يوسف حميتو
26-07-2006, 16:51
الحمد لله ثم الحمد لله ثم الحمد لله ، وأصلي وأسلم على من بدأ ربي بالصلاة عليه بنفسه ، وثنى بملائكة قدسه ، وثلث بالمؤمنين من خلقه من جنه وإنسه ، وعلى آل البيت الأطهار من أزواج وذرية وأصهار ، وعلى الصحب الأخيار ، وعلى من بمنهجهم تمسك وعليه سار .
أما بعد :
في إطار البحث الذي أقوم به لنيل الدكتوراه كان لا بد لي من التعامل مع كتاب :" نظرية التقريب والتغليب "، وقد شغفت بما في هذا الكتاب من الدرر التي أحببت أن أضع جزءا منها هنا مع تصرف مني وتدخل في صياغة العبارة .
لأستاذنا وشيخنا الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله تعالى كلام نفيس وجميل جدا ، هو من صميم منهج النظر المصلحي الذي ليس للناظر في الواقع وفي تنزيل الأحكام عليه بد من أن يحيط به ، فقد تختلط المصالح والمفاسد في الفعل الواحد و هو السائد ، وقد تغلب واحدة منها على الأخرى ، لكن قد تتساوى المصالح والمفاسد من جميع الوجوه بحيث لا مرجح بينها .
فإذا كان منهج رفع التعارض بين المصالح ذاتها أو بين المفاسد ذاتها ، وبين المصالح والمفاسد من خلال منهج التقريب والتغليب فهل يمكننا أن نطبق المنهج ذاته في حال تساوي المصالح والمفاسد ؟ هذا سؤال يستمد مشروعيته من سؤال لا بد أن يطرح قبله ، وهو : هل يمكن تصور تساوي المصلحة والمفسدة في الشيء الواحد ؟
في كتب أئمة المقاصد -وخاصة عند الإمام العز في قواعده ، وإمام المقاصديين في عصره الإمام محمد الطاهر بن عاشور عليهم رحمة ربي جميعا - نجد تقريرا بأن وقوع التساوي بين المصالح والمفاسد غير ممتنع ، وقد مثل الإمام العز لذلك بأمثلة عديدة ، سواء لتساوي المصالح فيما بينها ، و تساوي المفاسد فيما بينها ، وحتى تساوي المصالح والمفاسد .
لكن ابن القيم رحمه الله في إعلامه يقرر أن التساوي بين المصالح والمفاسد غير واقع ، ويعلل ابن القيم رحمه الله ذلك بان الشيء إما أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته أو العكس ، ويقول بأن هذا مما لم يقم عليه دليل اثبات ، بل نفيه هو ما قام عليه الدليل ، فلا بد إذا تقابلت اللذة والألم ، والمفسدة والمصلحة ، والنفع والضرر ، من أن يغلب أحدها الآخر فيحكم للغالب منها ، ويقول بالحرف : " وأما أن يتدافعا ويتصادما بحيث لا يغلب أحدهما الآخر ، فغير واقع " .
يحاول الدكتور الريسوني أن يوجه كلام ابن القيم من خلال أن مستند ابن القيم فميما ذهب إليه هو الواقع الذي لا يسعف بحالات تتساوى فيها المصالح والمفاسد ، أو حتى المصالح فيما بينها ، والمفاسد فيما بينها تساويا تاما من جميع الوجوه بل لا بد من مرجح .
ورغم هذا التوجيه الجميل ، يقف الدكتور الريسوني في صف الرأي الآخر ، فلا يقبل ألا يكون من بين المصالح التي لا تعد ولا تحصى ، والمفاسد التي لا تعد ولا تحصى ، في أزمنة وأمكنة لا تعد ولا تحصى ، بمقادير لا تعد ولا تحصى ، ألا يكون من بينها حالة تتسوى فيها مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة .
هنا ينحو الدكتور منحى آخر في إثباته وقوع التساوي ، من خلال مصطلحين جميينل جدا يسهلان عملية النظر المصلحي ، وهما ما سماه :" التساوي التقريبي " أو " التساوي الظاهري ".
المفهوم الحدي لهذين المصطلحين كما يقدمه الدكتور الريسوني يصب فيما أصبح يعرف اليوم بفقه الموازنات ، وذلك بأن نقدر ونحسب ، فنجد أن المصلحتين متساويتين ، إن لم يقع تماما فتقريبا ، أي لا يبقى بينهما فرق يؤبه له ، مع أنه لا ينكر أن المعرفة القطعية للتساوي التام ممكنة ولكنها نادرة .
أما التساوي الظاهري ، فهو أن تكون حقيقة الأمور مغيبة عنا ، ولا نملك إلا ظواهرها ، أو نعرف بعض بواطنها ، وما نعرفه من الظواهر و بعض البواطن يفيدنا أن الأمرين متساويان ، ولكن الأمور في بواطنها قد تكون كما ظهر لنا وقد لاتكون ، فإذا حكمنا بالتساوي فإنما هو التساوي الظاهري ، أما الباطني فلا يعلمه إلا الله .
فإذا ما قرر الناظر أن التساوي ظاهري أو تقريبي وجب إنفاذ الحكم عند تعذر اليقين ، فكلما كبر حجم المصالح وتعددت وجوهها ومقاديرها كلما كان الحكم فيها بالتساوي عسيرا ، وهنا يفهم قول الإمام العز رحمه الله حين يقول :" والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزيز ، ولا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى ، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت ، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب " .
وبعد مرحلة الحكم بالتساوي بين مصلحتين أو مفسدتين أو بين مصلحة ومفسدة ، سواء كان تقريبيا أو ظاهريا ، و حتى قطعيا ، فالمجتهد يحكم بالتخيير ، أي أن يختار المكلف واحدة من المصلحتين ، و يدفع عنه واحدة من المفسدتين ، أو حتى بين تحصيل المصلحة والوقوع في المفسدة أو العكس ، ولكن يجب ألا يقع ذلك إلا بعد استفراغ الوسع في تحصيل مرجح كما قال ابن عاشور ، وهذا يجد سنده الشرعي في أن من أقسام الحكم التكليفي هناك الواجب ، والواجب من أقسامه الواجب المخير ، أي يختار المكلف بين عدة أشياء لا تبرأ ذمته إلا بالإتيان بواحد منها والأمثلة كثيرة جدا . وكذلك مستنده في أن تعريف الإباحة يعني التخيير بين الفعل والترك والتخيير لا يكون إلا حال التساوي .
لكن ينبغي ألا يفوتنا أن هذا الكلام الآنف كله إنما هو متعلق بالشخص الواحد ، أما في حال تعدد المعنيين فلا يكون التخيير محققا للعدل ، والشرع إنما هو عدل ومصلحة وهما مقصداه الجوهريان كما يقرر ذلك الدكتور عبد الرحمن السنوسي في كتابه :" اعتبار المآل ومراعاة نتائج التصرفات " ، إذن ما الحل ؟
الحل كما قرره العلماء هو القرعة ، ولا يملك أحد أن يرد هذا المسلك ، وقد ثبت صدوره عن النبي ، وقد أقرع بين نسائه ، وفي شرعنا أن القسمة نوعان :
* قسمة رقاب أموال : ولها ثلاث صور ، إما قسمة قرعة ، وإما قسمة مراضاة بعد التقويم والتعديل ، وإما قسمة بلا مراضاة ولا تعديل .
* قسمة منافع الرقاب : وهي إما بالأعيان وإما بالأزمان .- وليس هنا محل التفصيل - وحتى هذه يمكن أن تكون فيه قرعة لتحديد العين المقسومة ، أو لتحديد المستفيد أولا من العين المقسومة .
هذا بالإضافة إلى أن مسلك القرعة إنما هو عمل اضطراري ينفي الشبهة ويزيل أسباب الضغينة والحقد ، وفي ذلك يقول الإمام العز :" وإنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق ، دفعا للضغائن والأحقاد ، وللرضاء بما جرت به الأقدار ، وقضاه الملك الجبار " ، ويقول ابن القيم :" وأما القرعة ، فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة ، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة ، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ، ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة "
المصدر " نظرية التقريب والتغليب " للدكتور أحمد الريسوني بتصرف وزيادة .
__________________
أما بعد :
في إطار البحث الذي أقوم به لنيل الدكتوراه كان لا بد لي من التعامل مع كتاب :" نظرية التقريب والتغليب "، وقد شغفت بما في هذا الكتاب من الدرر التي أحببت أن أضع جزءا منها هنا مع تصرف مني وتدخل في صياغة العبارة .
لأستاذنا وشيخنا الدكتور أحمد الريسوني حفظه الله تعالى كلام نفيس وجميل جدا ، هو من صميم منهج النظر المصلحي الذي ليس للناظر في الواقع وفي تنزيل الأحكام عليه بد من أن يحيط به ، فقد تختلط المصالح والمفاسد في الفعل الواحد و هو السائد ، وقد تغلب واحدة منها على الأخرى ، لكن قد تتساوى المصالح والمفاسد من جميع الوجوه بحيث لا مرجح بينها .
فإذا كان منهج رفع التعارض بين المصالح ذاتها أو بين المفاسد ذاتها ، وبين المصالح والمفاسد من خلال منهج التقريب والتغليب فهل يمكننا أن نطبق المنهج ذاته في حال تساوي المصالح والمفاسد ؟ هذا سؤال يستمد مشروعيته من سؤال لا بد أن يطرح قبله ، وهو : هل يمكن تصور تساوي المصلحة والمفسدة في الشيء الواحد ؟
في كتب أئمة المقاصد -وخاصة عند الإمام العز في قواعده ، وإمام المقاصديين في عصره الإمام محمد الطاهر بن عاشور عليهم رحمة ربي جميعا - نجد تقريرا بأن وقوع التساوي بين المصالح والمفاسد غير ممتنع ، وقد مثل الإمام العز لذلك بأمثلة عديدة ، سواء لتساوي المصالح فيما بينها ، و تساوي المفاسد فيما بينها ، وحتى تساوي المصالح والمفاسد .
لكن ابن القيم رحمه الله في إعلامه يقرر أن التساوي بين المصالح والمفاسد غير واقع ، ويعلل ابن القيم رحمه الله ذلك بان الشيء إما أن تكون مصلحته راجحة على مفسدته أو العكس ، ويقول بأن هذا مما لم يقم عليه دليل اثبات ، بل نفيه هو ما قام عليه الدليل ، فلا بد إذا تقابلت اللذة والألم ، والمفسدة والمصلحة ، والنفع والضرر ، من أن يغلب أحدها الآخر فيحكم للغالب منها ، ويقول بالحرف : " وأما أن يتدافعا ويتصادما بحيث لا يغلب أحدهما الآخر ، فغير واقع " .
يحاول الدكتور الريسوني أن يوجه كلام ابن القيم من خلال أن مستند ابن القيم فميما ذهب إليه هو الواقع الذي لا يسعف بحالات تتساوى فيها المصالح والمفاسد ، أو حتى المصالح فيما بينها ، والمفاسد فيما بينها تساويا تاما من جميع الوجوه بل لا بد من مرجح .
ورغم هذا التوجيه الجميل ، يقف الدكتور الريسوني في صف الرأي الآخر ، فلا يقبل ألا يكون من بين المصالح التي لا تعد ولا تحصى ، والمفاسد التي لا تعد ولا تحصى ، في أزمنة وأمكنة لا تعد ولا تحصى ، بمقادير لا تعد ولا تحصى ، ألا يكون من بينها حالة تتسوى فيها مصلحتان أو مفسدتان أو مصلحة ومفسدة .
هنا ينحو الدكتور منحى آخر في إثباته وقوع التساوي ، من خلال مصطلحين جميينل جدا يسهلان عملية النظر المصلحي ، وهما ما سماه :" التساوي التقريبي " أو " التساوي الظاهري ".
المفهوم الحدي لهذين المصطلحين كما يقدمه الدكتور الريسوني يصب فيما أصبح يعرف اليوم بفقه الموازنات ، وذلك بأن نقدر ونحسب ، فنجد أن المصلحتين متساويتين ، إن لم يقع تماما فتقريبا ، أي لا يبقى بينهما فرق يؤبه له ، مع أنه لا ينكر أن المعرفة القطعية للتساوي التام ممكنة ولكنها نادرة .
أما التساوي الظاهري ، فهو أن تكون حقيقة الأمور مغيبة عنا ، ولا نملك إلا ظواهرها ، أو نعرف بعض بواطنها ، وما نعرفه من الظواهر و بعض البواطن يفيدنا أن الأمرين متساويان ، ولكن الأمور في بواطنها قد تكون كما ظهر لنا وقد لاتكون ، فإذا حكمنا بالتساوي فإنما هو التساوي الظاهري ، أما الباطني فلا يعلمه إلا الله .
فإذا ما قرر الناظر أن التساوي ظاهري أو تقريبي وجب إنفاذ الحكم عند تعذر اليقين ، فكلما كبر حجم المصالح وتعددت وجوهها ومقاديرها كلما كان الحكم فيها بالتساوي عسيرا ، وهنا يفهم قول الإمام العز رحمه الله حين يقول :" والوقوف على تساوي المفاسد وتفاوتها عزيز ، ولا يهتدى إليها إلا من وفقه الله تعالى ، والوقوف على التساوي أعز من الوقوف على التفاوت ، ولا يمكن ضبط المصالح والمفاسد إلا بالتقريب " .
وبعد مرحلة الحكم بالتساوي بين مصلحتين أو مفسدتين أو بين مصلحة ومفسدة ، سواء كان تقريبيا أو ظاهريا ، و حتى قطعيا ، فالمجتهد يحكم بالتخيير ، أي أن يختار المكلف واحدة من المصلحتين ، و يدفع عنه واحدة من المفسدتين ، أو حتى بين تحصيل المصلحة والوقوع في المفسدة أو العكس ، ولكن يجب ألا يقع ذلك إلا بعد استفراغ الوسع في تحصيل مرجح كما قال ابن عاشور ، وهذا يجد سنده الشرعي في أن من أقسام الحكم التكليفي هناك الواجب ، والواجب من أقسامه الواجب المخير ، أي يختار المكلف بين عدة أشياء لا تبرأ ذمته إلا بالإتيان بواحد منها والأمثلة كثيرة جدا . وكذلك مستنده في أن تعريف الإباحة يعني التخيير بين الفعل والترك والتخيير لا يكون إلا حال التساوي .
لكن ينبغي ألا يفوتنا أن هذا الكلام الآنف كله إنما هو متعلق بالشخص الواحد ، أما في حال تعدد المعنيين فلا يكون التخيير محققا للعدل ، والشرع إنما هو عدل ومصلحة وهما مقصداه الجوهريان كما يقرر ذلك الدكتور عبد الرحمن السنوسي في كتابه :" اعتبار المآل ومراعاة نتائج التصرفات " ، إذن ما الحل ؟
الحل كما قرره العلماء هو القرعة ، ولا يملك أحد أن يرد هذا المسلك ، وقد ثبت صدوره عن النبي ، وقد أقرع بين نسائه ، وفي شرعنا أن القسمة نوعان :
* قسمة رقاب أموال : ولها ثلاث صور ، إما قسمة قرعة ، وإما قسمة مراضاة بعد التقويم والتعديل ، وإما قسمة بلا مراضاة ولا تعديل .
* قسمة منافع الرقاب : وهي إما بالأعيان وإما بالأزمان .- وليس هنا محل التفصيل - وحتى هذه يمكن أن تكون فيه قرعة لتحديد العين المقسومة ، أو لتحديد المستفيد أولا من العين المقسومة .
هذا بالإضافة إلى أن مسلك القرعة إنما هو عمل اضطراري ينفي الشبهة ويزيل أسباب الضغينة والحقد ، وفي ذلك يقول الإمام العز :" وإنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق ، دفعا للضغائن والأحقاد ، وللرضاء بما جرت به الأقدار ، وقضاه الملك الجبار " ، ويقول ابن القيم :" وأما القرعة ، فقد تستعمل عند فقدان مرجح سواها من بينة أو إقرار أو قافة ، وليس ببعيد تعيين المستحق بالقرعة ، إذ هي غاية المقدور عليه من أسباب ترجيح الدعوى ، ولها دخول في دعوى الأملاك المرسلة التي لا تثبت بقرينة ولا أمارة "
المصدر " نظرية التقريب والتغليب " للدكتور أحمد الريسوني بتصرف وزيادة .
__________________