذه الأيام.
ولذلك صرنا بحاجة إلى إزالة الغشاوة عن تلك الأبصار، ولفت الأنظار إلى ذلك المتن المشرّف، الذي يمثل سواد الأمة الإسلامية على مرّ تاريخنا المشرق.