... ... تابع :
(مِنْ صحيح البخاريّ - كتاب الرقاق .. بابٌ في الأمَلِ وَ طُولِهِ ...)
... قوْلُهُ (و قال علي بن أبي طالب ارتحلت الدنيا مدبرة ... إلخ ...)
هذه قطعة من أثر لِعَلِيٍّ رضي اللهُ عنه جاء عنه موقوفا و مرفوعا و في أَوَّلِهِ شيءٌ مطابقٌ للترجمَةِ صريحاَ ، فعِنْدَ ابنِ أبي شيبة في " المُصَنَّفِ " ، و ابنِ المبارك في " الزُهْدِ " ، مِنْ طُرُقٍ ، عن إسماعيلَ بنِ أبي خالدٍ و زبيد الأياميّ عن رجل من بني عامر [و سمي في رواية لابن أبي شيبة مهاجراً العامريّ ] و كذا في " الحلية " من طريق أبي مريم عن زبيد عن مهاجر بن عمير قال قال عليّ رضي اللهُ عنهُ : " إن أخوف ما أخاف عليكم اتباع الهوى و طول الأمل فأما اتباع الهوى فيصد عن الحق و أمّا طول الأمل فينسي الآخرة ، ألا و إن الدنيا ارتحلت مدبرة " الحديث كالذي في الأصل سواء [ أي و بقيّته بنفس النص الذي علّقه البخارِيّ هنا عن سيّدنا عليّ :" ... اِرْتَحَلَتِ الدُنْيا مُدْبِرَةً وَ ارْتَحَلَتِ الآخِرَةُ مُقْبِلَةً وَ لِكُلِّ واحِدَةٍ مِنْهُما بَنُونَ فكُونُوا مِنْ أبْناءِ الآخِرَةِ وَ لا تكُونُوا مِنْ أَبْناءِ الدُنْيا فإِنَّ اليَوْمَ عَمَلٌ وَ لا حِسَــابَ وَ غَداً حِسَــابٌ وَ لا عَمَلَ " ] .
... و قد جاء مرفوعاً ، أخرجه ابن أبي الدنيا في " كتاب قصر الأمل " من رواية اليمان بن حذيفة عن علي بن أبي حفصة مولى علي " عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلّى الله عليه و سَـلّم قال : " إن أشـدَّ ما أتخوف عليكم خصلتين ... " فذكر معناه ... و جاء من حديث جابر أخرجه أبو عبد الله بن منده من طريق المنكدر بن محمد بن المنكدر عن أبيه عن جابر مرفوعا ... و في بعض طرق هذا الحديث " ... فاتِّباعُ الهَوَى يصرف بقلوبكُمْ عن الحق و طُولُ الأمَلِ يَصْرِفُ هِمَمَكُم إلى الدنيا ..." .
و من كلامِ سَـيِّدِنا علِيٍّ رضي اللهُ عنهُ أخذ بعض الحكماء قوله " الدنيا مدبرة و الآخرة مقبلة فعجباً لِمَنْ يُقْبِلُ على المُدْبِرَةِ و يُدْبِرُ عَنِ المُقْبِلَةِ ".
وَ وَرَد في ذم الإِستِرْسالِ مع الأمل حديثٌ عنْ أنسٍ رَفَعَهُ " أربعة من الشقاء جُمُودُ العَيْنِ وَ قَسْـوَةُ القلْبِ وَ طُولُ الأمَلِ و الحِرْصُ على الدُنْيا " أخرجه البزار . و عن عبد الله بن عمرو رَفَعَهُ :" صلاحُ أوَّلِ هذه الأُمَّةِ بالزَهادَةِ و اليَقِينِ و هلاكُ آخِرِها بالبُخْلِ و الأَمَلِ " ، أخرجه الطبراني و ابن أبي الدنيا.
و قيل إن قصر الأمل حقيقة الزهد و ليس كذلك بل هو سـبب ، لأن مَنْ قصر أمله زَهِدَ ، و يتولَّدُ مِنْ طُولِ الأمَلِ الكَسَـلُ عَنِ الطاعَةِ و التسْـوِيفُ بالتوبَةِ و الرغْبَةُ في الدُنيا و النِسْيانُ للآخِرَةِ وَ القَسْـوَةُ في القلْبِ ، لِأَنَّ رِقَّتَهُ وَ صَفاءَهُ إنما يقعانِ بتذَكُّرِ المَوْتِ و القبْرِ و الثوابِ و العِقابِ و أهْوالِ القيامة كما قال الله تعالى { فطالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فقَسَـتْ قُلُوبُهُمْ }... الآية.
و قيل : مَنْ قَصُرَ أَمَلُهُ قَلَّ هَمُّهُ وَ تَنَوَّرَ قَلْبُهُ ، لأَنَّهُ إذا اسْـتحضَرَ المَوْتَ اجتهَدَ في الطاعةِ و قلَّ هَمُّهُ لِلدُنيا و رضي بالقليل منها .
و قال أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله : " الأمَلُ مذمُومٌ للناس إلّا للعلماء فلولا أمَلُهُم لَما صَنَّـفُـوا وَ لا ألّـفُوا " [لكِنْ أمَلُ الربّانِيّين منهم هنا أشْـبَهُ بالرجاءِ و اللهُ أعْلَمُ] . و قال غيره : الأمل مطبوع في جميع بني آدم ، كما سيأتي في الحديث الذي في الباب بعده " لا يَزالُ قلْبُ الكبيرِ شابّاً في اثنتيْن حُبِّ الدُنْيا و طُولِ الأمَلِ " ، و في الأمل سِــرٌّ لطيفٌ ، لأنه لولا الأمَلُ ما تهنّى أحَدٌ بعَيْشٍ و لا طابت نفسُـه أنْ يَشْـرَعَ في عَمَلٍ من أعمال الدنيا ، و إنَّما المَذْمُومُ منه الاسترسالُ فيه و عدَمُ الاستِعْدادِ لأمْرِ الآخِرَةِ فمَنْ سَـلِمَ مِنْ ذلك لَمْ يُكَلَّفْ بإزالَتِهِ لَهُ .
وَ في أثر علِيٍّ رضي اللهُ عنهُ " فإنَّ اليومَ عَمَل و لا حساب و غداً حسابٌ و لا عَمَلَ " جعل اليومَ نفْسَ العمَلِ وَ المُحاسَـبَةِ مُبالَغَةً ، و هو كقولهم نهاره صائم و التقدير في الموضعين و لا حساب فيه و لا عمل فيه ، و قولُهُ " وَ لا حِسَـابَ " بالفتح بغير تنوينٍ ، و يَجوز الرفع منونا و كذا قولُهُ " وَ لا عَمَل" .
(مِنْ فتح الباري باختصار و تصرُّف يسِـير ) ...
يُتبَعُ ... إِنْ شـاء الله .