نزار بن علي
04-01-2007, 21:53
خطبة تفسير البيضاوي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فتحدّى بأقصر سورةٍ من سوره مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرًا، فأفحم من تصدّى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسبوا أنهم سحّروا تسحيرا، ثم بيّن للناس ما نزّل إليهم حسبما عنّ لهم من مصالحهم ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب تذكيرا، فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أمّ الكتاب وأخر متشابهات هن رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا، وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا، ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا، فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه يعش ذميما ويَصلَ سعيرا.
فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كل مقصود، صلّ عليه صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه، وعلى من أعانه وقرّر تبيانه تقريرا، وأفض علينا من بركاتهم واسلك بنا مسالك كراماتهم وسلّم علينا وعليهم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أعظم العلوم مقدارا، وأرفعها شرفا ومنارا، علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها.
ولطالما أحدّث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نكت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوة إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين؛ إلا أنّ قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمّم به عزمي على الشروع في ما أردته والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسمّيه بعد أن أتممه بـ"أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، فها أنا الآن أشرع، وبحسن توفيقه أقول، وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
ترجمة الشيخ القلعي
هو أبو الحسن بن عمر بن علي القلعي التونسي. قرأ بالزيتونة ثم رحل إلى مصر سنة 1154 هـ. وكان في استعداد للعلوم وقابلية غريبة. وأتم دراسته على أساتذة الأزهر كالشيخ الجبرتي ـ والد المؤرخ ـ ومحمد البليدي التونسي. وتزوج هناك من إحدى البيوتات المشهورة ولحق بخدمة محمد راغب باشا والي مصر، وكان كثير الاختصاص به، وقد لحقه إلى استنبول لمّا تولى الصدارة فأكرم نزله. ثم عاد إلى مصر وتولى مشيخة رواق المغاربة ثلاث مرات وسار فيها بصرامة وشهامة. وكان وافر الحركة نافذ الكلمة، مترفها في ملبسه ومأكله، تعلوه جلالة ووقار. وتوفي في ربيع الأول سنة 1199هـ.
من مصنفاته:
ـ شرح على رسالة محمد راغب باشا المتقدم في علم العروض.
ـ شرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة "أم البراهين".
ـ حاشية على شرح الأخضري على متن السلم.
ـ حاشية على رسالة محمد الكرماني في علم الكلام. قال الجبرتي: دلت هذه الحاشية على رسوخه في علم المنطق والجدل.
ـ ذيل الفوائد وفوائد الزوائد على كتاب: "الفوائد والصلات والعوائد" في خواص الآيات المجربات.
ـ خواص سورة "يس".
ـ شرح على خطبة تفسير البيضاوي.
ـ بلوغ القصد بتحقيق مباحث الحمد، وهو شرح على "الحمد لله".
ـ ختم على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
ـ نبذة فاخرة تتعلق بأحوال الآخرة.
مصدر الترجمة: "كتاب العمر" لحسن حسني عبد الوهاب. (2/436)
بسم الله الرحمان الرحيم
[CENTER]
الحمد لله الذي نزّل الفرقان مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمتقين، قرآنا عربيا غير ذي عوج موعظة وذكرى للمؤمنين، والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب، منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات، وعلى آله وأصحابه اللذين أوتوا العلم درجات.
وبعد، فيقول العبد الفقير، المقر بالعجز والتقصير، أبو الحسن بن عمر بن علي، القلعي بلدا، التونسي وطنا، الأزهري:
لمّا كانت ديباجة التفسير المسمّى بأنوار التنزيل المنسوب للإمام الهمام، قدوة علماء الإسلام، سلطان المحققين، وبرهان المدققين: أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد بن على أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي، قدس الله سره العزيز؛ جيدة المباني غزيرة المعاني، ولم أطلع على شرح يكشف مقاصدها ويبسط فوائدها، حداني ذلك أن أشرحها شرحا وافيا يحل المعاقد، كافيا في تحقيق المقاصد، لخصته من كلام المحققين وجهابذة المدققين.
ولمّا وُفقت بعون الله لإتمامه، وقوضت عند خيام اختتامه، قدمته تحفة للملك الأعظم الأعدل الأكرم، مدير مآرب الأماثل، ومحط رحال الأفاضل، حضرة من نشر لواء العدل على رؤوس الأمم، وجمع عزة العرب إلى عزة العجم، هو الذي أعز الدين وأحيى سنة سيد المرسلين، ظل الله على بريته وخليفته في رعيته، المنصور المظفر المؤيد أمير الأمراء أبي المحامد محمد؛ لا زالت قباب دولته ركينة الأوتاد، وسرادقات عظمته منصوبة إلى يوم التناد.
وقد حاولت بذلك التشبث بأذياله، والاستظلال بظلال رأفته وأفضاله، راجيا من الله القبول، وبلوغ المأمول، فهو الموفق للخير ومعطي كل سؤل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده) ورتب استحقاق الحمد على تنزيله ـ بعد الإشارة إلى الاستحقاق الذاتي المستفاد من لفظ الجلالة ـ تنبيها على عظمته؛ إذ به ينتظم المعاش والمعاد، وهو الهادي إلى ما فيه كمال العباد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "التنزيل: نقل الشيء من أعلى إلى أسفل. وهو إنما يلحق المعاني بواسطة لحوقه الذوات الحاملة لها". فما قيل إنه مجاز عقلي من قبيل الأسلوب الحكيم والكتاب الحكيم، أو مجاز في الظرف بأن يراد بالتنزيل إيجاده في النبي أو بالفرقان حامله، خروج عن مذاق المصنف.
ثم التنزيل والإنزال شيء واحد لا فرق بينها في اللغة، إلا أنه قد يراد من التنزيل الإنزال نجما نجما على حسب التدريج باعتبار حمل صيغة التفعيل على التكثير، وهو المراد هاهنا.
وكما أنّ التنزيل نعمة يجب الحمد عليها، كذلك كونه على التدريج؛ فإن تكرر الوحي ونزوله بحسب الوقائع أدخل في تكميل العباد وتثبتهم على الهدى. وكذلك تقيده بكونه على الرسول لكونه رحمة، والفرقان أيضا رحمة، وضمّ الرحمة إلى الرحمة رحمة تامة على العباد.
والفرقان: مصدر فرق، سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل باعتبار كونه ناطقا ببيّنات وحجج، عربيا غير ذي عوج، مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية، مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية، معجزا قيام الدهور؛ أو لكونه مفصولا عن الاشتباه في معانيه، أو مفصولا بعضه من بعض فيناسب التنزيل؛ فإن الأعلام قد يلاحظ فيها المعاني الأصلية.
وإنما قدم الفرقان على العبد لكونه أهم، والعناية به أتم؛ إذ هو بصدد بيان معاني القرآن وتفسيره، ففيه رعاية لبراعة الاستهلال؛ بخلاف ما وقع في مفتتح سورة الكهف من تقديم العبد على الكتاب؛ فإنّ المقام مقام إثبات نبوّته ببيان الأمور الثلاثة التي سألتها اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدا على نبوته.
وإضافة العبد إلى الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أنه مختص به، منقاد لحكمه.
واختاره على نبيه ورسوله إشارة إلى أن النبوة مجرد تفضّل منه تعالى، وأن العبودية أكمل المقامات والأحوال، وغيرها من ثمراتها. وبما ذكرنا ظهر نكتة اختياره على مفتتح سورة الكهف .
(ليكون) أي العبد أو الفرقان. والإسناد حقيقي على الأوّل؛ يدل عليه قوله: (لتنذر قوما ما أنذر آباهم). ومجازي على الثاني؛ يشعر به قوله: (لتنذر به أمّ القرى). والمجاز وإن كان في مقابلة الحقيقة ضعيفا، إلا أنّ اقتضاء المقام ببيان صفات الفرقان يرجح إرجاع الضمير إليه ويخرجه عن الضعف. وعدم إرجاعه إلى الله تعالى لأنّ أسمائه تعالى توقيفية، ولم يرد في الشرع إطلاق النذير عليه تعالى، وقوله تعالى: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) لا يصححه.
(للعالمين) أي من يعلم، إلا أنه أخرج منه الملك بقرينة قوله (نذيرا).
والنذير إمّا مصدر كالنكير وصفه به للمبالغة، أو بمعنى المنذر. واكتفى بالإنذار لعمومه، ولكونه أدخل في التكميل؛ فإن الإنسان في دفع المضار أسعى منه في جلب المصالح، ولذا أمر صلى الله عليه وسلم به أوّلا بقوله: (قم فأنذر) ، (وأنذر عشيرتك الأقربين).
وفائدة تعليق التنزيل بقوله "ليكون" إلى آخره الإشارةُ إلى عظم التنزيل باعتبار اشتماله على تكميل الثقلين.
(فتحدّى) أي نازع اللهُ، كما يقتضي مناسبة عطفه على نزّل وظاهر آية التحدي، أو عبده باعتبار أنّ التحدي من الله تعالى إنما هو على لسان نبيه كما قال الله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله).
ولمّا اعتبر إرجاع الضمير إلى العبد المضاف لم يلزم إخلاء المعطوف على الصلة من الضمير الرابط بالموصول، على أن الرضي ذكر أنه يكفي رابطة ضمير المعطوف عليه وإرجاع الضمير إلى الفرقان، فاعتبار اشتماله على آية التحدي تكلُّف يستلزم تفكيك ضمير "فلم يجد"، إذ لا وجه لإرجاعه إلى الفرقان.
والفاء في قوله فتحدى إن جعلت للسببية فظاهر، أو للتعقيب. فالمراد بالفرقان ما نقل إلى آخره أعني المفهوم الكلي لأنه المناسب لغرض المفسر لأنه يبحث عن أحوال السور من الآيات، ولا شك أنّ التحدي عقب تنزيله. وعدم استقامة إرجاع ضمير سوره إليه حينئذ من غير اعتبار الاستخدام ممنوع لأنها من جزئياته، كما أنها من أجزاء الكل. ولو أريد بالفرقان المجموع فيجوز أن تكون الفاء للترتيب في الرتبة، فإن رتبة التحدي بعد رتبة الإنزال. أو نقول: يكفي التعقيب بالنسبة إلى بعض أجزاء المعطوف عليه، كما يكفي في كلمة "ثم" التراخي كذلك، كما صرح به في المطول. وحمل الكلام على إرادة التنزيل ركيك.
(بأقصر سورةٍ) الأقصرية مأخوذة من تنوين سورةٍ في قوله تعالى: ( وإن كنتم في ريب ممّا نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ ).
(من سوره مصاقع الخطباء) من إضافة الصفة إلى الموصوف. وخطيب مصقع: أي بليغ. وجعل الخطيب بمعنى البليغ، والمصقع بمعنى العالي الصوت، أو من لا يرتج في كلامه – أي يقدر على التكلم – لا يناسب المقام؛ إذ لا فائدة هاهنا بوصف البليغ بذلك.
(من العرب العرباء) كالعرب العاربة الخلص منهم. أخذ من لفظه فأكد به كقولهم ليل أليل. أي نازع للغلبة بأقصر سورة من سوره الخطباء البلغاء (فلم يجد به قديرًا) أي بالتحدي، أو بأقصر سورة. والـ "باء" بمعنى على، أو للملابسة.
والقدير إن لم يجعل مأخوذا من القادر لم يكن من أبنية المبالغة كالكريم والظريف فلا شبهة في صحة نفيه، وإن جعل مأخوذا منه كان للمبالغة. إليه يشير قوله فيما سيجيء: "القدير: الفعال لما يشاء"، فالنفي هاهنا يعتبر مقدما على التعبير بصيغة المبالغة فيفيد المبالغة في النفي، لا نفي المبالغة كما قالوا في قوله تعالى: ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم ) أنه يعتبر الاستمرار بعد النفي، كأنه عبر أولا بصيغة الماضي مع "لو"، ثم غير ذلك الماضي إلى صيغة المضارع ليفيد استمرار الامتناع، لا امتناع الاستمرار. ولو أريد نفي المبالغة فلا يضرّ، إذ الآتي بمثل القرآن لا يكون إلا كامل القدرة. على أن توجه النفي إلى القيد أكثريّ.
وعدم تقييده بكونه من مصاقع الخطباء إشارة إلى أنه لم يجد عليه قادرًا أصلا، لا من المتحدّين ولا من غيرهم؛ أمّا منهم فظاهر، وأمّا من غيرهم فلأنّ المتحدين لمّا عجزوا مع كمالهم في تلك الصناعة وتهالكهم وتوفر دواعيهم، فغيرهم أولى. ولهذا كان معجزة كل نبي من جنس ما غلب أهل زمانه وتهالكوا فيه وتفاخروا به.
وعدم وجدانه تعالى ـ أو الرّسول ـ القادر عليه في مقام التحدي كناية عن عدم وجوده؛ إذ لو كان موجودا لتحدّى لتوفّر الدواعي، وليس فليس.
(فأفحم) عطف على تحدّى، قريب من عطف الخاص على العام إظهارا للشرافة. وضميره تابع لضميره. أي أسكت (من تصدّى) تعرّض (لمعارضته من فصحاء عدنان) جدٌّ أعلى لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. (وبلغاء قحطان) أبو عرب اليمن، وعدنان أبو عرب الحجاز. والعرب كلهم منهما. وفي بعض النسخ "أفحم" بدون "واو"، بدل من تحدى، أو استئناف كأنّ سائلا سأله: كيف كان التحدّي وعجزهم؟ فأجاب بأنّه أفحم عند المعارضة رؤساءهم ومشاهيرهم في البلاغة بحيث لم يبق لهم مجال للطعن فيه، ولم يوردوا للقدح فيه مقالا مع تهالكهم عليه. فلزم عجز الكلّ.
(حتى حسبوا أنهم سحّروا) – بالتشديد للمبالغة – ( تسحيرا). أي أتى لهم بالسحر. وهو لغة: ما دقّ ولطف مأخذه، (فقالوا إن هذا إلا سحر يؤثر)، على ما هو دأب المحجوج والمبهوت، تعجبًا من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء وشعر الشعراء، وأنّ له حلاوة وعليه طلاوة. فغاية الإفحام حسبانهم أنه سِحْر تعجبًا من بلاغته، وليس غايته حسبانهم أنفسهم أنهم سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم – على ما فسر به المصنف قوله تعالى إنما أنت من المسحّرين .
(ثم) للتراخي في الزمان، فيكون إشارة إلى أنه يجوز التأخير في البيان عن وقت الحاجة، أو في الرتبة، فإن رتبة البيان أشرف وأكثر نفعا من التنزيل.
(بيّن) أي الله أو الرسول، ويؤيد الأوّل قوله تعالى: ثمّ إنّ علينا بيانه ويؤيّد الثاني قوله تعالى: وأنزلنا عليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم.
والتبيين: الإيضاح سواء كان ابتداء أو بعد الخطاب، وهو أعمّ من أن ينص بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدلّ عليه كالقياس ودليل العقل.
(للناس ما نزّل إليهم) أي بواسطة الرسول، أعمّ ممّا أمروا به أو نهوا عنه وما تشابه عليهم. كذا ذكره المصنف في سورة النحل في تفسير الآية المذكورة.
(حسبما عنّ لهم) أي قدر وعدد ما ظهر لهم (من مصالحهم) الدينية والدنيوية، وهو متعلّق بـ "نزّل" أو بـ "بيّن". والثاني أوجه ليدل على أنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وفيه إشارة إلى أنّه راعى ما هو الأصلح بالنسبة إلى الكلّ تفضّلاً.
(ليدبروا آياته) أي ليتفكروا فيها، فيعرفوا ما يريد بظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة.
(وليتذكر أولو الألباب)، أي ليتعظ به ذووا العقول السليمة، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل؛ فإنّ الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، وإرشاد لما لا يستقل به العقل. ولعلّ التدبر للقسم الأوّل، والتفكر للقسم الثاني. كذا فسّر المصنف الآية في سورة ص.
وقوله: "ليدّبروا" إلى آخره اقتباس من قوله تعالى في سورة ص كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب . وفي بيان المعنى بهذا الوجه إشارة إلى أنّ "ليدّبروا" مسند إلى ضمير "أولو الألباب" على التنازع وأعمل الثاني. ويحتمل أن يكون الواو في "ليدّبروا" ضمير "المتقين" و"الفاسقين" المذكورين سابقا في قوله: أم نجعل المتقين كالفجار . وعبارة المصنف تحتمل الوجهين كما لا يخفى. وبالجملة، هذه الفقرة مأخوذة من مجموع هذه الآية والآية المذكورة سابقا.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، فتحدّى بأقصر سورةٍ من سوره مصاقع الخطباء من العرب العرباء فلم يجد به قديرًا، فأفحم من تصدّى لمعارضته من فصحاء عدنان وبلغاء قحطان حتى حسبوا أنهم سحّروا تسحيرا، ثم بيّن للناس ما نزّل إليهم حسبما عنّ لهم من مصالحهم ليدّبروا آياته وليتذكر أولو الألباب تذكيرا، فكشف لهم قناع الانغلاق عن آيات محكمات هن أمّ الكتاب وأخر متشابهات هن رموز الخطاب تأويلا وتفسيرا، وأبرز غوامض الحقائق ولطائف الدقائق ليتجلى لهم خفايا الملك والملكوت وخبايا قدس الجبروت ليتفكروا فيها تفكيرا، ومهد لهم قواعد الأحكام وأوضاعها من نصوص الآيات وألماعها ليذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيرا، فمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد فهو في الدارين حميد وسعيد، ومن لم يرفع إليه رأسه وأطفأ نبراسه يعش ذميما ويَصلَ سعيرا.
فيا واجب الوجود، ويا فائض الجود، ويا غاية كل مقصود، صلّ عليه صلاة توازي غناءه وتجازي عناءه، وعلى من أعانه وقرّر تبيانه تقريرا، وأفض علينا من بركاتهم واسلك بنا مسالك كراماتهم وسلّم علينا وعليهم تسليما كثيرا.
وبعد، فإنّ أعظم العلوم مقدارا، وأرفعها شرفا ومنارا، علم التفسير الذي هو رئيس العلوم الدينية ورأسها، ومبنى قواعد الشرع وأساسها، لا يليق لتعاطيه والتصدي للتكلم فيه إلا من برع في العلوم الدينية كلها أصولها وفروعها، وفاق في الصناعات العربية والفنون الأدبية بأنواعها.
ولطالما أحدّث نفسي بأن أصنف في هذا الفن كتابا يحتوي على صفوة ما بلغني من عظماء الصحابة وعلماء التابعين، ومن دونهم من السلف الصالحين، وينطوي على نكت بارعة، ولطائف رائعة، استنبطتها أنا ومن قبلي من أفاضل المتأخرين وأماثل المحققين، ويعرب عن وجوه القراءات المشهورة المعزوة إلى الأئمة الثمانية المشهورين، والشواذ المروية عن القراء المعتبرين؛ إلا أنّ قصور بضاعتي يثبطني عن الإقدام، ويمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، حتى سنح لي بعد الاستخارة ما صمّم به عزمي على الشروع في ما أردته والإتيان بما قصدته، ناويا أن أسمّيه بعد أن أتممه بـ"أنوار التنزيل وأسرار التأويل"، فها أنا الآن أشرع، وبحسن توفيقه أقول، وهو الموفق لكل خير ومعطي كل مسؤول.
ترجمة الشيخ القلعي
هو أبو الحسن بن عمر بن علي القلعي التونسي. قرأ بالزيتونة ثم رحل إلى مصر سنة 1154 هـ. وكان في استعداد للعلوم وقابلية غريبة. وأتم دراسته على أساتذة الأزهر كالشيخ الجبرتي ـ والد المؤرخ ـ ومحمد البليدي التونسي. وتزوج هناك من إحدى البيوتات المشهورة ولحق بخدمة محمد راغب باشا والي مصر، وكان كثير الاختصاص به، وقد لحقه إلى استنبول لمّا تولى الصدارة فأكرم نزله. ثم عاد إلى مصر وتولى مشيخة رواق المغاربة ثلاث مرات وسار فيها بصرامة وشهامة. وكان وافر الحركة نافذ الكلمة، مترفها في ملبسه ومأكله، تعلوه جلالة ووقار. وتوفي في ربيع الأول سنة 1199هـ.
من مصنفاته:
ـ شرح على رسالة محمد راغب باشا المتقدم في علم العروض.
ـ شرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة "أم البراهين".
ـ حاشية على شرح الأخضري على متن السلم.
ـ حاشية على رسالة محمد الكرماني في علم الكلام. قال الجبرتي: دلت هذه الحاشية على رسوخه في علم المنطق والجدل.
ـ ذيل الفوائد وفوائد الزوائد على كتاب: "الفوائد والصلات والعوائد" في خواص الآيات المجربات.
ـ خواص سورة "يس".
ـ شرح على خطبة تفسير البيضاوي.
ـ بلوغ القصد بتحقيق مباحث الحمد، وهو شرح على "الحمد لله".
ـ ختم على رسالة ابن أبي زيد القيرواني.
ـ نبذة فاخرة تتعلق بأحوال الآخرة.
مصدر الترجمة: "كتاب العمر" لحسن حسني عبد الوهاب. (2/436)
بسم الله الرحمان الرحيم
[CENTER]
الحمد لله الذي نزّل الفرقان مصدقا لما بين يديه وهدى وبشرى للمتقين، قرآنا عربيا غير ذي عوج موعظة وذكرى للمؤمنين، والصلاة والسلام على من أنزل عليه الكتاب، منه آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب وأخر متشابهات، وعلى آله وأصحابه اللذين أوتوا العلم درجات.
وبعد، فيقول العبد الفقير، المقر بالعجز والتقصير، أبو الحسن بن عمر بن علي، القلعي بلدا، التونسي وطنا، الأزهري:
لمّا كانت ديباجة التفسير المسمّى بأنوار التنزيل المنسوب للإمام الهمام، قدوة علماء الإسلام، سلطان المحققين، وبرهان المدققين: أبو سعيد عبد الله بن عمر بن محمد بن على أبو الخير القاضي ناصر الدين البيضاوي، قدس الله سره العزيز؛ جيدة المباني غزيرة المعاني، ولم أطلع على شرح يكشف مقاصدها ويبسط فوائدها، حداني ذلك أن أشرحها شرحا وافيا يحل المعاقد، كافيا في تحقيق المقاصد، لخصته من كلام المحققين وجهابذة المدققين.
ولمّا وُفقت بعون الله لإتمامه، وقوضت عند خيام اختتامه، قدمته تحفة للملك الأعظم الأعدل الأكرم، مدير مآرب الأماثل، ومحط رحال الأفاضل، حضرة من نشر لواء العدل على رؤوس الأمم، وجمع عزة العرب إلى عزة العجم، هو الذي أعز الدين وأحيى سنة سيد المرسلين، ظل الله على بريته وخليفته في رعيته، المنصور المظفر المؤيد أمير الأمراء أبي المحامد محمد؛ لا زالت قباب دولته ركينة الأوتاد، وسرادقات عظمته منصوبة إلى يوم التناد.
وقد حاولت بذلك التشبث بأذياله، والاستظلال بظلال رأفته وأفضاله، راجيا من الله القبول، وبلوغ المأمول، فهو الموفق للخير ومعطي كل سؤل.
قال المصنف رحمه الله تعالى: (الحمد لله الذي نزّل الفرقان على عبده) ورتب استحقاق الحمد على تنزيله ـ بعد الإشارة إلى الاستحقاق الذاتي المستفاد من لفظ الجلالة ـ تنبيها على عظمته؛ إذ به ينتظم المعاش والمعاد، وهو الهادي إلى ما فيه كمال العباد.
قال المصنف رحمه الله تعالى: "التنزيل: نقل الشيء من أعلى إلى أسفل. وهو إنما يلحق المعاني بواسطة لحوقه الذوات الحاملة لها". فما قيل إنه مجاز عقلي من قبيل الأسلوب الحكيم والكتاب الحكيم، أو مجاز في الظرف بأن يراد بالتنزيل إيجاده في النبي أو بالفرقان حامله، خروج عن مذاق المصنف.
ثم التنزيل والإنزال شيء واحد لا فرق بينها في اللغة، إلا أنه قد يراد من التنزيل الإنزال نجما نجما على حسب التدريج باعتبار حمل صيغة التفعيل على التكثير، وهو المراد هاهنا.
وكما أنّ التنزيل نعمة يجب الحمد عليها، كذلك كونه على التدريج؛ فإن تكرر الوحي ونزوله بحسب الوقائع أدخل في تكميل العباد وتثبتهم على الهدى. وكذلك تقيده بكونه على الرسول لكونه رحمة، والفرقان أيضا رحمة، وضمّ الرحمة إلى الرحمة رحمة تامة على العباد.
والفرقان: مصدر فرق، سمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل باعتبار كونه ناطقا ببيّنات وحجج، عربيا غير ذي عوج، مفتاحا للمنافع الدينية والدنيوية، مصدقا لما بين يديه من الكتب السماوية، معجزا قيام الدهور؛ أو لكونه مفصولا عن الاشتباه في معانيه، أو مفصولا بعضه من بعض فيناسب التنزيل؛ فإن الأعلام قد يلاحظ فيها المعاني الأصلية.
وإنما قدم الفرقان على العبد لكونه أهم، والعناية به أتم؛ إذ هو بصدد بيان معاني القرآن وتفسيره، ففيه رعاية لبراعة الاستهلال؛ بخلاف ما وقع في مفتتح سورة الكهف من تقديم العبد على الكتاب؛ فإنّ المقام مقام إثبات نبوّته ببيان الأمور الثلاثة التي سألتها اليهود من الرسول صلى الله عليه وسلم شاهدا على نبوته.
وإضافة العبد إلى الله تعالى للتعظيم والتنبيه على أنه مختص به، منقاد لحكمه.
واختاره على نبيه ورسوله إشارة إلى أن النبوة مجرد تفضّل منه تعالى، وأن العبودية أكمل المقامات والأحوال، وغيرها من ثمراتها. وبما ذكرنا ظهر نكتة اختياره على مفتتح سورة الكهف .
(ليكون) أي العبد أو الفرقان. والإسناد حقيقي على الأوّل؛ يدل عليه قوله: (لتنذر قوما ما أنذر آباهم). ومجازي على الثاني؛ يشعر به قوله: (لتنذر به أمّ القرى). والمجاز وإن كان في مقابلة الحقيقة ضعيفا، إلا أنّ اقتضاء المقام ببيان صفات الفرقان يرجح إرجاع الضمير إليه ويخرجه عن الضعف. وعدم إرجاعه إلى الله تعالى لأنّ أسمائه تعالى توقيفية، ولم يرد في الشرع إطلاق النذير عليه تعالى، وقوله تعالى: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا) لا يصححه.
(للعالمين) أي من يعلم، إلا أنه أخرج منه الملك بقرينة قوله (نذيرا).
والنذير إمّا مصدر كالنكير وصفه به للمبالغة، أو بمعنى المنذر. واكتفى بالإنذار لعمومه، ولكونه أدخل في التكميل؛ فإن الإنسان في دفع المضار أسعى منه في جلب المصالح، ولذا أمر صلى الله عليه وسلم به أوّلا بقوله: (قم فأنذر) ، (وأنذر عشيرتك الأقربين).
وفائدة تعليق التنزيل بقوله "ليكون" إلى آخره الإشارةُ إلى عظم التنزيل باعتبار اشتماله على تكميل الثقلين.
(فتحدّى) أي نازع اللهُ، كما يقتضي مناسبة عطفه على نزّل وظاهر آية التحدي، أو عبده باعتبار أنّ التحدي من الله تعالى إنما هو على لسان نبيه كما قال الله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله).
ولمّا اعتبر إرجاع الضمير إلى العبد المضاف لم يلزم إخلاء المعطوف على الصلة من الضمير الرابط بالموصول، على أن الرضي ذكر أنه يكفي رابطة ضمير المعطوف عليه وإرجاع الضمير إلى الفرقان، فاعتبار اشتماله على آية التحدي تكلُّف يستلزم تفكيك ضمير "فلم يجد"، إذ لا وجه لإرجاعه إلى الفرقان.
والفاء في قوله فتحدى إن جعلت للسببية فظاهر، أو للتعقيب. فالمراد بالفرقان ما نقل إلى آخره أعني المفهوم الكلي لأنه المناسب لغرض المفسر لأنه يبحث عن أحوال السور من الآيات، ولا شك أنّ التحدي عقب تنزيله. وعدم استقامة إرجاع ضمير سوره إليه حينئذ من غير اعتبار الاستخدام ممنوع لأنها من جزئياته، كما أنها من أجزاء الكل. ولو أريد بالفرقان المجموع فيجوز أن تكون الفاء للترتيب في الرتبة، فإن رتبة التحدي بعد رتبة الإنزال. أو نقول: يكفي التعقيب بالنسبة إلى بعض أجزاء المعطوف عليه، كما يكفي في كلمة "ثم" التراخي كذلك، كما صرح به في المطول. وحمل الكلام على إرادة التنزيل ركيك.
(بأقصر سورةٍ) الأقصرية مأخوذة من تنوين سورةٍ في قوله تعالى: ( وإن كنتم في ريب ممّا نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ ).
(من سوره مصاقع الخطباء) من إضافة الصفة إلى الموصوف. وخطيب مصقع: أي بليغ. وجعل الخطيب بمعنى البليغ، والمصقع بمعنى العالي الصوت، أو من لا يرتج في كلامه – أي يقدر على التكلم – لا يناسب المقام؛ إذ لا فائدة هاهنا بوصف البليغ بذلك.
(من العرب العرباء) كالعرب العاربة الخلص منهم. أخذ من لفظه فأكد به كقولهم ليل أليل. أي نازع للغلبة بأقصر سورة من سوره الخطباء البلغاء (فلم يجد به قديرًا) أي بالتحدي، أو بأقصر سورة. والـ "باء" بمعنى على، أو للملابسة.
والقدير إن لم يجعل مأخوذا من القادر لم يكن من أبنية المبالغة كالكريم والظريف فلا شبهة في صحة نفيه، وإن جعل مأخوذا منه كان للمبالغة. إليه يشير قوله فيما سيجيء: "القدير: الفعال لما يشاء"، فالنفي هاهنا يعتبر مقدما على التعبير بصيغة المبالغة فيفيد المبالغة في النفي، لا نفي المبالغة كما قالوا في قوله تعالى: ( لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتّم ) أنه يعتبر الاستمرار بعد النفي، كأنه عبر أولا بصيغة الماضي مع "لو"، ثم غير ذلك الماضي إلى صيغة المضارع ليفيد استمرار الامتناع، لا امتناع الاستمرار. ولو أريد نفي المبالغة فلا يضرّ، إذ الآتي بمثل القرآن لا يكون إلا كامل القدرة. على أن توجه النفي إلى القيد أكثريّ.
وعدم تقييده بكونه من مصاقع الخطباء إشارة إلى أنه لم يجد عليه قادرًا أصلا، لا من المتحدّين ولا من غيرهم؛ أمّا منهم فظاهر، وأمّا من غيرهم فلأنّ المتحدين لمّا عجزوا مع كمالهم في تلك الصناعة وتهالكهم وتوفر دواعيهم، فغيرهم أولى. ولهذا كان معجزة كل نبي من جنس ما غلب أهل زمانه وتهالكوا فيه وتفاخروا به.
وعدم وجدانه تعالى ـ أو الرّسول ـ القادر عليه في مقام التحدي كناية عن عدم وجوده؛ إذ لو كان موجودا لتحدّى لتوفّر الدواعي، وليس فليس.
(فأفحم) عطف على تحدّى، قريب من عطف الخاص على العام إظهارا للشرافة. وضميره تابع لضميره. أي أسكت (من تصدّى) تعرّض (لمعارضته من فصحاء عدنان) جدٌّ أعلى لنبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. (وبلغاء قحطان) أبو عرب اليمن، وعدنان أبو عرب الحجاز. والعرب كلهم منهما. وفي بعض النسخ "أفحم" بدون "واو"، بدل من تحدى، أو استئناف كأنّ سائلا سأله: كيف كان التحدّي وعجزهم؟ فأجاب بأنّه أفحم عند المعارضة رؤساءهم ومشاهيرهم في البلاغة بحيث لم يبق لهم مجال للطعن فيه، ولم يوردوا للقدح فيه مقالا مع تهالكهم عليه. فلزم عجز الكلّ.
(حتى حسبوا أنهم سحّروا) – بالتشديد للمبالغة – ( تسحيرا). أي أتى لهم بالسحر. وهو لغة: ما دقّ ولطف مأخذه، (فقالوا إن هذا إلا سحر يؤثر)، على ما هو دأب المحجوج والمبهوت، تعجبًا من فصاحته وحسن نظمه وبلاغته، واعترفوا بأنه ليس من جنس خطب الخطباء وشعر الشعراء، وأنّ له حلاوة وعليه طلاوة. فغاية الإفحام حسبانهم أنه سِحْر تعجبًا من بلاغته، وليس غايته حسبانهم أنفسهم أنهم سحروا كثيرا حتى غلب على عقولهم – على ما فسر به المصنف قوله تعالى إنما أنت من المسحّرين .
(ثم) للتراخي في الزمان، فيكون إشارة إلى أنه يجوز التأخير في البيان عن وقت الحاجة، أو في الرتبة، فإن رتبة البيان أشرف وأكثر نفعا من التنزيل.
(بيّن) أي الله أو الرسول، ويؤيد الأوّل قوله تعالى: ثمّ إنّ علينا بيانه ويؤيّد الثاني قوله تعالى: وأنزلنا عليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم.
والتبيين: الإيضاح سواء كان ابتداء أو بعد الخطاب، وهو أعمّ من أن ينص بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدلّ عليه كالقياس ودليل العقل.
(للناس ما نزّل إليهم) أي بواسطة الرسول، أعمّ ممّا أمروا به أو نهوا عنه وما تشابه عليهم. كذا ذكره المصنف في سورة النحل في تفسير الآية المذكورة.
(حسبما عنّ لهم) أي قدر وعدد ما ظهر لهم (من مصالحهم) الدينية والدنيوية، وهو متعلّق بـ "نزّل" أو بـ "بيّن". والثاني أوجه ليدل على أنّه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وفيه إشارة إلى أنّه راعى ما هو الأصلح بالنسبة إلى الكلّ تفضّلاً.
(ليدبروا آياته) أي ليتفكروا فيها، فيعرفوا ما يريد بظاهرها من التأويلات الصحيحة والمعاني المستنبطة.
(وليتذكر أولو الألباب)، أي ليتعظ به ذووا العقول السليمة، أو ليستحضروا ما هو كالمركوز في عقولهم من فرط تمكنهم من معرفته بما نصب عليه من الدلائل؛ فإنّ الكتب الإلهية بيان لما لا يعرف إلا من الشرع، وإرشاد لما لا يستقل به العقل. ولعلّ التدبر للقسم الأوّل، والتفكر للقسم الثاني. كذا فسّر المصنف الآية في سورة ص.
وقوله: "ليدّبروا" إلى آخره اقتباس من قوله تعالى في سورة ص كتاب أنزلناه إليك مباركا ليدّبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب . وفي بيان المعنى بهذا الوجه إشارة إلى أنّ "ليدّبروا" مسند إلى ضمير "أولو الألباب" على التنازع وأعمل الثاني. ويحتمل أن يكون الواو في "ليدّبروا" ضمير "المتقين" و"الفاسقين" المذكورين سابقا في قوله: أم نجعل المتقين كالفجار . وعبارة المصنف تحتمل الوجهين كما لا يخفى. وبالجملة، هذه الفقرة مأخوذة من مجموع هذه الآية والآية المذكورة سابقا.