خامسًا : الدهريون
كان كثير من العرب الجاهليين يعطّلون الصانع وينكرون الرب سبحانه , ويقولون أنّه ما ثمّ إلا الحياة الدنيا , وأنّ فناءهم منوطٌ بمرّ الأيام وكرّ الليالي , وقد قال الله سبحانه مخبراً عنهم :
(وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ) . الجاثية : (24) .
قال الإمام الطبري في تفسيرها :
(يقول تعالى ذكره: وقال هؤلاء المشركون الذين تقدّم خبره عنهم: ما حياة إلا حياتنا الدنيا التي نحن فيها لا حياة سواها , تكذيبا منهم بالبعث بعد الممات. ... عن قتادة ( وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا ) : أي لعمري هذا قول مشركي العرب......
وقوله : ( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) يقول تعالى ذكره مخبرًا عن هؤلاء المشركين أنهم قالوا: وما يهلكنا فيفنينا إلا مرّ الليالي والأيام وطول العمر، إنكارًا منهم أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم!!!.
وقد ذُكر أنها في قراءة عبد الله : (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا دَهْرٌ يَمُرُّ).
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك:
... عن مجاهد : ( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال: الزمان.
... عن قتادة، في قوله: ( وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال ذلك مشركو قريش (وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) : إلا العمر.
وذُكر أن هذه الآية نزلت من أجل أن أهل الشرك كانوا يقولون: الذي يهلكنا ويفنينا الدهر والزمان، ثم يسبون ما يفنيهم ويهلكهم، وهم يرون أنهم يسبون بذلك الدهر والزمان، فقال الله عزّ وجلّ لهم: أنا الذي أفنيكم وأهلككم، لا الدهر والزمان، ولا علم لكم بذلك. ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
...عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: "كانَ أهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إنَّمَا يُهْلِكُنَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَهُوَ الَّذِي يُهْلِكُنَا وَيُمِيتُنَا وَيُحْيِينا، فقال الله في كتابهوَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ ) قال: فَيَسُبُّونَ الدَّهْرَ، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يُؤْذِينِي ابْنُ آدَمَ يَسُبُّ الدَّهْرَ وأنا الدَّهْرُ، بِيَدِي الأمْرُ، أُقَلِّبُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ".... ) .
فقد ذكر الطبريّ أنّ مشركي العرب كانوا ينكرون أن يكون لهم ربّ يفنيهم ويهلكهم , وأنهم كانوا يعتقدون أنّ الزمان والدهر هو الذي يميتهم فيسبونه لذلك!!
وجاء في تفسير هذه الآية في "البحر المديد" :
(ثم قالوا : { وما يُهكنا إِلا الدهرُ } إلا مرور الزمان وهو في الأصل : مدة بقاء العالم ، من : دهَرهُ : إذا غَلَبه ، وكانوا يزعمون أن مرور الزمان بالليالي والأيام هو المؤثِّر في هلاك الأنفس ، وينكرون ملك الموت ، وقبضه الأرواحَ بأمر الله تعالى ، وكانوا يُضيفون كلَّ حادثة تحدثُ إلى الدهر والزمان ، كما قال شاعرهم :
أَشَابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ ... كَرُّ الغداة ومرُّ العشيِّ ) .
وقال الإمام البقاعي عن عقائد المشركين في "نظم الدرر":
( اعتقدوا ما لا يجوز اعتقاده من التعطيل واعتقاد الطبيعة ، فلا يزال الأمر هكذا, أرحام تدفع وأرض تبلع , ولا رسول يهديهم , ولا بعث للأرض على بارئهم ) .
وقد نقلت دواوين اللغة والأدب كثيراً من أقوال المشركين الدالّة على تعطيلهم , فمن ذلك قولهم :
أشاب الصغيرَ وأَفْنَى الكبيــ ***** ــــرَ كرُّ الغَداة ومرُّ العَشِي
وكانوا يقولون :
أهْلَكَنَا الليلُ والنهارُ مَعًا ***** والدَّهْرُ يَعْدُو مُصمِّماً جَذَعَا
وكان يقولون أيضاً : (أرحامٌ تدفع , وأرضٌ تبلع) .
يتبع.....