بسم الله الرحمن الرحيم ،
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه أجميعن ،
أما بعد ،
أنقل لكم هنا ما كتبه مولانا الشيخ محمد سعيد عبد البر الشافعي ، عميد دار العماد . وقد كتب هذا الكلام في وقت تكاثر فيه الصياح حول الأزهر ومنهجه واستقلاله . وقد تكلم في الأزهر كل الناس ، سواء كان أزهريا أم حداثيا أم سلفيا أم علمانيا ! فأراد الشيخ أن يُسطِّرَ بيديِّه الكريمتين كلمات قليلة يحفظ بها منهج الأزهر من عبث العابثين . وأحسب أن الله قد وفقه لذلك .
قال مولانا الشيخ :
الأزهر: المكان والمكانة والحقيقة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين، وبعد..
فمن الواضح أن هناك جدلا محتدما الآن حول هوية الأزهر الشريف.. وأحب بصفتي أزهريا قلبا وقالبا، وتعلما وتعليما، أن أدلي بوجهة نظري.. وبناء على ما تعلمته من المنهاج الأزهري التراثي في مناقشة الأمور فإني أبدأ ببيان المراد بالمصطلحات التي سأخوض في معانيها..
وأنبه لكون المقام هنا لتقرير حقيقة الأزهر لا لتقويم تلك الحقيقة والحكم عليها بالصواب أو الخطأ.
فنقول وبالله تعالى التوفيق: ما هو (الأزهر)؟ من المؤكد أن المراد هنا ليس الجدران والأرض والسقوف لأن هذه جمادات لا هوية لها ، فهل هو الأفراد؟ من المؤكد أيضا أن المراد ليس الأشخاص من حيث ذواتهم، لأنهم ذهبوا ويذهبون، ولا تهمنا هوية من رحل في ذاتها لأنه أفضى إلى ربه بما قدم ، فالذي يهمنا ممن رحلوا هو ما قرروه من مبادئ تعتبر مكونات للإطار الفكري لمن بعدهم، فأريد بالأزهر في هذا السياق المعرفة التراكمية في العلوم الشرعية والتي استمرت منذ أوائل دولة المماليك وحتى وفاة الشيخ إبراهيم الباجوري رضي الله تعالى عنه سنة 1856م. أريد تلك المعرفة التراكمية من حيث أمران مهمان: أولهما الإطار الحاكم لها وهو ما أسميه بالهوية التاريخية والفكرية للأزهر، وثانيهما: محتواها نفسه.
أما الإطار الحاكم (وهو ما أسميه بالهوية) فهو مثلث ضلعه الأول الاعتقاد، وهو ما ارتضاه سواد الأمة من المفسرين والمحدثين والفقهاء والأصوليين واللغويين والمتكلمين، وهو اعتقاد الصحابة والتابعين ومن دونهم، وهو ما سمي اصطلاحا بأهل السنة والجماعة وعبر عنه الأشعري والماتريدي رضي الله تعالى عنهما ومن تبعهما،
والضلع الثاني: الأخلاق وهي التي نعبر عنها بالتصوف وهو تنقية الباطن مما فيه من الآفات والرذائل، قال تعالى (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) فكما يظهر الإثم على الظواهر فإن له مكامن في البواطن ينبع منها فيصل إلى الأفعال، فالتصوف باختصار هو علم وسلوك غايته السلامة من باطن الإثم والتحلي بزينته وثمرته الوصول إلى القرب من الله تعالى، وحمل لواءه الإمام العلامة أبو القاسم الجنيد وكانت صياغته العلمية والسلوكية على يد أئمة التصوف المعروفين وهم السادة المشايخ الرفاعي والجيلاني والشاذلي والبدوي والدسوقي والخلوتي والنقشبندي ومن تبعهم على طرقهم وسلك سبلهم دون تحريف ولا ابتداع- رضي الله تعالى عنهم.
وأما الضلع الثالث فهو تقرير الفروع الفقهية على ما قرره الأئمة الأربعة أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد رضي الله تعالى عنهم.
فالهوية أو الإطار الحاكم إذن هي الركن الأول في الأزهرية. والركن الثاني هو المحتوى وهو مجموع العلوم التي كانت تدرس بالأزهر طوال مدة وجوده ونشاطه، هذه العلوم هي علوم القرآن من تفسير وتجويد وغيرهما وعلوم السنة من رواية ودراية وما تعلق بهما والعقيدة والفقه والتصوف وأصول الفقه والنحو والبلاغة والعروض والمنطق وآداب البحث والمناظرة، هذه هي العلوم التي كانت تدرس بانتظام واستمرار في الأزهر بحيث لا يخرج من الأزهر شيخ إلا وقد فهم هذه العلوم تمام الفهم بل وتضلع منها تقعيدا وتفريعا زيادة على العلم الذي تخصص به وصار إماما فيه محيطا بكل دقائقه مجيبا عن إشكالات كتبه مقعدا فيه ومفرعا. وكانت هناك علوم تدرس في الأزهر أيضا ولكن على نطاق ضيق وليس بنفس الاستمرار كالسابق ذكرها وهي الفلك وعلوم الهيئة والحكمة والجبر والمقابلة والتاريخ بل والطب أحيانا. كل هذا مع ملاحظة أن التعليم في الأزهر كان مبنيا على علاقة بين التلاميذ وأستاذهم قائمة على أركان ثلاثة الصلة المباشرة والملازمة الطويلة والخلطة القوية.
ولا بد من التنبيه على أمرين مهمين يتعلقان بالمحتوى، أولهما وعاؤه وهو الكتب، وثانيهما طريقة مناولته ونقله وهي السند، نفصل في ذلك بعض تفصيل فنقول:
أما الكتب فقد كان علماء كل عصر يودعون كتبهم المحتوى العلمي الذي تلقوه عن شيوخهم كما يبحثون في المسائل المطروحة في عصورهم ويطبقون عليها ما تعلموه، فكان كتاب العالم المتأخر بما اشتمل عليه من تقعيد وتطبيق أحسن تعليما للطلبة من كتب المتقدمين، وأيضا فإن العلوم قد ضبطت عبر الزمان بمصطلحات وطرق في الترتيب ونحو ذلك، فكان الكتاب المتأخر –بما اشتمل عليه من مصطلحات مضبوطة وترتيب دقيق- أضبط وأدق من الكتاب المتقدم، فالحاصل أن الشيوخ كانوا يعلمون طلابهم من كتب المتأخرين، وبقيت كتب المتقدمين لا يستغنى عنها في البحوث الموسعة لا في التعليم، فتعليم الفقه الشافعي مثلا يكون من كتب المتأخرين كالباجوري والبجيرمي والجمل والشيخ زكريا الأنصاري لا من كتب إمام الحرمين وتلاميذ الشافعي رضي الله تعالى عنهم. وأما مناولة المحتوى ونقله فلا بد أن تكون بالسند المتصل إلى مصدرها الأول، فقد جرت العادة أن يذكر العالم عمن تلقى علمه وعمن تلقاه شيخه وهكذا بالسلسلة المتصلة التي تنتهي بواحد أو أكثر من الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان يتكلم في علم شرعي كالتفسير والفقه أو بواحد من أئمة اللغة المعتبرين كالكسائي والخليل وسيبويه والأخفش رحمهم الله تعالى لو كان يتكلم في علم لغوي كالنحو والبلاغة.
فالخلاصة مما ذكر أن الأزهرية عبارة عن هوية هي الاعتقاد الأشعري والفقه على أحد المذاهب الأربعة والسلوك الصوفي، ومحتوى هو التوحيد والفقه والتصوف والتفسير والحديث وأصول الفقه مضافا إليها علوم اللغة وهي النحو والبلاغة والعروض علاوة على العلوم العقلية وهي المنطق والحكمة وآداب البحث والمناظرة كما قرره المتأخرون من أهل هذه العلوم، وأن ذلك المحتوى منقول عبر الأجيال بالسند الكامل المتصل وأن ركني هذا السند معلم وتلميذ بينهما صلة مباشرة وملازمة مستمرة وخلطة قوية.
بقيت نقطة واحدة وهي لماذا قيدت الإطار الزمني بما قيدته به بداية ونهاية؟ أما البداية فهي منذ أوائل دولة المماليك وبالتحديد منذ عهد الظاهر بيبرس لأن الأزهر بناه الفاطميون عندما دخلوا مصر ليكون مركزا لمذهب الشيعة فلما دخل صلاح الدين مصر أغلقه تماما فظل مغلقا طوال مدة الدولة الأيوبية حتى دال الأيوبيون وجاء المماليك ففتحه السلطان الملك الظاهر بيبرس وظل من يومها منارة للسنة. وأما النهاية فلأن وفاة الشيخ الباجوري رضي الله تعالى عنه سنة 1856 م هي نهاية عهد الاستقلال الكامل للأزهر، ذلك أن اختيار شيوخ الأزهر كان يحصل من داخل الأزهر نفسه دون أي تدخل من السلطة الحاكمة، وظل الأمر على هذا إلى أن كان آخر شيوخ الأزهر المختارين بهذه الطريقة هو الشيخ الباجوري، وأول شيخ بعده جاء بالتعيين من الخديوي (وقد عزله الخديوي بعد ذلك) ولذلك فإني أعتبر –كما يرى كثيرون غيري- أن هذا كان نهاية عهد الاستقلال الكامل للأزهر وبداية التدخل فيه من قبل الدولة، وبطبيعة الحال لم تكن بدايات التدخل انهيارا كاملا بل كانت البوادر، وظل الأزهر بعدها زمنا لا بأس به يتمتع بقدر كبير من الاستقلال حتى قوي التدخل وغاب الاستقلال عنه أو كاد مع مرور الزمان.
ما ذكرت هو ما أعنيه بالأزهر تحديدا، وبمعرفة المراد بالأزهر يعرف المراد (بالأزهري) فمن انتمى لمؤسسة الأزهر دراسيا وقرر أنه تعلم الدين في هذه المؤسسة، وأعلن انتماءه لها من حيث الإطار الحاكم والمحتوى الذي بينا فيما ذكر فقد تمت (أزهريته) وإلا فلا، ونحن مأمورون أن نقبل من الناس ظواهرهم ونكل بواطنهم إلى الله تعالى فمن أعلن أنه ينتمي للأزهر على ما ذكرنا فهو عندنا أزهري ما لم يثبت الضد من واقع كلامه وتصريحاته وتقريراته العلمية.
فبناء على ما تقرر أحاول الجواب على بعض الأسئلة المطروحة في هذا الشأن:
أولا: لماذا تريدون –معشر الأزهريين التراثيين- احتكار الأزهر لكم، أليس في الأزهر تيارات أخرى؟ الجواب: لأن الأزهر بخطه التاريخي الذي بينا لم يحتو على أية تيارات أخرى فكل تيار غير أشعري أو غير مذهبي أو رافض للتصوف إنما طرأ على الأزهر بعد مضي عهد استقلاله الكامل، وكذا يقال في كلام غريب مؤداه أن الشيخ عبد المجيد سليم رحمه الله تعالى شيخ الأزهر كان سلفيا، فنقول: ما نعلمه من أقارب الشيخ عبد المجيد سليم أنه عاش حنفيا أشعريا ومات كذلك، وحتى لو فرضنا صحة كلامكم فالقول فيه ما أسلفنا من اعتبار الخط الأصيل للأزهر في عهود استقلاله.
ثانيا: لم تقولون إن فلانا أو فلانا من الناس لا ينتمي لمؤسسة الأزهر مع أنه خريج الأزهر ويحمل شهادته؟ فالجواب في الفقرة التي قررت فيها ما أريده بالأزهري، ولا بأس بإعادة الكلام تيسير على القارئ:
وبمعرفة المراد بالأزهر يعرف المراد (بالأزهري) فمن انتمى لمؤسسة الأزهر دراسيا وقرر أنه تعلم الدين في هذه المؤسسة، وأعلن انتماءه لها من حيث الإطار الحاكم والمحتوى الذي بينا فيما ذكر فقد تمت (أزهريته) وإلا فلا، ونحن مأمورون أن نقبل من الناس ظواهرهم ونكل بواطنهم إلى الله تعالى فمن أعلن أنه ينتمي للأزهر على ما ذكرنا فهو عندنا أزهري ما لم يثبت الضد من واقع كلامه وتصريحاته وتقريراته العلمية.
ثالثا: لم تريدون تغيير الأزهر عما هو عليه الآن وتريدون الرجوع به لما وصفتم من عهود؟ لو قررتم الرجوع للأصل فلترجعوا به للشيعية فهي أصله. الجواب: الأزهر الذي نتكلم عليه لا يشترك مع الأزهر الشيعي إلا في الاسم، فهو لا يجامع (أزهر الشيعة) في شيء من مكوناته الفكرية ولا العلمية، بل هو مجرد تشابه أسماء كما يقولون، ولو قررنا اعتماد تشابه الأسماء في تطابق الحقائق لكان لقائل أن يقول: تؤمنون بموسى النبي (صلى الله عليه وسلم) واسمي موسى فلتؤمنوا بي ولتجعلوني نبيا!
رابعا: أي أزهر تريدون؟ هل يرضيكم واقع رجال الأزهر اليوم بما اتخذوه من مواقف وما أعلنوه من تصريحات؟ الجواب أن ما ذكرناه من الخط التاريخي والسند المتصل والإطار الحاكم والمحتوى المنضبط وما قررناه من بداية ذلك ونهايته كفيل بالجواب على ذلك.
خامسا: هل هذا وقت الفرقة والصراعات الاعتقادية؟ لم تثيرون –معشر الأزهريين- فتنة نحن الآن في غنى عنها؟ الجواب: هذا نقاش علمي لا صراع اعتقادي، ولا ينبغي أن يترتب عليه فرقة، ومن يرتب الصراع والفرقة على الخلاف العلمي فالخلل عنده وفيه لا عندنا، إن من يقول ذلك مثله كمثل شافعي دخل على جماعة من الحنفية يصلون معا في مكان اعتادوا الصلاة فيه منذ ألف عام فلا يرفعون أيديهم في التكبيرات ولا يقنتون في صلاة الصبح فقال لهم: لم لا ترفعون أيديكم ولم لا تقنتون؟ وأراد أن يصلي بهم إماما، فلما أجابوه بأن هذا مذهبهم وهم يصلون هكذا في هذا المكان منذ ألف عام وأن له أن يصلي معهم إذا شاء على ألا يثير الجدل وألا يحاول أن يكون إماما لهم أو يذهب فيلقي دروسا في مذهبه ويدعو الناس إليه إذا أراد في مكان آخر إذا به يقول لهم لا بد أن أفعل ذلك هنا وليس لكم أن تمنعوني لأن هذا ليس وقت صراعات مذهبية ولأنكم بمنعي تثيرون الفتنة!! ولا يخفى ما في هذا المسلك من تخبيط وخلل.
والله تعالى أعلى وأعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم. ا.هـ.
انتهى كلام مولانا الشيخ محمد سعيد عبد البر ، أسأل الله تعالى أن يبارك فيه وفي علمه ولا يحرمنا صحبته وأن ينفعنا به في الدارين آمين .
وإليكم رابط المقال :
https://www.facebook.com/permalink.p...7&id=717893196
وإليكم رابط دار العماد التى يدرس بها الشيخ مع مجموعة من أفاضل أهل العلم :
https://www.facebook.com/Darelemad?fref=ts
والحمد لله رب العالمين .