محمد ال عمر التمر
17-01-2007, 17:50
للدكتور أحمد الشرباصي هذا المقال حول تفسير المنار المشهور لرشيد رضا نشر عام 1970 م في مجلة الوعي الإسلامي.
العقل في تفسير المنار:
الاحتكام إلى العقل ظاهرة واضحة في تفسير المنار وفي القدر المشترك بين محمد عبده ورشيد رضا على وجه التخصيص.
ورشيد رضا يرى أن أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع مبنية على إدراك العقل لها، واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد وسد ذرائع الفساد
ومن أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار القول بأن جنة آدم وحواء التي كانا فيها ثم اخرجا منها هي بستان من البساتين كان آدم وزوجه منعّمين فيها. وأنه ليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها.
ويعتمد التفسير هنا على أن الجنة كما يفهمها أهل اللغة هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه.
وكذلك من أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار أن يقرر أنه ليس هناك نص على أن حواء خُلقت ن ضلع آدم وأن قوله تعالى: {وخلق منها زوجها ليس نصا في ذلك، لأن المعنى خلق من جنسها مثل قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا} وأما الحديث الذي يقول: فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج فهو على حد قوله تعالى خلق الإنسان من عجل} ومن أمثلة ذلك أيضا ما ذكره في تفسير المنار في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} حيث قال: الكلمات جمع كلمة وتُطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام، والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي ثم جاء فيه بعد ذلك ولم يذكر الكلمات ما هي، ولا الإتمام كيف كان لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال} هذا هو المتبادر ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره في تفسيره عن قوله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} حيث اختار التفسير أن المصلى هنا موضع الصلاة بمعناها اللغوي العام وهو الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وعبادته مطلقا وقال رشيد أن حمل الصلاة على معناها اللغوي أظهر.
ومن اللمحات العقلية اللغوية البلاغية الرائعة ما جاء في تفسير المنار عن قوله تعالى:{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} حيث قال بعض المفسرين أن لفظ (مثل) هنا زائد ولكن صاحب تفسير المنار يعلق على ذلك بقوله: واستنكر الأستاذ الإمام أي الشيخ محمد عبده) ذلك واستكبره كعادته فإنه يخطئ كل من يقول أن في القرآن كلمة زائدة أو حرفا زائدا وقال: إن المثل هنا معنى لطيفا ونكتة دقيقة.
وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على الأنبياء ولكن طرأت على أيمانهم بالله نزغات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس، وتمسكوا بالقشور وهي رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلا منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدّعون العمل بالدين.
فلما بين الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق، وأن هؤلاء الذين يدّعون إتّباع الأنبياء قد ضلوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق، أمرنا سبحانه تعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين بأن يؤمنوا بمثل ما نؤمن نحن به لا بما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن الله ومن التفرق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد.
فالذين يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالتنزيه وهو يؤمنون بالتشبيه، وعلى ذلك القياس.
فلو قال: {فإن آمنوا بالله وبما أنزل على أولئك النبيين وما أوتوه، فقد اهتدوا، لكان لهم أن يجادلوا بقولهم: إننا نحن المؤمنون بذلك دونكم، ولفظ (مثل) هو الذي يقطع عرق الجدل.
على أن المساواة في الإيمان بين شخصين، بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر، في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به، وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا، فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة، مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم الإدراك.
ولو كانت القراءة: (فإن آمنوا بما آمنتم به) كما روي عن ابن عباس في الشواذ، كان الأولى أن يقدّر (المثل ) فكيف نقول – وقد ورد لفظ (مثل) متواترا: أنه زائد ؟
ومن أمثلة استخدام العقل في تفسير المنار ما جاء فيه بشأن الحجر الأسود حيث قرر أنه لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ولا تحصره جهة من الجهات.
وكذلك ما جاء في تفسير المنار عن صخرة بيت المقدس، حيث ذكر أنها ليست بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها وليس لها منافع أو خواص لا توجد في غيرها ولا هيكل سليمان نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الأبنية وكذلك يُقال في الكعبة والبيت الحرام.
ولا شك أن تفسير النص القرآني في ضوء العقل وفقه اللغة العربية التي نزل بها القرآن، يعطي الإسلام قوة وصلابة عند الذين يعتزّون بالعقل والعلم المادي ولذلك يروي السيد رشيد رضا أن أحد النوابغ من رجال القضاء الأذكياء قال الأستاذ الإمام (يقصد الشيخ محمد عبده): " إنك بتفسيرك القرآن بالبيان الذي يقبله العقل ولا يأباه العلم، قد قطعت الظن على الذين يظنون أنه قد اقترب الوقت الذي يهدمون فيه الدين ويستريحون من قيوده، وجهل رجاله وجمودهم"
ويعلق السيد رشيد على هذا بأنه اتبع طريقة العقل من بعض المنكرين لوجود الله تعالى، فلم يستطيعوا لها دحضا.
ولكن مدرسة تفسير المنار التي جعلت من أهدافها التوفيق بين الدين والعقل أصابها طائف من المبالغة، حيث أسرفت أحيانا في الخضوع للعقل، وهو أمام الغيب قاصر مهما كانت قوته وأسرفت أحيانا في الحذر والاحتراس من تقبّل الغيبيات والتسليم بها، وأذا كان الناس قد حمدوا لها تحديد نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم والتوفيق بين كلام الله وسنته الكونية المألوفة ومقاومتها طوفان الخرافات والاسرائيليات والأساطير التي تسربت إلى رحاب التفسير، واستعانتها بمقررات العلم الحديث في اقناع أهله بالدين وتعاليمه.
إذا كان الناس قد حمدوا لها ذلك كله فإنهم قد فزعوا حين رأوا الأمر قد زاد عن حدّه، فكاد ينقلب إلى ضده، ومن أمثلة المبالغة في تحكيم العقل في تفسير المنار ذكره أن الملائكة هي القوى والأفكار الموجودة في النفوس ,ان المراد بسجود الملائكة لآدم هو تسخير القوى للإنسان في هذه الحياة، وأن قصة آدم بما فيها من محاورة الملائكة، وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة له إلخ، هي من باب التمثيل لا أنها وقعت بالفعل... الخ
والعجيب إن السيد محمد رشيد رضا قد أشار إلى خطأ من يقول أن الدليل العقلي هو الأصل، فيرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته له مطلقا، ويعلق رشيد على هذا بقوله:
" والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني مع قطعي، وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض طني مع طني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا"
ليت ما في تفسير المنار كله خضع لهذه القاعدة المعتدلة المستقيمة.
والعجيب أيضا أن الدكتور طه حسين قال لي عن إخضاع التفسير للعقل: "لي على الشيخ محمد عبده اعتراض، فإن تأويله لنصوص القرآن، وحرصه على أن يكون نص القرآن ملائما كل الملائمة للعلم الحديث، مما أخالفه فيه، فهو مثلا يقول عن الحجارة الموصوفة في سورة الفيل بأنها من سجيل أنها جراثيم وهذا توسيع في تحكيم العقل، والمسلمون الأوائل وهم صحابة الرسول لم يفهموا هذا.
والله يفعل ما يشاء ولكن الإنسان يفعل ما يستطيع، والإنسان الآن قد وصل إلى القنبلة الذرية والهيدروجينية والغازات السامة، مما لم يكن العرب يعرفونه في ذلك الوقت فالله يخبرنا بأنه أرسل حجارة من سجيل ولا بد أن آخذ القرآن بلا تأويل وأن أقبل النص القرآني كما هو والعلم لم يحط بكل شيء والله وحده هو الذي يعلم كل شيء"
ثم أضاف د. طه حسين قوله" إن بعض المستشرقين يذهب مع هذا المذهب فيقول إن الفيل لم يكن فيلا بل كان قائدا من قواد الروم جاء مع أبرهة واسمه افيلاس وقد سمعت هذا من المسيو جاستون فييت الذي كان مديرا لدار الآثار العربية.
إشارات اجتماعية وسياسية :
من الأمور التي لاحظتها في تفسير المنار أن رشيدا كان ينتهز فرص التفسير ليضع في كلامه إشارات اجتماعية أو سياسية، تتعلق بالوطن العربي، أو العالم الإسلامي ومن أمثلة ذلك أنه في الجزء الأول يشير إلى النزعة الفرعونية التي بدت من بعض المصريين، ودفعتهم إلى بغض إخوانهم في اللغة والدين ممن هاجروا إلى مصر وقال رشيد هذا سنة 1320 هـ (1902م).
ولما جاءت سنة 1346 هـ (1927م) أضاف إلى قوله السابق أن تلك النزعة الفرعونية قد قويت عند القبط وزنادقة المسلمين ورشيد قد لقي متاعب من هؤلاء.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه تعرض في سورة الأعراف لتفسير قوله تعالى: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} وفي نهاية تفسيره للآية قال " اللهم تب على أمتنا وارفع عنها رجس الأجانب الطامعين، وأعوانهم المنافقين"
وهو قد قال هذا سنة 1338هـ (1919م) والاحتلال البريطاني جاثم على البلاد والثورة المصرية تجاهد لزحزحته وبعض الخونة يسير في ركاب الإنجليز.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه في تفسيره لسورة الأعراف يتحدث عن إباحة الحكومة المصرية للزنا وسكوت علماء الدين على ذلك ويقول إن هذا بإغواء الإفرنج كما يتحدث عن دعوة بعض المصريين إلى أن تكون حكومة مصر غير دينية، وأن تُلغى المحاكم الشرعية اقتداءا بالحكومة التركية وأن مصطفى كمال اتاتورك في الوقت نفسه استدل على جواز إقامة التماثيل شرعا بوجودها منصوبة في مصر.
وعندما يفسر السيد رشيد قوال الله تعالى في سورة هود {واتبعوا أمر كل جبار عنيد} يعرّض بالملوك الجبارين في الأرض قبل انقراضهم
وعندي أن هذه الإشارات السياسية والاجتماعية لها قيمتها الكبيرة فهي تعطينا ملامح للعصر الذي عاش فيه رشيد، وتعرّفنا بالتيارات والأحداث التي كانت خلاله كما أننا نفهم منها أن رشيدا لم يكن بمعزل عن مجتمعه بل كان يمتزج به ويتعرف إليه ويحكم عليه وكان أيضا يستخدم كتابته حتى في التفسير للحث على ما يؤمن به وللتنفير مما يراه ضارا أو سيئا.
ومن المفيد جدا أن يتتبع متتبع هذه الإشارات خلال التفسير، وخلال آثار رشيد الأخرى وبذلك التتبع تتكامل صورة واضحة المعالم لتأثر رشيد بعصره وتأثيره في عصره ولجوانب هذا العصر بما فيه من اتجاهات وتيارات.
العقل في تفسير المنار:
الاحتكام إلى العقل ظاهرة واضحة في تفسير المنار وفي القدر المشترك بين محمد عبده ورشيد رضا على وجه التخصيص.
ورشيد رضا يرى أن أصول الدين في العقائد وحكمة التشريع مبنية على إدراك العقل لها، واستبانته لما فيها من الحق والعدل ومصالح العباد وسد ذرائع الفساد
ومن أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار القول بأن جنة آدم وحواء التي كانا فيها ثم اخرجا منها هي بستان من البساتين كان آدم وزوجه منعّمين فيها. وأنه ليس علينا تعيينها ولا البحث عن مكانها.
ويعتمد التفسير هنا على أن الجنة كما يفهمها أهل اللغة هي البستان أو المكان الذي تظلله الأشجار بحيث يستتر الداخل فيه.
وكذلك من أمثلة الجنوح إلى العقل في تفسير المنار أن يقرر أنه ليس هناك نص على أن حواء خُلقت ن ضلع آدم وأن قوله تعالى: {وخلق منها زوجها ليس نصا في ذلك، لأن المعنى خلق من جنسها مثل قوله تعالى: {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا} وأما الحديث الذي يقول: فإن المرأة خلقت من ضلع أعوج فهو على حد قوله تعالى خلق الإنسان من عجل} ومن أمثلة ذلك أيضا ما ذكره في تفسير المنار في قوله تعالى: {وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن} حيث قال: الكلمات جمع كلمة وتُطلق على اللفظ المفرد وعلى الجمل المفيدة من الكلام، والمراد منها هنا مضمونها من أمر ونهي ثم جاء فيه بعد ذلك ولم يذكر الكلمات ما هي، ولا الإتمام كيف كان لأن العرب تفهم المراد بهذا الإبهام والإجمال وأن المقام مقام إثبات أن الله تعالى عامل إبراهيم معاملة المبتلى أي المختبر له لتظهر حقيقة حاله ويترتب عليها ما هو أثر لها، فظهر بهذا الابتلاء والاختبار فضله بإتمامه ما كلفه الله تعالى إياه وإتيانه به على وجه الكمال} هذا هو المتبادر ولكن المفسرين لم يألوا في تفسير الكلمات والخبط في تعيينها.
ومن أمثلة ذلك ما ذكره في تفسيره عن قوله تعالى:{واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى} حيث اختار التفسير أن المصلى هنا موضع الصلاة بمعناها اللغوي العام وهو الدعاء والتوجه إلى الله تعالى وعبادته مطلقا وقال رشيد أن حمل الصلاة على معناها اللغوي أظهر.
ومن اللمحات العقلية اللغوية البلاغية الرائعة ما جاء في تفسير المنار عن قوله تعالى:{فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا} حيث قال بعض المفسرين أن لفظ (مثل) هنا زائد ولكن صاحب تفسير المنار يعلق على ذلك بقوله: واستنكر الأستاذ الإمام أي الشيخ محمد عبده) ذلك واستكبره كعادته فإنه يخطئ كل من يقول أن في القرآن كلمة زائدة أو حرفا زائدا وقال: إن المثل هنا معنى لطيفا ونكتة دقيقة.
وذلك أن أهل الكتاب يؤمنون بالله وبما أنزل على الأنبياء ولكن طرأت على أيمانهم بالله نزغات الوثنية وأضاعوا لباب ما أنزل على الأنبياء وهو الإخلاص والتوحيد وتزكية النفس والتأليف بين الناس، وتمسكوا بالقشور وهي رسوم العبادات الظاهرة ونقصوا منها وزادوا عليها ما يبعد كلا منهم عن الآخر ويزيد في عداوته وبغضائه له، ففسقوا عن مقصد الدين من حيث يدّعون العمل بالدين.
فلما بين الله لنا حقيقة دين الأنبياء وأنه واحد لا خلاف فيه ولا تفريق، وأن هؤلاء الذين يدّعون إتّباع الأنبياء قد ضلوا عنه فوقعوا في الخلاف والشقاق، أمرنا سبحانه تعالى أن ندعوهم إلى الإيمان الصحيح بالله وبما أنزل على النبيين والمرسلين بأن يؤمنوا بمثل ما نؤمن نحن به لا بما هم عليه من ادعاء حلول الله في بعض البشر وكون رسولهم إلها أو ابن الله ومن التفرق والشقاق لأجل الخلاف في بعض الرسوم والتقاليد.
فالذين يؤمنون به في الله ليس مثل الذي نؤمن به، فنحن نؤمن بالتنزيه وهو يؤمنون بالتشبيه، وعلى ذلك القياس.
فلو قال: {فإن آمنوا بالله وبما أنزل على أولئك النبيين وما أوتوه، فقد اهتدوا، لكان لهم أن يجادلوا بقولهم: إننا نحن المؤمنون بذلك دونكم، ولفظ (مثل) هو الذي يقطع عرق الجدل.
على أن المساواة في الإيمان بين شخصين، بحيث يكون إيمان أحدهما كإيمان الآخر، في صفته وقوته وانطباقه على المؤمن به، وما يكون في نفس كل منهما من متعلق الإيمان يكاد يكون محالا، فكيف يتساوى إيمان أمم وشعوب كثيرة، مع الخلاف العظيم في طرق التعليم والتربية والفهم الإدراك.
ولو كانت القراءة: (فإن آمنوا بما آمنتم به) كما روي عن ابن عباس في الشواذ، كان الأولى أن يقدّر (المثل ) فكيف نقول – وقد ورد لفظ (مثل) متواترا: أنه زائد ؟
ومن أمثلة استخدام العقل في تفسير المنار ما جاء فيه بشأن الحجر الأسود حيث قرر أنه لا مزية له في ذاته فهو كسائر الحجارة وإنما استلامه أمر تعبدي في معنى استقبال الكعبة وجعل التوجه إليها توجها إلى الله الذي لا يحدده مكان ولا تحصره جهة من الجهات.
وكذلك ما جاء في تفسير المنار عن صخرة بيت المقدس، حيث ذكر أنها ليست بأفضل من سائر الصخور في مادتها وجوهرها وليس لها منافع أو خواص لا توجد في غيرها ولا هيكل سليمان نفسه من حيث هو حجر وطين أفضل من سائر الأبنية وكذلك يُقال في الكعبة والبيت الحرام.
ولا شك أن تفسير النص القرآني في ضوء العقل وفقه اللغة العربية التي نزل بها القرآن، يعطي الإسلام قوة وصلابة عند الذين يعتزّون بالعقل والعلم المادي ولذلك يروي السيد رشيد رضا أن أحد النوابغ من رجال القضاء الأذكياء قال الأستاذ الإمام (يقصد الشيخ محمد عبده): " إنك بتفسيرك القرآن بالبيان الذي يقبله العقل ولا يأباه العلم، قد قطعت الظن على الذين يظنون أنه قد اقترب الوقت الذي يهدمون فيه الدين ويستريحون من قيوده، وجهل رجاله وجمودهم"
ويعلق السيد رشيد على هذا بأنه اتبع طريقة العقل من بعض المنكرين لوجود الله تعالى، فلم يستطيعوا لها دحضا.
ولكن مدرسة تفسير المنار التي جعلت من أهدافها التوفيق بين الدين والعقل أصابها طائف من المبالغة، حيث أسرفت أحيانا في الخضوع للعقل، وهو أمام الغيب قاصر مهما كانت قوته وأسرفت أحيانا في الحذر والاحتراس من تقبّل الغيبيات والتسليم بها، وأذا كان الناس قد حمدوا لها تحديد نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم والتوفيق بين كلام الله وسنته الكونية المألوفة ومقاومتها طوفان الخرافات والاسرائيليات والأساطير التي تسربت إلى رحاب التفسير، واستعانتها بمقررات العلم الحديث في اقناع أهله بالدين وتعاليمه.
إذا كان الناس قد حمدوا لها ذلك كله فإنهم قد فزعوا حين رأوا الأمر قد زاد عن حدّه، فكاد ينقلب إلى ضده، ومن أمثلة المبالغة في تحكيم العقل في تفسير المنار ذكره أن الملائكة هي القوى والأفكار الموجودة في النفوس ,ان المراد بسجود الملائكة لآدم هو تسخير القوى للإنسان في هذه الحياة، وأن قصة آدم بما فيها من محاورة الملائكة، وتعليمه الأسماء وسجود الملائكة له إلخ، هي من باب التمثيل لا أنها وقعت بالفعل... الخ
والعجيب إن السيد محمد رشيد رضا قد أشار إلى خطأ من يقول أن الدليل العقلي هو الأصل، فيرد إليه الدليل السمعي، ويجب تأويله لأجل موافقته له مطلقا، ويعلق رشيد على هذا بقوله:
" والحق كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: أن كلا من الدليلين إما قطعي وإما غير قطعي فالقطعيان لا يمكن أن يتعارضا، حتى نرجح أحدهما على الآخر، وإذا تعارض ظني مع قطعي، وجب ترجيح القطعي مطلقا، وإذا تعارض طني مع طني من كل منهما رجحنا المنقول على المعقول لأن ما ندركه بغلبة الظن من نظرياتنا العقلية التي يكثر فيها الخطأ جدا"
ليت ما في تفسير المنار كله خضع لهذه القاعدة المعتدلة المستقيمة.
والعجيب أيضا أن الدكتور طه حسين قال لي عن إخضاع التفسير للعقل: "لي على الشيخ محمد عبده اعتراض، فإن تأويله لنصوص القرآن، وحرصه على أن يكون نص القرآن ملائما كل الملائمة للعلم الحديث، مما أخالفه فيه، فهو مثلا يقول عن الحجارة الموصوفة في سورة الفيل بأنها من سجيل أنها جراثيم وهذا توسيع في تحكيم العقل، والمسلمون الأوائل وهم صحابة الرسول لم يفهموا هذا.
والله يفعل ما يشاء ولكن الإنسان يفعل ما يستطيع، والإنسان الآن قد وصل إلى القنبلة الذرية والهيدروجينية والغازات السامة، مما لم يكن العرب يعرفونه في ذلك الوقت فالله يخبرنا بأنه أرسل حجارة من سجيل ولا بد أن آخذ القرآن بلا تأويل وأن أقبل النص القرآني كما هو والعلم لم يحط بكل شيء والله وحده هو الذي يعلم كل شيء"
ثم أضاف د. طه حسين قوله" إن بعض المستشرقين يذهب مع هذا المذهب فيقول إن الفيل لم يكن فيلا بل كان قائدا من قواد الروم جاء مع أبرهة واسمه افيلاس وقد سمعت هذا من المسيو جاستون فييت الذي كان مديرا لدار الآثار العربية.
إشارات اجتماعية وسياسية :
من الأمور التي لاحظتها في تفسير المنار أن رشيدا كان ينتهز فرص التفسير ليضع في كلامه إشارات اجتماعية أو سياسية، تتعلق بالوطن العربي، أو العالم الإسلامي ومن أمثلة ذلك أنه في الجزء الأول يشير إلى النزعة الفرعونية التي بدت من بعض المصريين، ودفعتهم إلى بغض إخوانهم في اللغة والدين ممن هاجروا إلى مصر وقال رشيد هذا سنة 1320 هـ (1902م).
ولما جاءت سنة 1346 هـ (1927م) أضاف إلى قوله السابق أن تلك النزعة الفرعونية قد قويت عند القبط وزنادقة المسلمين ورشيد قد لقي متاعب من هؤلاء.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه تعرض في سورة الأعراف لتفسير قوله تعالى: {قال قد وقع عليكم من ربكم رجس وغضب} وفي نهاية تفسيره للآية قال " اللهم تب على أمتنا وارفع عنها رجس الأجانب الطامعين، وأعوانهم المنافقين"
وهو قد قال هذا سنة 1338هـ (1919م) والاحتلال البريطاني جاثم على البلاد والثورة المصرية تجاهد لزحزحته وبعض الخونة يسير في ركاب الإنجليز.
ومن أمثلة ذلك أيضا أنه في تفسيره لسورة الأعراف يتحدث عن إباحة الحكومة المصرية للزنا وسكوت علماء الدين على ذلك ويقول إن هذا بإغواء الإفرنج كما يتحدث عن دعوة بعض المصريين إلى أن تكون حكومة مصر غير دينية، وأن تُلغى المحاكم الشرعية اقتداءا بالحكومة التركية وأن مصطفى كمال اتاتورك في الوقت نفسه استدل على جواز إقامة التماثيل شرعا بوجودها منصوبة في مصر.
وعندما يفسر السيد رشيد قوال الله تعالى في سورة هود {واتبعوا أمر كل جبار عنيد} يعرّض بالملوك الجبارين في الأرض قبل انقراضهم
وعندي أن هذه الإشارات السياسية والاجتماعية لها قيمتها الكبيرة فهي تعطينا ملامح للعصر الذي عاش فيه رشيد، وتعرّفنا بالتيارات والأحداث التي كانت خلاله كما أننا نفهم منها أن رشيدا لم يكن بمعزل عن مجتمعه بل كان يمتزج به ويتعرف إليه ويحكم عليه وكان أيضا يستخدم كتابته حتى في التفسير للحث على ما يؤمن به وللتنفير مما يراه ضارا أو سيئا.
ومن المفيد جدا أن يتتبع متتبع هذه الإشارات خلال التفسير، وخلال آثار رشيد الأخرى وبذلك التتبع تتكامل صورة واضحة المعالم لتأثر رشيد بعصره وتأثيره في عصره ولجوانب هذا العصر بما فيه من اتجاهات وتيارات.