بسم الله الرحمن الرحيم
المدارسة السادسة
(الفصل الثالث)
(في المحكوم به )وهو المأمور به من أفعال المكلفين، (وفيه)ثلاث (مسائل) :
المسألة (الأولى): في التكليف بالمحال.
المحال الذي اختلف في جواز التكليف به ثلاثة أقسام:
الأول:المحال العقلي كالجمع بين النقيضين. الثاني:المحال العادي كحمل الجبل العظيم.
الثالث:المحال لطروء مانع كتكليف المقيد بالجري.
وأما المحال لتعلق علم الله بعدم وقوعه فليس في محل النزاع لأن الممكن لا يخرج عن إمكانه بخبر الله تعالى بعدم وقوعه، فهو ممكن في نفس الأمر، صحيح أنه محال في علم الله ولكن علم الله ليس مؤثرا في عدم وقوعه؛فالعلم كاشف وغير مؤثر أي إنه تابع للمعلوم.
وللعلماء في المحال المتنازع فيه ثلاثة أقوال: الأول:أنه جائز عقلا غير واقع شرعا.
الثاني:أنه جائز عقلا وواقع شرعا. الثالث:أنه محال عقلا وبالضرورة غير واقع شرعا.
واختار المصنف الأول حيث قال: (التكليف بالمحال جائز) عقلا، (لأن حكمه) تعالى (لا يستدعي غرضا) باعثا له على الحكم،وطلب المحال حينها يكون من الله للتعجيز والإبتلاء لا لإيقاع المحال حقيقة؛ فهو الأعلم باستحالته.
(قيل: لا يتصور وجوده) في العقل (فلا يطلب،لأن المحكوم عليه يجب أن يكون متصورا) في العقل وإلا كان مجهولا والمجهول لا يكلف به.
(قلنا لو لم يتصور امتنع الحكم باستحالته) لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره وحيث قد حكم عليه بأنه محال لزم أن يكون متصورا.
والتكليف بالمحال مع كونه ممكنا عقلا فهو (غير واقع) شرعا (بالممتنع لذاته) أي المحال العقلي (كإعدام القديم وقلب الحقائق)،وذلك (للاستقراء ولقوله تعالى{لا يكلف الله نفسا إلا وسعها }).
(قيل): التكليف بالممتنع لذاته واقع؛ فإن الله قد (أمر أبا لهب بالإيمان بما أنزل، ومنه) أي ومن جملة ما أنزل الله في كتابه (أنه لا يؤمن، فهو جمع بين النقيضين).
(قلنا لا نسلم أنه) تعالى (أمر) أبا لهبٍ (به) أي بالإيمان (بعدما أنزل) في كتابه (أنه لا يؤمن)؛ لجواز أن يكون حكمه مثل حكم من كان حيا بعد علامات الساعة الكبرى؛لا من حيث عدم قبول التوبة والإذعان بل من حيث انقطاع التكليف بالإيمان، ويؤيد كون أبي لهب لم يعد مكلفا بالإيمان قول الله لرسوله فيه وفي غيره:"سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون" فهي آية خبرية لفظا إنشائية معنى؛ تطلب من الرسول الكفَ عن إنذارهم أي عدم أمرهم بالإيمان وما ذلك إلا دليل على أن الإيمان لم يعد مطلوبا منهم .
ولا يسلم لنا التخريج السابق إلا بتسليم مقدمتين: الأولى: أن استواء الإنذار وعدمه من الرسول لهم فيه طلب للرسول بالكف عن إنذارهم لأنه فعل ما لا فائدة فيه ولا منفعة، لا يقال أن الفائدة هي حيازة أجر إنذارهم وإن لم يؤمنوا؛ إذ يستحيل أن ينصب الرسول نفسه سببا لهداية من ، انتقل المقام من الأمر بالإيمان إلى التحدي بإيقاعه، الثانية: أن طلب الكف عن إنذارهم يعني أن الإيمان لم يعد مطلوبا منهم.
المسألة (الثانية):تكليف الكافر بالفروع
(الكافر مكلف بالفروع خلافا للحنفية) حيث قالوا بعدم تكليفهم بها، (وفرَّق قوم بين الأمر والنهي)؛ فجعلوا الكافر مكلفا بالنواهي دون الأوامر.
(لنا) من الأدلة ما يلي:
* (أن الآيات الآمرة بالعبادة تتناولهم والكفر غير مانع) من تكليفهم (لإمكان إزالته)، والمانع الذي يمكن إزالته لا يعتبر مانعا من التكليف بالفعل؛ فإن الحدث مانع من صحة الصلاة ولم نعتبره مانعا من التكليف بها لكونه مما يمكن إزالته، وكذلك بالنسبة للكفر فهو مانع من صحة التعبد بالفروع ولكنه ليس مانعا من التكليف بها.
* (وأيضا الآيات المـوعدة بترك الفروع كثيرة مثل:{وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة }) فلو لم يكن الكفار مكلفين بالفروع لما أوعدهم الله تعالى بترك الزكاة وأمثالها المندرجة تحت الفروع.
* (وايضا إنهم كلفوا بالنواهي كوجوب حد الزنا عليهم فيكونون مكلفين بالأمر قياسا عليها) بجامع الطلب في كل منهما أو بجامع حصول المصلحة فيهما وهي دفع المفاسد في النواهي وجلب المصالح في الأوامر، وهذا الدليل خاص بمن فرق بين الأمر والنهي.
(قيل):النهي يقتضي الإنتهاء عن المنهي عنه و (الانتهاء) مع الكفر (أبدا ممكن،والفعل لا يكفي) الإتيان به من (دون الامتثال)، والإمتثال من الكافر غير ممكن لإن النية لابد منها في الإمتثال ونية الكافر غير معتبرة.
(وأجيب بأن مجرد الترك والفعل) من غير قصد الإمتثال (لا يكفي) من الكافر لاشتراط النية فيهما (فاستويا؛ وفيه نظر) من جهة أن الترك المجرد محقق للنهي وأما الفعل المجرد فغير محقق للأمر لاشتراط النية في صحته، وفي هذا النظر نظر؛ وحاصله أن التكليف يكون على الأفعال الكسبية، والفعل والترك بلا نية الإمتثال ليس كسبا بلا فرق بينهما.
(قيل): بل هناك فرق وهو أن التكليف بالأوامر إما في حالة الكفر أو بعده؛ و(لايصح) الإتيان بالفعل (مع الكفر) لإنه مانع من النية والتي هي شرط لصحة الفعل، (ولا قضاء) للفعل (بعده) أي بعد الكفر وهو الإسلام لإن الإسلام يجب ما قبله، فظهر أن تكليف الكافر بالأوامر لا فائدة منه في جميع الأحوال؛ إذ لا فائدة للتكليف بالأوامر إلا الإتيان بالأفعال بقصد الطاعة، وهنا لا يتأتى الإتيان بالافعال لا مع الكفر ولا بعده.
(قلنا):ليس الفائدة من التكليف بالأمر تحصيل المأمور حتى يبطل التكليف بالأمر بامتناع تحصيل المأمور بل (الفائدة) من التكليف بالأمر (تضعيف العذاب) في الآخرة؛ فكل من يعذب بترك الأصول يعذب بترك الفروع .
المسألة (الثالثة): إمتثال الأمر هل يوجب الإجزاء بذاته أم بدليل خارج عنه.
الإمتثال هو الإتيان بالمامور به على وجهه المطلوب شرعا، والإجزاء المختلف به هنا هو الذي معناه سقوط القضاء أي عدم المطالبة بالفعل مرة ثانية وأما الإجزاء بمعنى الاداء الكافي لسقوط الطلب فلا خلاف فيه بل الكل متفقون على أن الإمتثال يوجب الإجزاء بهذا المعنى. اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
الأول وهو لجمهور الأصوليين: أن (امتثال الأمر يوجب الإجزاء لأنه) أي الأمر بالفعل( إن بقي متعلقا به) أي بتحصيل الفعل المأمور (فيكون) طلبه ثانيا (أمرا بتحصيل الحاصل، أو) بقي متعلقا (بغيره فلم يمتثل بالكلية) بل بالبعض والتقدير بخلافه؛لأنا فرضنا أنه ممتثل للأمر.
الثاني وهو لأبي هاشم حيث (قال أبو هاشم: لا يوجبه) أي لا يوجب امتثالُ الأمرِ الإجزاءَ (كما لا يوجب النهي الفساد)؛ فإن فساد المنهي عنه ليس مستفادا من نفس النهي بل من دليل آخر غيره؛ وهو عدم وجود دليل يدل على الإعادة مع كون الأصل في الذمة البراءة.
(وأجيب بطلب الجامع )المصحح للقياس بين الأمر والنهي، (ثم) يذكر (الفرق) بينهما وهو أن مقتضى الأمر: الإتيان بالمأمور به فلو لم يكن موجبا للإجزاء لم يكن للأمر فائدة لإنه حينئذ يكون كأنه قال: إفعل هذا فإذا فعلت فكأنك لم تفعل، بخلاف النهي فإن مقتضاه عدم الإتيان بالفعل فإن خالف المكلف النهي وأتى بالفعل؛ لم يوجد في اللفظ ما يدل على حكم هذا الفعل لا من جهة الصحة ولا من جهة الفساد، ولا منافاة بين منع الشارع من الفعل وقوله فإن فعلت كان الفعل سببا لما يترتب عليه وذلك كالبيع وقت الجمعة مثلا.