وبعدما ذكر الشيخ حادثة طرد الأفغاني , وصارت بعدها نقل كل لسان وضحكة كل إنسان , أخذ يبين كيف كان هذا الرجل يبث حبائل الزور وينصب أشراك الغرور، ويدعي ضروب الباطل ويتحلى بما هو منه عاطل , وكيف تجمّع عليه تلميذه محمد عبده مع كوكبة من الذئاب الطلس في ثياب ملس , ممن أسكرتهم خمرة الكبر، واستهوتهم غرة التيه , وحملوا على عاتقهم محو جهود الأعلام , وهدم مذاهب الإسلام , وهم في ذلك ما قطعوا شعرة ، ولا سقوا قطرة , يظن أحدهم نفسه بحراً من العلم ممدوداً بسبعة أبحر , وهو في الحقيقة قالب جهل مستور بثوب عقل :
وَمِن بعدِ هَذا حازَ في مصرَ شُهرةً = وَأَلقى دُروساً للفلاسفِ في مِصرا
وَحينَ أتاهُ ذلكَ الحينَ عبدهُ = وَأمثالهُ أَفشى لهُم ذلكَ السرّا
أَسرّ لَهُم محوَ المذاهبِ كلّها = لِيرجعَ هذا الدينُ في زعمهِ بِكرا
فَلَم يلف مِنهم غيرَ خلٍّ موافقٍ = سميعٍ له قولاً مطيعٍ له أمرا
فَساقَ عَلى الإسلامِ منهم جحافلاً = يَرى فِرقةً سارَت فَيُتبعها أُخرى
أَغاروا على الإسلامِ في كلِّ بلدةٍ = فَما تَركوا نَجداً وَما تَرَكوا غورا
شَياطينُ بينَ المُسلمينَ تَفرّقوا = بإِغوائِهم كَم أَفسَدوا جاهلاً غمرا
قَدِ اِختَصروا بالجهلِ دين مُحمّدٍ = وَما تَرَكوا من عُشرِ أحكامهِ العُشرا
لَقَد زَعَموا إِصلاحهُ بفسادِهم = وَكَم حمّلوهُ مِن ضَلالاتِهم إِصرا
كفيران قصرٍ أفسدَت فيهِ جهدَها = تَرى نفسَها قد أصلَحت ذلكَ القَصرا
فَما بالُهم لا يُصلحون نُفوسهم = أما هيَ بِالإصلاحِ مِن غيرِها أحرى
وَقد جاءَ في القرآنِ ذكرُ فَسادِهم = وَزَعمهمُ الإصلاحَ في السورة الزهرا
وَفي درّهِ المنثورِ سلمان قائلٌ = همُ بعدُ لم يأتوا فَخُسراً لهم خسرا
وَها هم أتَونا مثلَ ما قال ربُّنا = بِأوصافِهم فاِعجَب لَها آيةً كبرى
خَوارجُ لَكِن شيخُهم غير نافعٍ = وَلكنَّهُ قَد كانَ أزرقَ مغبرّا
وَقَد جاءَ في الأخبارِ وصفُ مُروقهم = منَ الدينِ مثلَ السهمِ للجهةِ الأخرى
بِفِعل البُرستنتِ اِقتدوا باِجتِهادهم = لِقولِ رَسولِ اللَّه لو دخلوا جُحرا
أُولئكَ قَد ألغَوا زوائدَ دينهم = وَقد ضلّلوا في ذلكَ القسَّ والحَبرا
قَدِ اِجتَهدوا في دينِهم حينَما رأوا = مَجامِعَهم زادتهُ في نكرهِ نُكرا
وَمَهما يكُن عذرٌ لهم باِجتِهادهم = فَمُجتهدونا اليومَ قَد فَقدوا العُذرا
وَمَع كونِهم مثل البُرستنتِ فارَقوا = أَئمّتهم كلٌّ غَدا عالماً حبرا
فَقَد قلّدوا أهلَ المجامعِ منهمُ = بِمُؤتمرٍ للبحثِ في الدينِ في مصرا
بهِ سننَ القومُ النَصارى تتبّعوا = عَلى الإثرِ لَم يَعدوا ذِراعاً ولا شبرا
فللَّه درُّ المُصطفى سيّدِ الوَرى = فَقَد طابَقَت أخبارهُ كلّها الخُبرا
أَمِن بعدِ قول اللَّه أكملت دينكم = يُريدونَ في الإسلامِ أَن يُحدِثوا أمرا
يَقولونَ لا نَرمي كِتاباً وسنّةً = وَنَتبعُ زَيداً في الديانةِ أو عمرا
وَذلكَ حَقٌّ قصدُهم فيه باطلٌ = وخيرُ كلامٍ قَد أَرادوا به شرّا
أَرادوا بهِ مِن جَهلِهم بِنفوسهم = لترفعَ دَعوى الإجتهادِ لهُم قَدرا
فَصارَت جميعُ الناسِ ساخِرةً بهم = كَما يدّعي الحجّامُ سَلطنةً كبرى
ثم بين الشيخ أن المذاهب عبارة عن فهم الأئمة الأخيار.. أصحاب العلم العميق والرأي الوثيق , للكتاب والسنة , ولن تجد أشقى ممن ظن نفسه فريد دهره وزينة مصره , وألغى أقوال صدور الأمة وبدورها ، ومن عليهم تدور أمورها , فكل ما يدعيه هؤلاء المتعثرون في فضول جهلهم، والمتساقطون في ذيول خرقهم , نرميه براً وبحراً , سراً وجهرا :
وَما أَخَذت كلُّ المذاهبِ عندنا = بِغيرِ كتابِ اللَّه والسنّةِ الغرّا
أَئمّتُنا الأخيارُ قد شَرَحوهما = وَهُم بِكلامِ اللَّه وَالمُصطفى أدرى
وَأَشقى الوَرى من ضلَّ في ليلِ غيّهِ = وَما قلّدَ الساري الّذي شاهدَ البَدرا
فَكلُّ دَعاوي الإجتهادِ نَردُّها = وَنَرمي بِها بَحراً ونَرمي بها برّا
وَما يدّعيهِ اليومَ غيرُ حثالةٍ = بِأسفل حوضِ العلمِ كدّرتِ المجرى
قَدِ اِجتَهدوا في خذلِ دينِ مُحمّدٍ = وَإِن زَعَموا بِالإجتهادِ له نصرا
قَدِ اِجتَهدوا أَن لا تكاليفَ عندهم = فَصاروا إِباحيّينَ لا نهيَ لا أمرا
وَما العلمُ شرطُ الإجتهادِ ولا التُقى = لَديهم ولكِن كلُّ عبدٍ غدا حرّا
فَيفعلُ في الأحكامِ فعلَ دوابهِ = إِذا أُطلِقَت مِن دونِ قيدٍ إلى الصحرا
وَأَقوى شُروطِ الإِجتهادِ لَديهمُ = وَقاحةُ وَجهٍ حدّهُ يفلقُ الصَخرا
وَكَم ذا رَأَينا في الأُلى يدّعونه = تُيوساً وكَم ذا قَد رَأينا بهم حُمرا
نَعم جَهلُها جَهلٌ بسيطٌ وجهلهم = بِتركيبهِ قَد صارَ أَقواهُما ضرّا
وَقَد جاوَزوا أَطوارَهم ودوابهم = عَلى حالِها ما جاوَزَت مِثلَهُم طَورا
فَما قطُّ شاهَدنا حِماراً مُسابقاً = جَواداً وَتيساً صارعَ الليثَ وَالنِمرا
وَهُم لو تعدّوا ألفَ طورٍ ومثلها = حُدوداً وأَطواراً لَما جاوزوا القعرا
يَقولونَ إنّا كالأئمّة كلّنا = رِجالٌ وما زادوا على أحدٍ ظفرا
لَقد أَخطؤوا أينَ الثريّا منَ الثرى = وَما لبغاثِ الطيرِ أن يشبه النَسرا
نَعَم مثلُهم وزناً بوزنٍ وصورةٍ = عَلى صورةٍ كالتربِ قد أشبه التِبرا
وَلَو ثمَّ مِرآةٌ يرونَ نُفوسهم = بَها لَرأوها بينَ أهل النُهى ذرّا
يَقولونَ أَغنانا كتابٌ وسنّةٌ = وَلَم يُبقيا فينا لِغَيرهما فَقرا
وَفي الألفِ مِنهم ليسَ يوجدُ حافظٌ = لِجزءِ حَديثٍ قلَّ أَو سورةٍ تُقرا
وَما قَرؤوهُ مِنهُما عَن جهالةٍ = فَلا فاهمٌ معنىً ولا عالمٌ سرّا
وَما نَهيا عنه وما أمَرا بهِ = فَلا سامِعٌ نهياً ولا طائعٌ أمرا
وكشف الشيخ إباحية القوم وفسادهم , وبثهم الخدائع، ونفثهم في عقد المكاره والمكائد , وكيف أصبح المحرّم عندهم مباحا , والباطل صراحا , فيشربون الخمر متذرعين بالعذر , ويتركون الصلاة والصيام وأركان الإسلام , وذكر بعض الحوادث المؤكدة لذلك , حصل بعضها معه والبعض الآخر حدّثه به الثقات :
تَراهُم إباحيّين أو هُم نَظيرهم = إِذا كنتَ عَن أسرارهِم تكشفُ السِترا
وَكلُّ اِمرئٍ لا يَستحي في جدالهِ = مِنَ الكذبِ وَالتلفيق مهما أَتى نُكرا
فَمَن قالَ صلّوا قال قائلهم له = يَجوزُ لَنا في البيتِ نَجمعُها قَصرا
وَإِن قيل لا تشرَب يقولُ شَرِبتها = بِقصدِ الشِفا أَو قالَ ليس اِسمُها خمرا
فَيجهرُ كُلٌّ بالمَعاصي مجادلاً = بِما نَفثَ الشيطانُ في قلبهِ سرّا
فَلا صامَ لا صلّى ولا حجّ لا حبى = فَقيراً وإِن أَودى به فقرهُ برّا
وَفي الألفِ منهم واحدٌ ربّما أتى = مَساجدَنا لَكِن إذا كانَ مُضطرّا
وَأَخبَرَني مَن لا أشكُّ بصدقهِ = بأَن قَد رَأى من بالَ منهم بلا اِستِبرا
وَلازمهُ حتّى أَتى بعدُ مَسجداً = فَصلّى وَلَم يُحدِث منَ الحدثِ الطُهرا
وَآخر منهُم قَد أقام صلاتهُ = بدونِ اِغتِسالٍ مَع جَنابتهِ الكُبرى
عَلى وجهِ كلٍّ من ظلامٍ علامةٌ = بهِ عرّفت مَن لم يكُن يعرفُ الأَمرا
ثم وصف الشيخ غربة زمانه , حيث رفعت الفتن أجيادها , وجمعت للشر أجنادها , فانتشر الضلال و سمي بغير اسمه، وحكم عليه بغير حكمه , فسموا الإباحية تنوّراً , والإلحاد تحررا , وتظافرالمبطلون على ذلك , فجمعوا أطرافهم، وألّفوا ألفافهم , بعدما أوسعهم الشيطان تسويلا، واستهواهم تغريراً وتضليلا , فخلعوا ربقة الطاعة، وفارقوا ظل الجماعة :
بِهِم غربةُ الدينِ اِستَبانت بِعَصرنا = فَيا قُبحَهم قَوماً ويا قبحهُ عصرا
يَقولونَ عصرُ النورِ فيهِ تنوّروا = وَلكنّهُ مِن نورةٍ تحلقُ الشَعرا
وَقَد حلَقت أَديانَهُم من قلوبهم = فَما تَرَكت مِن نورِ إِيمانهم إثرا
مَعادنُ سوءٍ يتّقي المرءُ شرّهم = يُجامِلُهم جَهراً ويلعَنُهم سرّا
وَيجلبُ مِغناطيسَ إِلحادهم لهم = منَ الناسِ لعناتٍ وإن لعَنوا الغَيرا
عُداةٌ لكلِّ المُؤمنينَ قُلوبهم = لَهُم مُلِئت حِقداً وإن أَظهَروا البِشرا
ذِئابٌ على الإسلامِ صالوا وَما اِكتفوا = بِأَنيابِهم حتّى بهِ أَنشَبوا الظفرا
مَقاريضُ أعراض بِأَلسنةٍ لهم = حِدادٍ بِها قَد أَشبهوا الجرذُ والفَأرا
لَهُم أَوجهٌ كالصخرِ مثل قلوبهم = وَلَكن بِها ماءُ الحَيا ما له مجرى
وَإِنّي وَإِن أحكُم لِظاهرِ حالِهم = بِإِسلامِهم بِالقولِ لا أكفلُ السرّا
فَفي وَجهِ كلٍّ قَد بدا من ظلامهِ = دُخانٌ يُرينا أنّ في قلبهِ جَمرا
وَلَم أَجتَمِع واللَّه منهم بواحدٍ = وَذاكرتهُ إلّا وَددتُ لهُ القَبرا
وَلَم أَستَمِع دَعواهُ إلّا مقتّهُ = وَإلّا قرأتُ الحمقَ في وجههِ سطرا
وَلَم أرَ إلّا ناقصَ الدينِ والحِجا = بهِم فاسدَ الأفكارِ من أدبٍ صفرا
وَأَعداؤُهم مِن بَيننا كلُّ عالمٍ = وَلا سيّما إِن كانَ في فقههِ بَحرا
وَإِن كانَ مَشهورَ الوِلايةِ ضُمّنت = جَوانحُهم مِن بغضهِ الحصّة الكبرى
وَأَحبابهُم أهلُ الغِوايةِ مِثلهم = وَمَهما يكُن أَغوى يكُن عندَهم أحرى
مُناسبةٌ جرّت لكلِّ مُناسب = مُناسِبهُ إِن ساءَ ذلك أو سرّا
لَقد أَحرَزوا ما شانَ مِن كلّ بدعةٍ = وَما أَحرَزوا مِن فضلِ أصحابِها العشرا
جِبلّاتهُم بِالسوءِ قد جُبلت وهم = عَلى خُلقِ الأشرارِ قد فُطروا فطرا
أُولئكَ أَنصارُ الضلالِ وحزبهُ = وَإِن قدّر الرَحمنُ مِنهم لنا نصرا
فَإيّاكَ أَن تغترّ مِنهم بفاجرٍ = وَإِن أنتَ قَد شاهدتَ مِن فعلهِ الخيرا
فَذلكَ شَيءٍ جاءَ ضدّ طِباعهم = وَقد فَعَلوا أَضعافَ أَضعافهِ شرّا
وَكَم أيّد الإسلامَ ربّي بفاجرٍ = فَنُهدي له لا الفاجر الحمدَ والشكرا
أَشدُّ منَ الكفّار فينا نكايةً = وَأَعظم مِنهم في دِيانتنا ضرّا
منَ الكفرِ ذو الإسلامِ يأخذ حذرهُ = وَمِن هؤلاءِ القومِ لا يأخذ الحِذرا
مُعاشِرُهم يَسري له من ضلالهم = مَفاسدُ تُرديه ويَحسَبُها خيرا
عَلى دينِنا ساقوا كتائبَ كتبهم = وَفي حَربهِ جاءَت جرائدُهم تترى
بِها فَتحوا للناسِ بابَ ضلالهم = بِها رَفعوا الدُنيا بها خفَضوا الأخرى
بِها خَلَطوا بالحقِّ باطلَ غيّهم = بِها مَزَجوا الإسلامَ بِالمللِ الأخرى
لَقَد أخرَجوا في صورةِ النصحِ كذبها = بِبهرجةٍ غرّوا بها الجاهلَ الغِرّا
وَقَد دوّنوا فيها مَذاهبَ غيّهم = وَفي ضِمنها دسّوا الدسائسَ وَالمَكرا
فَصارَت لهُم كالأمّ أحكامُهم بها = مُدوّنةٌ لكنّها وَلدت شرّا
وَنِسبَتُهم عندَ الأئمّة مثلها = لَدى كُتبهم كالشهدِ قِست بهِ الصَبرا
وبعدها يتوجه الشيخ ليخاطب أمة الإسلام , فحثهم على التمسك بسبل الهداية والسلام , والتشبث بمذاهب الأئمة الأعلام , وحذرهم من اتباع المتحررين من المذاهب , الذين رتعوا في أكلائها وغفلوا عن شكر آلائها , وساروا على مدارج الغرور، وأثاروا كوامن الثبور :
فَيا أمّةَ الإسلامِ يا خير أمّةٍ = بِسبلِ الهُدى تَقفو أئمّتها الغرّا
عَليكُم بكتبِ الدين من كلّ مذهبٍ = وَمِنهم ومِن أقوالهم فاِلزَموا الحذرا
سَفينةُ دينِ اللَّه فيها نَجاتُكم = إِذا فارَ تنّور الفسادِ لكم فَورا
مَذاهِبُكم نعمَ الحصونُ لدينكم = فَلا تفتُروا عَنها ولا تبعُدوا فِترا
أَلا فاِحذَروا الأسدَ الضَواريَ مرّة = وَمِن هؤلاءِ المارقينَ اِحذَروا عَشرا
مَجاذيمُ مِن داءِ الضلالةِ كلُّهم = فَما أَحدٌ مِن دائهِ أبداً يبرا
تَجارت بِهم أَهواؤُهم كالّذي جَرى = بِه كَلبٌ يعدي إِذا نهشَ الغَيرا
وَهُم كلَّ يَومٍ باِزديادٍ كأنّهم = أَبالِسةٌ بالحكِّ قَد ولّدَت أُخرى
وَكلّهمُ رِجسٌ ولَكن دُعاتُهم = نَجاسَتُهم جاءَت مغلّظةً كُبرى
فَلو غُسلوا في البحرِ وَالبحرُ طافحٌ = لَما أثّر البحرَ المُحيطُ بِهم طهرا
كَأسنانِ مشطٍ كلُّهم في ضَلالهم = فَلا أَحدٌ يُبدي على أَحدٍ فَخرا
وَلا تائبٌ مِنهم وهل ثمَّ توبةٌ = وَهُم لا يرَون الوِزرَ في نفسهِ وِزرا
فَقَد ملكَ الشيطانُ ملكاً مؤبّداً = نَواصيهم وَاللحمَ وَالعظمَ والشعرا
أُجاهِدهُم ما دمتُ حيّاً فإن أَمُت = تَركتُ لَهم جيشينِ نَظميَ والنثرا
وَلستُ أُبالي إِن أفُز بِجهادهم = إِذا فاتَني فَتحٌ لروميّة الكُبرى
يتبع...