محمد عوض عبد الله
13-07-2007, 23:05
العقوبات الإسلامية
وعقدة التناقض بينها وبين ما يسمى بطبيعة العصر الحديث]]من المعلوم أن العقوبات في الشريعة الإسلامية تنقسم إلى نوعين :
عقوبات مقدرة بنصوص من الكتاب أو السنة ، لا تدع مجالاً لتغييرها، مهما تطورت الأزمنة واختلفت الأمكنة.
وعقوبات فوض الشارع تقديرها إلى بصيرة الحاكم المسلم، على ألا تتجاوز حدوداً معينة.
فأما النوع الأول منهما ، فيتعلق بجرائم أساسية هي في الحقيقة أمهات الجرائم والانحرافات المختلفة التي قد تشيع في المجتمع ، وهي لا تخلو من أن تكون انتهاكاً لكلي من حقوق الله عز وجل، أو لكلي من الحقوق الإنسانية، أو انتهاكاً لقيم أخلاقية ذات خطورة اجتماعية وآثار هامة.
وبتعبير آخر : هي الجرائم التي تعد انتهاكاً مباشراً للضروريات المتعلقة بكليات المصالح الخمس ، التي قامت شرعة الإسلام لتحقيقها وحمايتها.
وهي : الدين ، والحياة ، والعقل ، والنسل ، والمال.
فكان من مقتضى خطورتها هذه أن أناط الشارع بها عقوبات محددة بنصوص صريحة واضحة ، وأن لا يدع أمر النظر فيها عائداً إلى إجتهادات العلماء والحاكمين ، تحسباً للأخطاء الاجتهادية فيها من جانب، وسداً لسبل التهاون في أمرها من جانب آخر.
وهي : قتل المرتد . وقد شرعه الله حفظاً للدين.
- والقصاص . وقد شرعه الله حفظاً للحياة .
- وحد الشرب ، وقد شرعه الله تعالى حفظاً للعقول.
- وحد الزنى والقذف ، وقد شرعهما الله تعالى حفظاً للأنساب والحرمات.
- وحد السرقة ، وقطع الطريق ، وقد شرعهما الله تعالى حفظاً للأموال.
فهذه هي الحدود. وقد ذهبنا مذهب من يرى عد القصاص من الحدود.
وأعلى درجاتها القتل ، ثم القطع ، ثم الضرب أو الضرب مع النفي والتغريب.
وأما النوع الثاني منهما ، فيتعلق بجرائم وإنحرافات فرعية ، لا بد أن يمت كل منهما بنسب إلى واحدة من تلك الجرائم الأساسية التي حدد الشارع عقوباتها ، ولكنها لا تعدو أن تكون مقدمة إليهما ، أو ذيلاً من ذيولها ، أو نوعاً من التهييج نحوها والدعوة إليها.
فلئن كانت الجرائم الأساسية التي نص الشارع عل عقوباتها إهداراً لما هو ضروري لتحقيق المصالح الخمس التي ذكرناها، فإن سائر الجرائم الأخرى تعد إهداراً لما هو حاجيّ أو تحسينيّ من أجل تحقيق تلك المصالح ذاتها.
فمن أجل ذلك عهد الشارع إلى وليّ الأمر برسم العقوبة التي يراها مناسبة لكل انحراف أو جريمة من هذه الجرائم الفرعية ، على أن تراعي في ذلك شروط وقيود معينة لا مجال للحديث عنها في هذا المقام. وتلك هي التعازير.
وإذا كان حديثنا في هذا الصدد عن النوع الأول ، وهو ما يسمى بالحدود، فإنى لأعتقد أن أهم عقدة تبرز في هذا الموضوع وتحتاج إلى المعالجة والنقاش في عصرنا هذا ، هو التناقضات القائمة في أذهان كثير من الناس ، بين هذه الحدود وطبيعة العصر الذي نحن فيه.
بل إننى لا أتصور أن يقوم أي عائق في طريق تنفيذ الحدود وتطبيقها في أي مجتمع من المجتمعات اليوم، إلا إذا كان ثمرة لهذه التناقضات.
فما هي هذه التناقضات ؟
وما مصدرها وقيمتها في ضوء العلم ؟
ثم ما هو سبيل القضاء عليها ؟
على هذا الترتيب سنسير في معالجة بحثنا هذا إن شاء الله.
أولاً : ما هي حقيقة هذه التناقضات ؟
إن الباحث قد يخيل إليه أن مظاهر هذه التناقضات كثيرة متعددة الجوانب، غير أني أعتقد أنها تنتهي على مظهرين اثنين لا ثالث لهما ، وسأشرح كلاً منهما بشئ من النظر والتفصيل.
المظهر الأول : هذا الثبات الذي تتسم به الحدود في الشريعة الإسلامية .. فقد اجتازت أربعة عشر قرناً من الزمن، بما تحمله هذه القرون من طوارئ العادات والظروف والمدنيات ، وهي : لم تتطور ولم تتبدل ، لم تعل إلى مزيد من الشدة، ولا تدانت إلى شئ من اللين والخفة !
والنفس الإنسانية . أينما كانت ، تعاني من عقدة ضد القديم.
فهي تتبرم من القديم وتعافه ، إذ يخيل إليها أن الزمن استحلب خيراته واعتصر كل ما قد كان فيه من نفع وجدوى ! .. وهي تحفل بكل جديد وتتشوق إليه. إذ يخيل إليها أنه قد يكون مليئاً بما لم يكتشفه الزمن من النفع والخير بعد !...
خذ أحدث قانون اجتمعت على وضعه لجنة من خيرة علماء القانون ، يلبي سائر حاجات العصر وينسجم مع مختلف ظروفه وأحواله، ثم قدمه إلى سواد الناس على أنه مجموع أحكام قديمة تعود إلى عهد جستنيان، ثم انظر كيف يعافه أكثر هؤلاء الناس ، وتأمل كيف يختلقون فيه نقيصه تلو أخرى !
ثم انظر إلى أي قانون مدني يطبق اليوم في أي قطر من الأقطار العربية.
إن قيام أكثر من نصف مواده على أحكام الشريعة الإسلامية في المذاهب المختلفة، لم يحل دون قبول الناس له وإقبالهم عليه، ذلك لأن تاريخ ميلاده الذي سجل عليه واستقبله الناس به تاريخ حديث، ولأنه إنما قدم إلى الناس على أنه إبداع جديد، لا على أن نصفه أو أكثره منتزع من أحكام قديمة هي أحكام الشريعة الإسلامية.
ولا يستثنى من التأثر بهذه العقدة النفسية : عقدة القديم والحديث، إلا أولئك الذي بذلوا كل ما لديهم من جهد في سبيل أن يعتقوا عقولهم من الأوهام، وأن يحرروها من غوائل النفس والأهواء .
على أنهم لم يستطيعوا أن يعتقوا عقولهم من هذه العقدة النفسية ، إلا بعد أن استعانوا بمفتاح لا بد منه ، سنتحدث عنه ، عندما يحين البحث في سبيل القضاء على هذه التناقضات.
إن قصة القديم والجديد . تشكل ( ويا للأسف ) المحور الأول للمشكلات المتعلقة بحياتنا الأخلاقية والتشريعية العامة. وإنه ليشتد الأسف عندما نعلم أنه محور نفسي مجرد، لا شأن له بحكم العقل وتحليله إطلاقاً.
أي فنحن مسوقون فيما نقبله ونرفضه من النظم والتشريعات والقيم الأخلاقية ، بمقتضى إيحاءات نفسية ، لا بموجب أحكام عقلية.
فهذا المظهر الأول ، من أهم الأسباب في رفض من يرفضون تطبيق الحدود الشرعية في مجتمعاتنا الإسلامية، إنهم يشمئزون نفسياً من أن تعود اللوحة القديمة ذاتها ، بعد أن ركنت حيناً من الدهر في مخزن التاريخ، فتصبح واقعاً يفرض نفسه في المجتمع ، وإذا الزاني يجلد أو يرجم ، والسارق يقطع ، والشارب يجلد!
المظهر الثاني : ما تتسم به حدود الشريعة الإسلامية أو أكثرها، في نظر سواد كبير من الناس، من القسوة التي تبعث على الاشمئزاز في نفوسهم .
كثيرون هم أؤلئك الذين يقولون : إن الحكم بقطع يد السارق أو رجم الزاني ، ينطوي على قسوة ترفضها إنسانية القرن العشرين ! .. ذلك لأن النظرة الإنسانية الحديثة ، تعد المجتمع مشتركاً لسبب أو لآخر مع المجرم فيما قد أقدم عليه ، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسؤولية .
ومن العجيب أن عصرنا هذا ينادي بشعارات تنتمي إلى نقيض ما هو ثابت فيه !..
إنه يهتف بالحرية ، وما رئيت الحرية الحقيقة للفكر والبحث أضعف منها في هذا العصر !..
وهو ينادي بالعدل والحق ، وما رئي العدل والحق ميتمين ضائعين ، كما يتما وضعياً في هذا العصر !..
وهو ينادي بالإنسانية والرفق . وما رئيت إنسانية أهون منها أمام أي غاية من الغايات في هذا العصر !..
ومع هذا فإنك لتجد الكثير ممن يخجل أن يذعين لأحكام الحدود في الشيعة الإسلامية ، أمام ما يسميه : إنسانية القرن العشرين . كأن قانون السحل والمقصلة ليس من أبرز ما يمتاز به القرن العشرون.
فهذان المظهران ، إليهما مرد كل عامل من عوامل الاشمئزاز من الحدود الشرعية وتطبيقها، عند طائفة من الناس.
مصدر هذا التناقص وتقويمه على ضوء العلم :
والآن ، يجدر بنا أن نتساءل : ما هو مصدر كل من هذين المظهرين وبمعثهما ؟ وما هي قيمتهما الحقيقية في ميزان النظر العلمي الذي يجب أن نحتكم إليه ؟ ويتمثل الجواب على هذا التساؤل في النقاط التالية :
أولاً :- لا يشك أي باحث في أن مبعث كل من هذين المظهرين اللذين تحدثنا عنهما إنما هو مركز الوهم في النفس. لا وحي المنطق والعقل.
فإن فرار الإنسان من القديم واحتفاله بالجديد، ليس إلا أثراً من آثار طبيعة الملل في النفس الإنسانية ، فإن أردت أن تفلسف هذا العامل وتبحث له عن المصطلحات المعروفة عند علماء النفس فهو ليس إلا أثراً من آثار ما يسمونه برد الفعل الشرطي في النفس : رأت النفس أن التمزق والاستهلاك نتيجتان لبعض ما يتقادم عليه العهد من الأشياء ، فتوهمت أن كل ما قد أخذ طابع القدم، لابد أن يلازمه التمزق والاستهلاك، وسيطر هذا المثير الوهمي على النفس فغرس فيها الاشمئزاز من التعامل مع كل ما هو قديم !...
ولكن ، أفإن كان هذا القانون النفسي سلاح الممخرقين والخادعين من الناس في هذه الحياة ، لصرف خصومهم عن الحق والتلبيس عليهم ما أمكن ، أفيصح في مقياس المنطق والعقل أن نستعمل نحن أيضاً هذا السلاح لنلبس به على أنفسنا ونخادع به عقولنا ، فتتخذ منه عذراً في طي جانب من أخطر الجوانب التشريعية عن حياتنا الإسلامية اليوم ؟
لئن كانت النفس البشرية تخيل إلى صاحبها أن القديم قد زال منه نفعه، وجنيت منه ثماره، فإن العقل البشري يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره ... ورب جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان . ورب قديم شهدت الدنيا كلها أنه كان ولا يزال ينبوع سعادة وخير له.
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا لا تزال تنبع من معينها القديم الذي عرفه فجر الحياة فوق هذه الأرض : شمس وماء وأرض وهواء ، وزرع وضرع ...لم يختلف شئ من ذلك منذ أقدم العصور الإنسانية إلى اليوم.
فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية للحياة لقدمها ؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها ؟
ألا ، إن المحاور الثابتة في بنية هذا النظام الكوني ، تحتاج بلا شك ، إلى محاور ثابتة تقابلها في بنية المبادئ والقيم الإنسانية ، وليست عملية التربية والتعليم إلا تحريراً للنفس الإنسانية من سجن أوهامها ، وتصعيداً لها إلى مستوى الانسجام مع هذه الحقيقة التي لا مرية فيها.
وما كانت شرعة العقوبات في نظام الشريعة الإسلامية إلا تطبيقاً لهذا القانون ذاته فقد عمدت إلى الجرائم التي لا يتبدل وجه أو درجة المفسدة فيها ما بين عصر وآخر، مهما تطورت الحياة والنظم ، فقرنت بها عقوبات ثابتة ثبات معنى الإجرام فيها ... ثم أحالت سائر الجرائم والجنح والانحرافات الأخرى، وهي التي قد تتفاوت درجة الخطورة والمفسدة فيها من عصر إلى آخر ، إلى بصيرة الحاكم المسلم المخلص لدين الله والمتبصر بمصلحة الأمة ، يقرر لها من العقوبات ما يرى أنه الخير والمصلحة.
وعقدة التناقض بينها وبين ما يسمى بطبيعة العصر الحديث]]من المعلوم أن العقوبات في الشريعة الإسلامية تنقسم إلى نوعين :
عقوبات مقدرة بنصوص من الكتاب أو السنة ، لا تدع مجالاً لتغييرها، مهما تطورت الأزمنة واختلفت الأمكنة.
وعقوبات فوض الشارع تقديرها إلى بصيرة الحاكم المسلم، على ألا تتجاوز حدوداً معينة.
فأما النوع الأول منهما ، فيتعلق بجرائم أساسية هي في الحقيقة أمهات الجرائم والانحرافات المختلفة التي قد تشيع في المجتمع ، وهي لا تخلو من أن تكون انتهاكاً لكلي من حقوق الله عز وجل، أو لكلي من الحقوق الإنسانية، أو انتهاكاً لقيم أخلاقية ذات خطورة اجتماعية وآثار هامة.
وبتعبير آخر : هي الجرائم التي تعد انتهاكاً مباشراً للضروريات المتعلقة بكليات المصالح الخمس ، التي قامت شرعة الإسلام لتحقيقها وحمايتها.
وهي : الدين ، والحياة ، والعقل ، والنسل ، والمال.
فكان من مقتضى خطورتها هذه أن أناط الشارع بها عقوبات محددة بنصوص صريحة واضحة ، وأن لا يدع أمر النظر فيها عائداً إلى إجتهادات العلماء والحاكمين ، تحسباً للأخطاء الاجتهادية فيها من جانب، وسداً لسبل التهاون في أمرها من جانب آخر.
وهي : قتل المرتد . وقد شرعه الله حفظاً للدين.
- والقصاص . وقد شرعه الله حفظاً للحياة .
- وحد الشرب ، وقد شرعه الله تعالى حفظاً للعقول.
- وحد الزنى والقذف ، وقد شرعهما الله تعالى حفظاً للأنساب والحرمات.
- وحد السرقة ، وقطع الطريق ، وقد شرعهما الله تعالى حفظاً للأموال.
فهذه هي الحدود. وقد ذهبنا مذهب من يرى عد القصاص من الحدود.
وأعلى درجاتها القتل ، ثم القطع ، ثم الضرب أو الضرب مع النفي والتغريب.
وأما النوع الثاني منهما ، فيتعلق بجرائم وإنحرافات فرعية ، لا بد أن يمت كل منهما بنسب إلى واحدة من تلك الجرائم الأساسية التي حدد الشارع عقوباتها ، ولكنها لا تعدو أن تكون مقدمة إليهما ، أو ذيلاً من ذيولها ، أو نوعاً من التهييج نحوها والدعوة إليها.
فلئن كانت الجرائم الأساسية التي نص الشارع عل عقوباتها إهداراً لما هو ضروري لتحقيق المصالح الخمس التي ذكرناها، فإن سائر الجرائم الأخرى تعد إهداراً لما هو حاجيّ أو تحسينيّ من أجل تحقيق تلك المصالح ذاتها.
فمن أجل ذلك عهد الشارع إلى وليّ الأمر برسم العقوبة التي يراها مناسبة لكل انحراف أو جريمة من هذه الجرائم الفرعية ، على أن تراعي في ذلك شروط وقيود معينة لا مجال للحديث عنها في هذا المقام. وتلك هي التعازير.
وإذا كان حديثنا في هذا الصدد عن النوع الأول ، وهو ما يسمى بالحدود، فإنى لأعتقد أن أهم عقدة تبرز في هذا الموضوع وتحتاج إلى المعالجة والنقاش في عصرنا هذا ، هو التناقضات القائمة في أذهان كثير من الناس ، بين هذه الحدود وطبيعة العصر الذي نحن فيه.
بل إننى لا أتصور أن يقوم أي عائق في طريق تنفيذ الحدود وتطبيقها في أي مجتمع من المجتمعات اليوم، إلا إذا كان ثمرة لهذه التناقضات.
فما هي هذه التناقضات ؟
وما مصدرها وقيمتها في ضوء العلم ؟
ثم ما هو سبيل القضاء عليها ؟
على هذا الترتيب سنسير في معالجة بحثنا هذا إن شاء الله.
أولاً : ما هي حقيقة هذه التناقضات ؟
إن الباحث قد يخيل إليه أن مظاهر هذه التناقضات كثيرة متعددة الجوانب، غير أني أعتقد أنها تنتهي على مظهرين اثنين لا ثالث لهما ، وسأشرح كلاً منهما بشئ من النظر والتفصيل.
المظهر الأول : هذا الثبات الذي تتسم به الحدود في الشريعة الإسلامية .. فقد اجتازت أربعة عشر قرناً من الزمن، بما تحمله هذه القرون من طوارئ العادات والظروف والمدنيات ، وهي : لم تتطور ولم تتبدل ، لم تعل إلى مزيد من الشدة، ولا تدانت إلى شئ من اللين والخفة !
والنفس الإنسانية . أينما كانت ، تعاني من عقدة ضد القديم.
فهي تتبرم من القديم وتعافه ، إذ يخيل إليها أن الزمن استحلب خيراته واعتصر كل ما قد كان فيه من نفع وجدوى ! .. وهي تحفل بكل جديد وتتشوق إليه. إذ يخيل إليها أنه قد يكون مليئاً بما لم يكتشفه الزمن من النفع والخير بعد !...
خذ أحدث قانون اجتمعت على وضعه لجنة من خيرة علماء القانون ، يلبي سائر حاجات العصر وينسجم مع مختلف ظروفه وأحواله، ثم قدمه إلى سواد الناس على أنه مجموع أحكام قديمة تعود إلى عهد جستنيان، ثم انظر كيف يعافه أكثر هؤلاء الناس ، وتأمل كيف يختلقون فيه نقيصه تلو أخرى !
ثم انظر إلى أي قانون مدني يطبق اليوم في أي قطر من الأقطار العربية.
إن قيام أكثر من نصف مواده على أحكام الشريعة الإسلامية في المذاهب المختلفة، لم يحل دون قبول الناس له وإقبالهم عليه، ذلك لأن تاريخ ميلاده الذي سجل عليه واستقبله الناس به تاريخ حديث، ولأنه إنما قدم إلى الناس على أنه إبداع جديد، لا على أن نصفه أو أكثره منتزع من أحكام قديمة هي أحكام الشريعة الإسلامية.
ولا يستثنى من التأثر بهذه العقدة النفسية : عقدة القديم والحديث، إلا أولئك الذي بذلوا كل ما لديهم من جهد في سبيل أن يعتقوا عقولهم من الأوهام، وأن يحرروها من غوائل النفس والأهواء .
على أنهم لم يستطيعوا أن يعتقوا عقولهم من هذه العقدة النفسية ، إلا بعد أن استعانوا بمفتاح لا بد منه ، سنتحدث عنه ، عندما يحين البحث في سبيل القضاء على هذه التناقضات.
إن قصة القديم والجديد . تشكل ( ويا للأسف ) المحور الأول للمشكلات المتعلقة بحياتنا الأخلاقية والتشريعية العامة. وإنه ليشتد الأسف عندما نعلم أنه محور نفسي مجرد، لا شأن له بحكم العقل وتحليله إطلاقاً.
أي فنحن مسوقون فيما نقبله ونرفضه من النظم والتشريعات والقيم الأخلاقية ، بمقتضى إيحاءات نفسية ، لا بموجب أحكام عقلية.
فهذا المظهر الأول ، من أهم الأسباب في رفض من يرفضون تطبيق الحدود الشرعية في مجتمعاتنا الإسلامية، إنهم يشمئزون نفسياً من أن تعود اللوحة القديمة ذاتها ، بعد أن ركنت حيناً من الدهر في مخزن التاريخ، فتصبح واقعاً يفرض نفسه في المجتمع ، وإذا الزاني يجلد أو يرجم ، والسارق يقطع ، والشارب يجلد!
المظهر الثاني : ما تتسم به حدود الشريعة الإسلامية أو أكثرها، في نظر سواد كبير من الناس، من القسوة التي تبعث على الاشمئزاز في نفوسهم .
كثيرون هم أؤلئك الذين يقولون : إن الحكم بقطع يد السارق أو رجم الزاني ، ينطوي على قسوة ترفضها إنسانية القرن العشرين ! .. ذلك لأن النظرة الإنسانية الحديثة ، تعد المجتمع مشتركاً لسبب أو لآخر مع المجرم فيما قد أقدم عليه ، فكان من العدالة أن يتقاسم معه المسؤولية .
ومن العجيب أن عصرنا هذا ينادي بشعارات تنتمي إلى نقيض ما هو ثابت فيه !..
إنه يهتف بالحرية ، وما رئيت الحرية الحقيقة للفكر والبحث أضعف منها في هذا العصر !..
وهو ينادي بالعدل والحق ، وما رئي العدل والحق ميتمين ضائعين ، كما يتما وضعياً في هذا العصر !..
وهو ينادي بالإنسانية والرفق . وما رئيت إنسانية أهون منها أمام أي غاية من الغايات في هذا العصر !..
ومع هذا فإنك لتجد الكثير ممن يخجل أن يذعين لأحكام الحدود في الشيعة الإسلامية ، أمام ما يسميه : إنسانية القرن العشرين . كأن قانون السحل والمقصلة ليس من أبرز ما يمتاز به القرن العشرون.
فهذان المظهران ، إليهما مرد كل عامل من عوامل الاشمئزاز من الحدود الشرعية وتطبيقها، عند طائفة من الناس.
مصدر هذا التناقص وتقويمه على ضوء العلم :
والآن ، يجدر بنا أن نتساءل : ما هو مصدر كل من هذين المظهرين وبمعثهما ؟ وما هي قيمتهما الحقيقية في ميزان النظر العلمي الذي يجب أن نحتكم إليه ؟ ويتمثل الجواب على هذا التساؤل في النقاط التالية :
أولاً :- لا يشك أي باحث في أن مبعث كل من هذين المظهرين اللذين تحدثنا عنهما إنما هو مركز الوهم في النفس. لا وحي المنطق والعقل.
فإن فرار الإنسان من القديم واحتفاله بالجديد، ليس إلا أثراً من آثار طبيعة الملل في النفس الإنسانية ، فإن أردت أن تفلسف هذا العامل وتبحث له عن المصطلحات المعروفة عند علماء النفس فهو ليس إلا أثراً من آثار ما يسمونه برد الفعل الشرطي في النفس : رأت النفس أن التمزق والاستهلاك نتيجتان لبعض ما يتقادم عليه العهد من الأشياء ، فتوهمت أن كل ما قد أخذ طابع القدم، لابد أن يلازمه التمزق والاستهلاك، وسيطر هذا المثير الوهمي على النفس فغرس فيها الاشمئزاز من التعامل مع كل ما هو قديم !...
ولكن ، أفإن كان هذا القانون النفسي سلاح الممخرقين والخادعين من الناس في هذه الحياة ، لصرف خصومهم عن الحق والتلبيس عليهم ما أمكن ، أفيصح في مقياس المنطق والعقل أن نستعمل نحن أيضاً هذا السلاح لنلبس به على أنفسنا ونخادع به عقولنا ، فتتخذ منه عذراً في طي جانب من أخطر الجوانب التشريعية عن حياتنا الإسلامية اليوم ؟
لئن كانت النفس البشرية تخيل إلى صاحبها أن القديم قد زال منه نفعه، وجنيت منه ثماره، فإن العقل البشري يقرر أن قيمة كل قديم وجديد بجدواه وآثاره ... ورب جديد كان مبعث شقاء ودمار على الإنسان . ورب قديم شهدت الدنيا كلها أنه كان ولا يزال ينبوع سعادة وخير له.
ولقد علم كل إنسان أن مقومات الحياة في هذه الدنيا لا تزال تنبع من معينها القديم الذي عرفه فجر الحياة فوق هذه الأرض : شمس وماء وأرض وهواء ، وزرع وضرع ...لم يختلف شئ من ذلك منذ أقدم العصور الإنسانية إلى اليوم.
فهل قاطع أصحاب النفوس التي تشمئز من القديم هذه المقومات الأساسية للحياة لقدمها ؟ وهل تحولوا ساعة عن التعامل معها ؟
ألا ، إن المحاور الثابتة في بنية هذا النظام الكوني ، تحتاج بلا شك ، إلى محاور ثابتة تقابلها في بنية المبادئ والقيم الإنسانية ، وليست عملية التربية والتعليم إلا تحريراً للنفس الإنسانية من سجن أوهامها ، وتصعيداً لها إلى مستوى الانسجام مع هذه الحقيقة التي لا مرية فيها.
وما كانت شرعة العقوبات في نظام الشريعة الإسلامية إلا تطبيقاً لهذا القانون ذاته فقد عمدت إلى الجرائم التي لا يتبدل وجه أو درجة المفسدة فيها ما بين عصر وآخر، مهما تطورت الحياة والنظم ، فقرنت بها عقوبات ثابتة ثبات معنى الإجرام فيها ... ثم أحالت سائر الجرائم والجنح والانحرافات الأخرى، وهي التي قد تتفاوت درجة الخطورة والمفسدة فيها من عصر إلى آخر ، إلى بصيرة الحاكم المسلم المخلص لدين الله والمتبصر بمصلحة الأمة ، يقرر لها من العقوبات ما يرى أنه الخير والمصلحة.