جمال حسني الشرباتي
28-07-2004, 16:15
السلام عليكم
في منتدى النيلين لنا اخ طبيب يسمي نفسه seeker
كتب ردا على القصة المختلقة حول حيرة الامام الجويني
انشرها هنا متنيا ان يقول له الشيخ سعيد
الله يعطيك العافية يا اخ seeker
-------------------------------------------------------------------------------
(هذه القصة لا يمكن بحال تصديقها ، لا من جهة المتن ولا من جهة السند
فأما من جهة المتن فإن من هو مثل إمام الحرمين لا يمكن بحال أن يحيره أو يعجزه سؤال طفولي مثل هذا السؤال الذي يستطيع أصغر طالب في مدرسة أهل السنة الرد عليه دع عنك من انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، بل لا يحتاج ردا أصلا وإنما غاية ما يحتاجه المنع ليسقط .
وبيان ذلك أن فطرة الإنسان تتغير وتتبدل بما يحيط به من مؤثرات وعوامل ، فتنطبع نفسه بأمور قد تكون معلولة سقيمة في نفسها ولكن الإنسان لإلفه لها يعتقد أنها هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
فمن نشأ على التجسيم واعتقاد الحد والجهة لله إذ ذكر الله عنده هفا قلبه مباشرة إلى الأعلى معتقدا فعلا أنه معبوده موجود هناك ويعتقد أن هذه هي فطرة البشر !!
والهندوسي مثلا إذا ذكر الإله تتجه نفسه مباشرة إلى أصنامه التي يسجد لها أمامه ويعتقد جازما أن هذه هي الفطرة !!
والنصراني إذا ذكر الله تتجه نفسه مباشرة إلى تمثال شبيه المسيح المصلوب معتقدا أن ذلك هو ربه وهو في قرارة نفسه يعتقد أن هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها !!
وهكذا دواليك ..
ثم إن كان الأمر أمر توجه قلب ونفس فإن المصلي مثلا تتوجه نفسه بكلياتها عن الصلاة لا إلى أعلى بل إلى الأمام لأنه يستشعر أن تلك هي الجهة التي تتوجه إليها صلاته ويوجد فيها ربه لا حقيقة وإنما مجازا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصلي في الصحيح ( فإن ربه أمامه ) أو كما قال .
فهل هي الفطرة أيضا !!!
ولما يدعو المؤمن ربه فإنه يرفع يديه إلى السماء لأن نفسه تستشعر أن تلك هي قبلة الدعاء والرحمة وما تحمله الأيام من خير وشر مسطور في اللوح الموجود في السماء ، وهذا رغم أنه يدعو أيضا في صلاته غير أنه حينها يتوجه إلى القبلة ، فأيهما الفطرة !!؟
والحقيقة هي أن الفطرة ليست أصلا من الأدلة الشرعية المعتبرة حتى تقارع بها الأدلة العقلية والسمعية المحكمة البينة ، وإنما تورد إيراد الاستئناس فقط .
وسبب ذلك أن الفطرة غير منضبطة ومتكيفة بمحيط الإنسان .
صحيح يوجد في نفس كل إنسان " ضرورة " نزاعة نحو الإله وهذا هو القدر الوحيد المنضبط من الفطرة بين سائر الخلق ، وأما ما عدا ذلك فكل فطرته حسب نشأته لأن الضرورة هي وجود الإله ، أما صفات الإله فليست من الضرورات ولا سبيل إليها إلا بالنظر والنظر يختلف ويتأثر بالبيئة فتتعدد الألهة والمعبودات تبعا لذلك وكل يدعي انه على الصراط السوي ..
ألم ترى إلى قول الله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } فنحن نخرج من بطون امهاتنا لا نعلم شيئا البتة لا عن الإله ولا عن غيره ثم نتعلم ذلك شيئا فشيئا إما بالتعليم والتلقين أو بالبحث والنظر فتتكيف نفوسنا تبعا لذلك وتتطبع بما استقر فيها .
فكما نرى دفع هذا التوهم سهل جدا ولا يعجز إمام الحرمين أن يرده في طرفة عين لو أن هذه القصة وقعت فعلا، وإنما أطلت فيه لأن أقواما صاروا يعولون عليه ويعتبرونه من الأدلة ، بل وصل بهم الإفلاس والفقر أن اعتبروا استعظام العوام قلب النعال إلى الأعلى من أدلة الجهة لله عندهم وصاروا يقارعون بها قوله تعالى { ليس كمثله شيء } فالله المستعان !!
ثم إن نحن نظرنا في هذه القصة الخرافة من ناحية أخرى ازددنا يقينا بأنها لا تعدو ان تكون احدى بنات أفكار الحشوية المجسمة الذين ليس لهم شغل سوى تلفيق مثل هذه القصص والدس في الكتب ، وإلا فإن القصة يفترض بها ان تكون قد وقعت في مجلس يؤمه العشرات إن لم نقل المئات من تلامذة الإمام ومحبيه والعوام بل ومبغضيه أيضا !!
فما بالهم لم ينقل لنا أي واحد منهم هذه القصة الأعجوبة التي أبكت كل المجلس !!!؟؟
ما بالها هذه القصة ليس لها إلا مخرج واحد وسندها مشحون شحنا باعداء الإمام من حشوية الحنابلة !!!؟؟
هل يا ترى حدثت هذه القصة في حجاب عن بقية الخلق فلم يرها ولم يسمعها أحد إلا رواتها من بين كل الناس !!؟؟
ثم نحن إن تأملنا زيادة في سندها وفحصناه - وهذا هو محل البحث هنا - لتهاوت هذه الخرافة وسقطت على أم رأسها .. ولننظر في ذلك معا أولا في سند القصة المنقولة هنا من مختصر علو الذهبي ثم في سند آخر لها في سير أعلام النبلاء للذهبي أيضا ..
السند الأول :
وهو الذي جاء به الأخ ابن تيمية :
قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بحران، أنبأنا الحافظ أبو العلاء، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ فقال:
سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؟
فقال: "كان الله ولا عرش" - وجعل يتخبط في الكلام -،
فقلت: "قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟"
فقال: "ما نريد بها القول وما تعني بهذه الإشارة؟"
فقلت: "ما قال عارف قط: رباه، إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت"،
وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: "يا للحيرة"، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: "يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة".
فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: "سمعناه يقول: حيرني الهمداني".
والقصة بهذا السند أوردها الذهبي في ( العلو ) .
والآن لننظر في بعض التواريخ وليستنتج القارئ اللبيب بنفسه ما نريد إيصاله إليه :
- الذهبي الذي أورد القصة ونقلها عن أبي منصور بن الوليد :
ولد : 673 هـ
توفي : 748 هـ
أبو منصور بن الوليد الحريمي الحنبلي الذي روى عنه الذهبي القصة :
توفي : 643 هـ
لاحظ أيها القارئ ..
الذهبي ولد : 673 هـ
الحريمي توفي : 643 هـ
أي أن الحريمي توفي قبل ولادة الذهبي بثلاثين عاما ، فيعني ذلك أن الذهبي لم يسمع منه القصة بنفسه مباشرة !!
وكتاب ( العلو ) ألفه الذهبي في عشرينيات عمره !!
أي بعد أكثر من خمسين عاما من وفاة الحريمي.
فنستنتج إذن ان الذهبي لم يسمع القصة من الحريمي .
وهذا هو ما أشار إليه الذهبي نفسه بقوله :
(قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني )
فالذهبي وباعترافه هو ينقل من رسالة وجدها موجهة من الحريمي إلى الزنجاني ولم يسمع من الزنجاني نفسه لأنه توفي قبل ولادته بثلاثين عاما .
فبان أول عيب في هذه القصة الخرافية العجيبة ، ومثل هذه الرواية المروية من كتاب شخص لم يلتقه الراوي في حياته لا تقوم ولا يعتد بها أصلا لاحتمالات كثيرة كالدس وخطأ النساخ والتحريف والتشويه وأشياء أخرى لا تخفى على بني حشو .
لذا كان الرواة يقرأون البخاري كله مثلا على من قرأه أو سمعه ممن سمعه عن من سمعه وهكذا حتى يصلوا إلى البخاري .
لو أن الذهبي كان التقى بالحريمي أو عرف أنه من تلامذته ثم روى هذه القصة لقبلنا ذلك على مضض لاحتمال أن يكون الحريمي قد أعطاه هذه الرسالة أو أشار إليها أو رآها الذهبي قبل أن يرسلها .
ثم إن نحن تركنا هذه النقطة وافترضنا أن الذهبي ينقل عن رسالة للحريمي فعلا سالمة من الدس والأخطاء ، فإننا سنقع في مطب أصعب من الأول ..
لننظر معا ..
الحريمي توفي : 643 هـ
والحريمي وجه رسالة إلى الزنجاني نقل عنها الذهبي هذا الكلام .
ولكن الزنجاني الموجهة إليه الرسالة هنا هو سبب المشكلة ، - ولذا سألتك عنه كثيرا أخي ابن تيمية لأتثبت - ، ولنتأمل ..
الزنجاني ، سعد بن علي الزنجاني :
ولد : 380 هـ
توفي : 471 هـ
لاحظ أيها القارئ النبيه ..
توفي 471 هـ ، أي أن بين الزنجاني وبين الحريمي المتوفي 643هـ قرابة القرنين من الزمان !!!!!
فكيف وجه الحريمي رسالة إلى الزنجاني الذي عاش قبله بقرنين من الزمان روى فيها هذه القصة الخرافة !!!؟؟؟
هذه في نفسها خرافة أخرى !!!!
وهذا هو الزنجاني الثقة الوحيد الذي استطعت العثور عليه بعد البحث .
وهذا الزنجاني ( سعد بن علي ) صوفي مشهور من سكان مكة المكرمة ومن أصحاب الأحوال والكرامات - ولعل أخانا بن تيمية الآن يفتح عينيه جيدا - وهو في الحقيقة له علاقة بهذه القصة ، أو بالأصح بمخرج هذه القصة المشهورة عنه الذي تروى في أغلب الأحيان عنه ألا وهو محمد بن الطاهر المقدسي ( 408هـ - 507هـ ) وهو قد كان من المعاصرين لإمام الحرمين وللهمداني أيضا ومن المجاورين لهما في الموطن
.
والمقدسي تلميذ الزنجاني وتعلم على يديه الكثير وكان يجله جدا ( راجع السير ) .
غير ان المقدسي - وهذه هي المصيبة - هو في نفسه فيه كلام كثير كثير جدا وليراجع من شاء ترجمته في لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ليقف على حاله .
والمقدسي ظاهري المذهب وهو أيضا صوفي ملاماتي ممن يروى عنه الكشف والكرامات بل والسماع أيضا ، فهو من " المطبلاتية " الراقصين عند وهابية اليوم وغريب جدا استنادهم على مثله ، وعموما هو ليس بالقوي كما اشار الحافظ ابن حجر .
وربما كانت الرسالة منه هو إلى الزنجاني بلأنه معاصره ونقل عنها البقية كلهم فسقط اسمه من السند - أو أسقط عمدا - وتوهم من توهم سواء أكان النساخ أو غيرهم أن الرسالة من الحريمي إلى الزنجاني .
أقول هذا كله على أن الزنجاني هو سعد بن علي ولا أقطع به !!
وعموما في كل الاحوال فإن الحريمي لم يأخذ عنه الذهبي وتوفي قبل ولادته بثلاثين عاما فغاية ما يفعل الذهبي هنا هو فعل الصحفيين وهو النقل عن رسالة التصحيف والتحريف فيها ممكن جدا خاصة في ذلك الوقت . )
في منتدى النيلين لنا اخ طبيب يسمي نفسه seeker
كتب ردا على القصة المختلقة حول حيرة الامام الجويني
انشرها هنا متنيا ان يقول له الشيخ سعيد
الله يعطيك العافية يا اخ seeker
-------------------------------------------------------------------------------
(هذه القصة لا يمكن بحال تصديقها ، لا من جهة المتن ولا من جهة السند
فأما من جهة المتن فإن من هو مثل إمام الحرمين لا يمكن بحال أن يحيره أو يعجزه سؤال طفولي مثل هذا السؤال الذي يستطيع أصغر طالب في مدرسة أهل السنة الرد عليه دع عنك من انتهت إليه رئاسة المذهب في زمانه، بل لا يحتاج ردا أصلا وإنما غاية ما يحتاجه المنع ليسقط .
وبيان ذلك أن فطرة الإنسان تتغير وتتبدل بما يحيط به من مؤثرات وعوامل ، فتنطبع نفسه بأمور قد تكون معلولة سقيمة في نفسها ولكن الإنسان لإلفه لها يعتقد أنها هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها .
فمن نشأ على التجسيم واعتقاد الحد والجهة لله إذ ذكر الله عنده هفا قلبه مباشرة إلى الأعلى معتقدا فعلا أنه معبوده موجود هناك ويعتقد أن هذه هي فطرة البشر !!
والهندوسي مثلا إذا ذكر الإله تتجه نفسه مباشرة إلى أصنامه التي يسجد لها أمامه ويعتقد جازما أن هذه هي الفطرة !!
والنصراني إذا ذكر الله تتجه نفسه مباشرة إلى تمثال شبيه المسيح المصلوب معتقدا أن ذلك هو ربه وهو في قرارة نفسه يعتقد أن هذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها !!
وهكذا دواليك ..
ثم إن كان الأمر أمر توجه قلب ونفس فإن المصلي مثلا تتوجه نفسه بكلياتها عن الصلاة لا إلى أعلى بل إلى الأمام لأنه يستشعر أن تلك هي الجهة التي تتوجه إليها صلاته ويوجد فيها ربه لا حقيقة وإنما مجازا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المصلي في الصحيح ( فإن ربه أمامه ) أو كما قال .
فهل هي الفطرة أيضا !!!
ولما يدعو المؤمن ربه فإنه يرفع يديه إلى السماء لأن نفسه تستشعر أن تلك هي قبلة الدعاء والرحمة وما تحمله الأيام من خير وشر مسطور في اللوح الموجود في السماء ، وهذا رغم أنه يدعو أيضا في صلاته غير أنه حينها يتوجه إلى القبلة ، فأيهما الفطرة !!؟
والحقيقة هي أن الفطرة ليست أصلا من الأدلة الشرعية المعتبرة حتى تقارع بها الأدلة العقلية والسمعية المحكمة البينة ، وإنما تورد إيراد الاستئناس فقط .
وسبب ذلك أن الفطرة غير منضبطة ومتكيفة بمحيط الإنسان .
صحيح يوجد في نفس كل إنسان " ضرورة " نزاعة نحو الإله وهذا هو القدر الوحيد المنضبط من الفطرة بين سائر الخلق ، وأما ما عدا ذلك فكل فطرته حسب نشأته لأن الضرورة هي وجود الإله ، أما صفات الإله فليست من الضرورات ولا سبيل إليها إلا بالنظر والنظر يختلف ويتأثر بالبيئة فتتعدد الألهة والمعبودات تبعا لذلك وكل يدعي انه على الصراط السوي ..
ألم ترى إلى قول الله تعالى : { والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً } فنحن نخرج من بطون امهاتنا لا نعلم شيئا البتة لا عن الإله ولا عن غيره ثم نتعلم ذلك شيئا فشيئا إما بالتعليم والتلقين أو بالبحث والنظر فتتكيف نفوسنا تبعا لذلك وتتطبع بما استقر فيها .
فكما نرى دفع هذا التوهم سهل جدا ولا يعجز إمام الحرمين أن يرده في طرفة عين لو أن هذه القصة وقعت فعلا، وإنما أطلت فيه لأن أقواما صاروا يعولون عليه ويعتبرونه من الأدلة ، بل وصل بهم الإفلاس والفقر أن اعتبروا استعظام العوام قلب النعال إلى الأعلى من أدلة الجهة لله عندهم وصاروا يقارعون بها قوله تعالى { ليس كمثله شيء } فالله المستعان !!
ثم إن نحن نظرنا في هذه القصة الخرافة من ناحية أخرى ازددنا يقينا بأنها لا تعدو ان تكون احدى بنات أفكار الحشوية المجسمة الذين ليس لهم شغل سوى تلفيق مثل هذه القصص والدس في الكتب ، وإلا فإن القصة يفترض بها ان تكون قد وقعت في مجلس يؤمه العشرات إن لم نقل المئات من تلامذة الإمام ومحبيه والعوام بل ومبغضيه أيضا !!
فما بالهم لم ينقل لنا أي واحد منهم هذه القصة الأعجوبة التي أبكت كل المجلس !!!؟؟
ما بالها هذه القصة ليس لها إلا مخرج واحد وسندها مشحون شحنا باعداء الإمام من حشوية الحنابلة !!!؟؟
هل يا ترى حدثت هذه القصة في حجاب عن بقية الخلق فلم يرها ولم يسمعها أحد إلا رواتها من بين كل الناس !!؟؟
ثم نحن إن تأملنا زيادة في سندها وفحصناه - وهذا هو محل البحث هنا - لتهاوت هذه الخرافة وسقطت على أم رأسها .. ولننظر في ذلك معا أولا في سند القصة المنقولة هنا من مختصر علو الذهبي ثم في سند آخر لها في سير أعلام النبلاء للذهبي أيضا ..
السند الأول :
وهو الذي جاء به الأخ ابن تيمية :
قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني: أنبأنا عبد القادر الحافظ بحران، أنبأنا الحافظ أبو العلاء، أنبأنا أبو جعفر بن أبي علي الحافظ فقال:
سمعت أبا المعالي الجويني وقد سئل عن قوله: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}؟
فقال: "كان الله ولا عرش" - وجعل يتخبط في الكلام -،
فقلت: "قد علمنا ما أشرت إليه، فهل عندك للضرورات من حيلة؟"
فقال: "ما نريد بها القول وما تعني بهذه الإشارة؟"
فقلت: "ما قال عارف قط: رباه، إلا قبل أن يتحرك لسانه، قام باطنه قصد لا يلتفت يمنة ولا يسرة يقصد الفوق، فهل لهذا القصد الضروري عندك من حيلة؟ فنبئنا نتخلص من الفوق والتحت"،
وبكيت وبكى الخلق، فضرب الأستاذ بكمه على السرير وصاح: "يا للحيرة"، وخرق ما كان عليه وانخلع، وصارت قيامة في المسجد، ونزل، ولم يجبني إلا: "يا حبيبي الحيرة الحيرة، والدهشة الدهشة".
فسمعت بعد ذلك أصحابه يقولون: "سمعناه يقول: حيرني الهمداني".
والقصة بهذا السند أوردها الذهبي في ( العلو ) .
والآن لننظر في بعض التواريخ وليستنتج القارئ اللبيب بنفسه ما نريد إيصاله إليه :
- الذهبي الذي أورد القصة ونقلها عن أبي منصور بن الوليد :
ولد : 673 هـ
توفي : 748 هـ
أبو منصور بن الوليد الحريمي الحنبلي الذي روى عنه الذهبي القصة :
توفي : 643 هـ
لاحظ أيها القارئ ..
الذهبي ولد : 673 هـ
الحريمي توفي : 643 هـ
أي أن الحريمي توفي قبل ولادة الذهبي بثلاثين عاما ، فيعني ذلك أن الذهبي لم يسمع منه القصة بنفسه مباشرة !!
وكتاب ( العلو ) ألفه الذهبي في عشرينيات عمره !!
أي بعد أكثر من خمسين عاما من وفاة الحريمي.
فنستنتج إذن ان الذهبي لم يسمع القصة من الحريمي .
وهذا هو ما أشار إليه الذهبي نفسه بقوله :
(قال أبو منصور بن الوليد الحافظ في رسالة له إلى الزنجاني )
فالذهبي وباعترافه هو ينقل من رسالة وجدها موجهة من الحريمي إلى الزنجاني ولم يسمع من الزنجاني نفسه لأنه توفي قبل ولادته بثلاثين عاما .
فبان أول عيب في هذه القصة الخرافية العجيبة ، ومثل هذه الرواية المروية من كتاب شخص لم يلتقه الراوي في حياته لا تقوم ولا يعتد بها أصلا لاحتمالات كثيرة كالدس وخطأ النساخ والتحريف والتشويه وأشياء أخرى لا تخفى على بني حشو .
لذا كان الرواة يقرأون البخاري كله مثلا على من قرأه أو سمعه ممن سمعه عن من سمعه وهكذا حتى يصلوا إلى البخاري .
لو أن الذهبي كان التقى بالحريمي أو عرف أنه من تلامذته ثم روى هذه القصة لقبلنا ذلك على مضض لاحتمال أن يكون الحريمي قد أعطاه هذه الرسالة أو أشار إليها أو رآها الذهبي قبل أن يرسلها .
ثم إن نحن تركنا هذه النقطة وافترضنا أن الذهبي ينقل عن رسالة للحريمي فعلا سالمة من الدس والأخطاء ، فإننا سنقع في مطب أصعب من الأول ..
لننظر معا ..
الحريمي توفي : 643 هـ
والحريمي وجه رسالة إلى الزنجاني نقل عنها الذهبي هذا الكلام .
ولكن الزنجاني الموجهة إليه الرسالة هنا هو سبب المشكلة ، - ولذا سألتك عنه كثيرا أخي ابن تيمية لأتثبت - ، ولنتأمل ..
الزنجاني ، سعد بن علي الزنجاني :
ولد : 380 هـ
توفي : 471 هـ
لاحظ أيها القارئ النبيه ..
توفي 471 هـ ، أي أن بين الزنجاني وبين الحريمي المتوفي 643هـ قرابة القرنين من الزمان !!!!!
فكيف وجه الحريمي رسالة إلى الزنجاني الذي عاش قبله بقرنين من الزمان روى فيها هذه القصة الخرافة !!!؟؟؟
هذه في نفسها خرافة أخرى !!!!
وهذا هو الزنجاني الثقة الوحيد الذي استطعت العثور عليه بعد البحث .
وهذا الزنجاني ( سعد بن علي ) صوفي مشهور من سكان مكة المكرمة ومن أصحاب الأحوال والكرامات - ولعل أخانا بن تيمية الآن يفتح عينيه جيدا - وهو في الحقيقة له علاقة بهذه القصة ، أو بالأصح بمخرج هذه القصة المشهورة عنه الذي تروى في أغلب الأحيان عنه ألا وهو محمد بن الطاهر المقدسي ( 408هـ - 507هـ ) وهو قد كان من المعاصرين لإمام الحرمين وللهمداني أيضا ومن المجاورين لهما في الموطن
.
والمقدسي تلميذ الزنجاني وتعلم على يديه الكثير وكان يجله جدا ( راجع السير ) .
غير ان المقدسي - وهذه هي المصيبة - هو في نفسه فيه كلام كثير كثير جدا وليراجع من شاء ترجمته في لسان الميزان لابن حجر العسقلاني ليقف على حاله .
والمقدسي ظاهري المذهب وهو أيضا صوفي ملاماتي ممن يروى عنه الكشف والكرامات بل والسماع أيضا ، فهو من " المطبلاتية " الراقصين عند وهابية اليوم وغريب جدا استنادهم على مثله ، وعموما هو ليس بالقوي كما اشار الحافظ ابن حجر .
وربما كانت الرسالة منه هو إلى الزنجاني بلأنه معاصره ونقل عنها البقية كلهم فسقط اسمه من السند - أو أسقط عمدا - وتوهم من توهم سواء أكان النساخ أو غيرهم أن الرسالة من الحريمي إلى الزنجاني .
أقول هذا كله على أن الزنجاني هو سعد بن علي ولا أقطع به !!
وعموما في كل الاحوال فإن الحريمي لم يأخذ عنه الذهبي وتوفي قبل ولادته بثلاثين عاما فغاية ما يفعل الذهبي هنا هو فعل الصحفيين وهو النقل عن رسالة التصحيف والتحريف فيها ممكن جدا خاصة في ذلك الوقت . )