أوس عبد الرؤوف كريم
22-04-2006, 09:25
"
المُعاملات الرَّبوية في دَار الحَرب "
بحث فقهي لبيان مذهب السادة الأحناف في مسألة الرِّبا والمعاملات الفاسدة في دار الحرب
والموازنة بين أقوال أئمة المذهب فيها مع عرض لأدلة كل فريق
وبيان الرأي الراجح فيها وفق قواعد الترجيح المعتبرة
التي نصَّ عليها علماء المذهب
المقدمة :
الحمد الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدي وقرة عيني ، نور العيون وسراج القلوب ، القائل : " إنّما الأعمال بالنيات " (1) – فأسأله تعالى العلي العظيم أن يكون هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم - ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى سنته ، وسار على نهجه من الحياة إلى الممات ، سيما أئمتنا الأربعة المتبوعين ، الذين تلقتهم الأمة بالقبول ، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وعلى مقلديهم إلى يوم الدين .
وبعد :
فإن مما لا شكَّ فيه أنَّ موضوع المعاملات الرَّبوية في دار الحرب أخذ يشغل حيزاً كبيراً من تفكير أهل عصرنا ، وكثر السؤال عن حكم التعامل بالربا في دار الحرب ، سيما أن كثيراً من المسلمين قد هاجروا إلى الدول الأوروبية ، ويتساءلون عن حكم وضع أمواهم في بنوك أوروبا الربوية ، وأخذ الفائدة عليها ، وبعضهم يلاقي تشديداً وتضييقاً على حياته هناك ، كارتفاع أسعار الإجارات للبيوت ، فيأخذ قرضاً من بنك ربوي ليشتري منزلاً ، ويُنزل هذه الشدةّ منزلة الضرورة ، فيبيح لنفسه من الحرام مالا يقره عقل ولا دين ، خاصة أن كثيراً من النّاس يطلق على كل دولة أجنبية اسم دار الحرب .
ومن هنا كان لا بدّ من تجلية الأمر ، وبيان حكمه ، وأقوال الفقهاء المتبعين فيه ، خروجاً عن عهدة الحرام ، والتزاماً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الحلال بيّن ، وإن الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" (2) .
لذلك ارتأيت أن يكون موضوع بحثي حول المعاملات الربوية في دار الحرب ، وقد قسمت البحث إلى مقدمة وفصلين وخاتمة .
المقدمة : وتشتمل على سبب اختيار البحث .
الفصل الأول : بينت فيه الفرق بين دار الإسلام ودار الحرب ، وما تصير به دار الإسلام دار حرب .
الفصل الثاني : بينت فيه مفهوم الرِّبا ، وحكم المعاملات الربوية والفاسدة في دار الحرب وأقوال الفقهاء في ذلك .
الخاتمة : ذكرت فيها خلاصة ما مرّ من أقوال الفقهاء ، وما أميل إليه .
.................................................. ..............
1.البخاري/ كتاب بدء الوحي . عن عمر بن الخطاب . حديث رقم 1 ، مسلم/ كتاب الإمارة رقم الحديث 1907 .
2.البخاري/ كتاب الأيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52 ، كتاب البيوع رقم 2051 . مسلم/ كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599 .
والله أسأل أن أكون قد وفقت لما صبوت لتحقيقه ، فإن أحسنت فمن الله ، وإن كانت الأخرى فمني والشيطان ، وأعوذ بالله من همزه ونفثه ، وأعوذ بالله من الخطل والزلل .
وقبل أن نبدأ لا بدّ من بيان سبب اختيار المذهب الحنفي لدراسة المسألة ؛ وذلك أن جمهور الفقهاء يحرمون الربا سواء في دار الإسلام أو دار الحرب ، وإنما وقع الخلاف بين أئمة المذهب الحنفي ، وهذا ما سنبينه إن شاء الله .
وحتى لا نخرج عمّا أردنا تحقيقه ، وبيانه وتجلية أمره ، نبدأ بالمقصود الأول : دار الإسلام ودار الحرب ، وبيان المقصود من كليهما .
الفصل الاول :
دار الإسلام ودار الحرب :
يرد مصطلح " دار الإسلام " كثيراً في كتب الفقهاء في أبواب السياسة الشرعية ككتب السير والجهاد ، ولعلّ أقدم من استعمل هذه اللفظة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه في كتابه لأهل الحيرة حيث جاء فيه :
" ... وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه ، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين(1) وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام . فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم(2) .
وقد عرّف الحنفية دار الإسلام بعدة تعريفات مختلفة في اللفظ متفقة في المعنى نورد بعضها :
قال قاضي خان(3) في شرح الزيادات(4) : ولهذا تصير دار الحرب دار الإسلام بمجرد إجراء الأحكام .
.................................................. ......................
1.أُنفق عليه منه .
2.كتاب الخراج : أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم . المكتبة الأزهرية للتراث 157-158 .
3.الحسن بن منصور بن محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الإمام فخر الدين أبو المحاسن قاضيخان الفرغاني الحنفي ، الإمام الكبير والعالم النحرير ، قال اللكنوي : كان إماماً كبيراً وبحراً عميقاً غواصاً في المعاني الدقيقة مجتهداً فهّامة . تفقه على الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفاري الأنصاري والإمام ظهير الدين أبي الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني ونظام الدين أبي اسحاق إبراهيم بن علي المرغيناني ، وتفقه عليه شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردري .ذكره ابو المحاسن الحصيري شيخ الإسلام فقال : هو سيدنا القاضي الامام والأستاذ فخر الملّة ركن الإسلام بقية السلف مفتي الشرق . له من المؤلفات الكثير منها : الفتاوى ، شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني .توفى رحمه الله سنة 592 . انظر لترجمته : هدية العارفين1/ 280 ، كشف الظنون1 / 165 ، الطبقات السنية3/ 116 ، الجواهر المضية2/ 93 ، مفتاح السعادة2/ 252 ، الفوائد البهية/ 111 ، تاج التراجم/ 151 ، طبقات الحنفية للحنائي/ 237 .
4. 6/2023 . دار إحياء التراث .
وقال الحصكفي(1) في الدّر المختار(2) : ودار الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها كجمعة وعيد ، وإن بقي فيها كافر أصلي ، وإن لم تتصل بدار الإسلام .
قال في الفتاوى الهندية(3) : اعلم أن دار الحرب تصير دار الإسلام بشرط واحد وهـو إظهار حكم الإسلام فيها . ومثله في إيثار الإنصاف(4) .
وقال ابن مازة رحمه الله بقوله : أجمع العلماء أن دار الحرب عند ظهور المسلمين عليهم دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها على الإشهار(5) .
وقال الشيخ البوطي : هي فيما اتفق عليه أئمة المذاهب الأربعة ، البلدة أو الأرض التي دخلت في منعة المسلمين وسيادتهم بحيث يقدرون على إظهار إسلامهم والامتناع من أعدائهم ، سواء تمّ ذلك بفتح وقتال ، أو بسلم ومصالحة ، أو نحو ذلك .
وقال أيضاً : وقد تختلف عبارات الفقهاء في تعريف دار الإسلام ، ولكنها اختلافات في الصياغة اللفظية فقط . ومدار هذه التعريفات كلها على معنى واحد هو محل اتفاق منهم جميعاً ، وهو أن يمتلك المسلمون السيادة لأنفسهم فوق تلك الأرض ، بحيث يملك كل منهم أن يستعلن فيها بأحكام الإسلام وشعائره .
وهذه السيادة الإسلامية على أرض ما ، هي التي تجعل منها دار إسلام وسيان بعد ذلك أن يكون سكانها مسلمين أو غير مسلمين ، كالبلدة التي فتحها المسلمون وأقروا أهلها عليها بجزية ونحوها(6) .
وعرفها الشيخ عبد الوهاب خلاف بأنها : الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام ، ويأمن من فيها بأمان المسلمين ، سواء كانوا مسلمين أو ذميين(7) .
.................................................. ..........................
1.لعلاء الدين محمد بن علي بن محمد الحِصني الأصل الدمشقي الحَصْكَفي " نسبة إلى حصن كيفا ، وهو من ديار بكر ، وحصن كيفا على دجلة بين جزيرة ابن عمر وميافارقين ) الحنفي ، فقيه أصولي محدِّث مفسِّر نَحوي ، ولد بدمشق سنة 1021 . قرأ على محمد أفندي المحاسني ، وارتحل إلى الرَّملة وأخذ عن خير الدين بن أحمد الخطيب ، ودخل القدس وأخذ عن فخر الدّين بن زكريا ، وحجَّ وأخذ في المدينة عن أحمد القشاشي ، وتولى إفتاء الحنفية بدمشق . توفى رحمه الله سنة 1088 ، ودفن بمقبرة الباب الصغير. وله من المؤلفات الكثير منها : إفاضة الأنوار على المنار ، الدر المنتقى شرح الملتقى . انظر : هدية العارفين2/ 295 ، ذيل كشف الظنون1/ 428 ، الأعلام6/ 294 ، معجم المؤلفين11/ 56 .
2.انظر الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/288 . دار الكتب العلمية .
3. 2/232 . دار الفكر .
4.لسبط ابن الجوزي / 231 .
5.المحيط البرهاني في الفقه النعماني 5/ 114 .
6.الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه / 80 .
7.السياسة الشرعية . نقلاً عن أسس العلاقات الدولية في الإسلام لمحمود أبو الليل/ 13 .
ومن خلال ما مضى من ذكر تعريفات دار الإسلام ، نخلص إلى القول أن محل الاتفاق على دار الإسلام هو خضوعها لأحكام الإسلام وسلطان المسلمين سواء كان سكانها من المسلمين أو غيرهم .
وبالتالي تشمل دار الإسلام كل البلاد التي فتحها المسلمون ، ويستطيعون أن يظهروا أحكام الإسلام من غير مانع من أحد .
دار الحرب :
ذكرنا سابقاً أن دار الحرب تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ، وخضوعها لسيادة المسلمين . أما تحول دار الإسلام إلى دار حرب فهذا محل خلاف بين أئمة المذهب من السادة الحنفية ، وبيّنا سابقاً سبب اقتصارنا على مذهب السادة الأحناف لورود الخلاف في مسألتنا الأصلية وهي المعاملات الربوية في دار الحرب في مذهبهم .
قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أن دار الإسلام تصير دار حرب بشرط واحد لا غير ، وهو إظهار حكم الكفر فيها .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا تصير دار الإسلام دار حرب إلا بشروط ثلاثة ، وإن غلبوا على دار من دورنا ، أو ارتدّ أهل مصر وغلبوا وأجروا أحكام الكفر ، أو نقض أهل الذمة العهد وتغلبوا على دارهم(1) .
قال ابن مازة رحمه الله(2) : ودار الإسلام عند استيلاء الكفار عليها عندهما (أي أبو يوسف ومحمد) تصير دار حرب بإجراء أحكام الكفر على سبيل الاشتهار ، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا تصير دار الحرب إلا بشرائط ثلاثة :
أحدها : إجراء أحكام الكفر على سبيل الإشهار .
والثاني : أن تكون متاخمة بأرض حرب ، أي متصلة لا يتخلل بينهما بلدة من بلاد المسلمين .
والثالث : أن لا يبقى فيها مؤمن آمن على نفسه بإيمانه أو ذمي آمن في نفسه بأمانه الأول ، وهو أمان المسلمين(3) .
.................................................. ..............................
1.انظر : رد المحتار على الدر المختار 6/288 . كتاب الجهاد / باب المستأمن . مطلب فيما تصير به دار الإسلام دار حرب وبالعكس . المحيط البرهاني لابن مازة 5/ 144 ، شرح الزيادات لقاضي خان6/ 2032 باب ما إذا غلب المشركون من أرض المسلمين ثم يظهر عليهم المسلمون ، الفتاوى الهندية 2/ 232 .
2.للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبدالعزيز الحنفي المعروف بابن مازه صاحب المحيط ، والمولود سنة 551 والمتوفى رحمه الله سنة 616 . وله العديد من المؤلفات منها : الذخيرة البرهانية ، الواقعات ، شرح الزيادات للشيباني ، الفتاوى البرهانية . انظر لترجمته هدية العارفين2 / 404 ، كشف الظنون1 ، 343 ،الفوائد البهية/ 336 ، الجواهر المضية3/ 42 ، تاج التراجم/ 288 .
3. المحيط البرهاني 5/ 114 .
قال ابن عابدين رحمه الله(1) تعقيباً على الشرط الأول : وظاهره أنه لو أجريت أحكام المسلمين ، وأحكام أهل الشرك لا تكون دار حرب .
وقال تعقيباً على الشرط الثاني : بأن لا يتخلل بينهما بلدة من من بلاد الإسلام ، وظاهره أن البحر ليس فاصلاً ، بل قدمنا في باب استيلاء الكفار أن بحر الملح ملحق بدار الحرب ، خلافاً لما في فتاوى قارىء الهداية(2) .
وقال تعقيباً على الشرط الثالث : أي الذي كان ثابتاً قبل استيلاء الكفار للمسلم بإسلامه ، وللـذمي بعقد الذمة(3) .
قلت : ما نراه في أيامنا من الأمان للمسلمين في دار الحرب إنما حصلوا عليه بموجب قانون داخلي لتلك الدولة ، أو معاهدة مع الدولة الإسلامية ، وهو ما يعرف بفيزة دخول تلك الدار ، لا بالأمان الأول أي بإسلام المسلم ، وعقد الذمة للذمي .
وبالنسبة للمتاخمة قال الدكتور محمود أبو الليل(4) : لم يعد اليوم ذا موضوع ، بعد أن أخذ ابن الأرض يتحكم في الأجواء ، بل يتحكم في الفضاء ، ولم يعد القتال يحتاج إلى المتاخمة بفعل اختراع الطائرات النفاثة ، والصواريخ العابرة للقارات ، فيعتبر هذا الشرط باطلاً بحكم الواقع .
قلت : وإن كان الإنسان قد استطاع التحكم في الأجواء وغزو الفضاء ، إلا أنه لا بد من المتاخمة لحسم المعركة والإنطلاق من قاعدة قريبة لتحقيق هذا الأمر ، وكل من له أدنى اطلاع على الأمور والإستراتيجية العسكرية يدرك أن القصف الصاروخي والجوي إنما هو ممهد للحرب البرية ، ولا يمكن حسم المعركة بدونه . وغزو العراق خير شاهد على ذلك ، وهو ليس منّا ببعيد . والله أجل وأعلم وأحكم .
وقال أيضاً : اشتراط أبي حنيفة لهذه الشروط الثلاثة إنما هو خاص بالدار التي كانت في الأصل دار إسلام ، أما البلاد الأخرى التي لم تخضع لسلطان المسلمين فالظاهر أن أبا حنيفة يتفق فيها مع غيره من الفقهاء أنها تكون دار حرب ، ما لم ترتبط بالمسلمين بعهد ، فتكون حينئذ دار عهد(5) .
.................................................. ...........
1. إمامُ الحنفية في الشام - صاحب الحاشية المشهورة - 1748_ 1836 م ،محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن محمد صلاح الدين بن نجم الدّين بن محمد صلاح الدين بن نجم الدين بن كمال بن تقي الدين المدرس بن مصطفى الشهابي بن حسين بن رحمة الله بن أحمد الفاني بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن عبدالله بن عز الدين بن عبدالله بن قاسم بن حسن بن اسماعيل بن حسين النتيف بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأعرج ابن الإمام جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم جميعا.
وعرف المترجم بابن عابدين، وهي شهرة تعود إلى جدّه محمد صلاح الدين الذي أطلق عليه اللقب لصلاحه. انظر لترجمته ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة : فقيه الحنفية محمد أمين عابدين : محمد مطيع الحافظ .
2. قارىء الهداية هو سراج الدين عمر بن علي الحنفي ، وتوفى رحمه الله سنة 773 ، وله تعليقة على الهداية . وجاءت المسألة في فتاويه كالتالي : سئل عن البحر المالح أهو من دار الحرب أم من دار الإسلام ؟ فأجاب : ليس من دار أحد الفريقين لأنه لا قهر لأحد عليه . انظر : فتاوى قارىء الهداية / 78 . دار الفرقان عمّان .
3. انظر : رد المحتار على الدر المختار : 6/ 288 .
4. أسس العلاقات الدولية في الإسلام / 18 . دار المصطفى ، وبنفس قوله قال الدكتور محمود الديك : المعاهدات في الشريعة الإسلامية /65 .
5. المصدر السابق / 19 .
وبهذا القدر كفاية لبيان دار الإسلام ودار الحرب .
ونختم بالقول : أن كل إقليم حكمه المسلمون ، واستقر لهم الحكم فيه لفترة ولو كانت محدودة ، ثم انتقلت السيادة في هذا الإقليم لغيرهم بحيث لم أزيح حكم الإسلام ، وأخرج أهله منه يعتبر داراً إسلامية .
ويعتبر كل حكم قائم عليه بعد ذلك مغتصباً ، ويجب على المسلمين تجميع قوتهم ، وإعداد أبنائهم لاسترداد ما أخذ منهم ، فهو ميراثهم وميراث أجدادهم الذين ضحوا من أجل نشر الإسلام فيه ، كفلسطين الحبيبة ، والأندلس والقوقاز .
فاستقرار الإسلام في مثل هذه البلاد ولو لفترة ، وكذلك وجود المسلمين يكفي لأن يبقى هذا الأقليم تابعاً لدار الإسلام .
وننتقل لبيان مفهوم الرّبا ، الذي يوصلنا بعدها لبيان حكمه في دار الحرب .
الفصل الثاني :
الرِّبا :
عرّف الحنفية الرّبا بأنه(1) : الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه . أي في العقد .
وعلته عندهم : القدر والجنس ، وعنوا بالقدر الكيل في المكيل والوزن في الموزون .
قال في الدّر المختار : هو لغة : مطلق الزيادة .
وشرعاً : (فضل) ولو حكماً فدخل ربا النسيئة والبيوع الفاسدة (خالٍ عن عوض) خرج مسألة صرف الجنس بخلاف جنسه (بمعيار شرعي) وهو الكيل والوزن فليس الذرع والعد بربا (مشروط) ذلك الفضل (لأحد المتعاقدين) أي بائع أو مشتر ، فلو شرط لغيرهما فليس بربا بل بيعاً فاسداً (في المعاوضة) فليس الفضل في الهبة بربا (وعلته) أي علة تحريم الزيادة (القدر) المعهود بكيل أو وزن (مع الجنس فإن وجدا حرم الفضل) أي الزيادة (والنساء) ، وإن عدما حلّا .
يتضح مما سبق من العبارات أنه لو شُرِطَت زيادةٌ في القرض ، ووجب أداؤها على أحد الفريقين ، لكان ربًا وحرامًا ، (كلُ قرض جرّ نفعًا حرام) أي إذا كان مشروطاً .
قال الإمام محمد الحسن بن أحمد الكواكبي في منظومته المسماة : الفرائد السنية(2) :
.................................
1. انظر : تبيين الحقائق : للزيلعي 4/ 85 ، فتح القدير : لابن الهمام 7/ 8 ، رد المحتار على الدر المختار7/398 ، التصحيح والترجيح لابن قطلوبغا/ 231 ، شرح العيني على الكنز2/ 57 ، تحفة الفقهاء للسمرقندي2/ 25 ، فتح باب العناية للقاري 2/ 355 ، الفوائد السميةشرح الفرائد السنية للكواكبي 2/ 38 ، النتف في الفتاوى للسغدي1/ 484 ، الفتاوى الهندية3/ 117 .
2. انظر الفرائد السنية مع شرحها المسمى الفوائد السمية للكواكبي 2/ 38 .
فضل خلا عن عوض مشروط
لواحد من عاقد منوط
بعقده وذاك في المعاوضة
فذلك الربا بلا معاوضة
وعلة التحريم فيه أبدا
القدر والجنس إذا ما وجدا
فكل ما بينهما تجانس
ان فضل الواحد إذ يقايس
شرعاً على الآخر بالمعيار
فهو ربا بذلك المقدار
والكيل والوزن هنا المقدار
فذاك في الشرع هو المعيار
المُعاملات الرَّبوية في دَار الحَرب "
بحث فقهي لبيان مذهب السادة الأحناف في مسألة الرِّبا والمعاملات الفاسدة في دار الحرب
والموازنة بين أقوال أئمة المذهب فيها مع عرض لأدلة كل فريق
وبيان الرأي الراجح فيها وفق قواعد الترجيح المعتبرة
التي نصَّ عليها علماء المذهب
المقدمة :
الحمد الذي بنعمته تتم الصالحات ، والصلاة والسلام على سيدي وقرة عيني ، نور العيون وسراج القلوب ، القائل : " إنّما الأعمال بالنيات " (1) – فأسأله تعالى العلي العظيم أن يكون هذا الجهد خالصاً لوجهه الكريم - ، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى سنته ، وسار على نهجه من الحياة إلى الممات ، سيما أئمتنا الأربعة المتبوعين ، الذين تلقتهم الأمة بالقبول ، أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ، وعلى مقلديهم إلى يوم الدين .
وبعد :
فإن مما لا شكَّ فيه أنَّ موضوع المعاملات الرَّبوية في دار الحرب أخذ يشغل حيزاً كبيراً من تفكير أهل عصرنا ، وكثر السؤال عن حكم التعامل بالربا في دار الحرب ، سيما أن كثيراً من المسلمين قد هاجروا إلى الدول الأوروبية ، ويتساءلون عن حكم وضع أمواهم في بنوك أوروبا الربوية ، وأخذ الفائدة عليها ، وبعضهم يلاقي تشديداً وتضييقاً على حياته هناك ، كارتفاع أسعار الإجارات للبيوت ، فيأخذ قرضاً من بنك ربوي ليشتري منزلاً ، ويُنزل هذه الشدةّ منزلة الضرورة ، فيبيح لنفسه من الحرام مالا يقره عقل ولا دين ، خاصة أن كثيراً من النّاس يطلق على كل دولة أجنبية اسم دار الحرب .
ومن هنا كان لا بدّ من تجلية الأمر ، وبيان حكمه ، وأقوال الفقهاء المتبعين فيه ، خروجاً عن عهدة الحرام ، والتزاماً بقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الحلال بيّن ، وإن الحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات ، لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه" (2) .
لذلك ارتأيت أن يكون موضوع بحثي حول المعاملات الربوية في دار الحرب ، وقد قسمت البحث إلى مقدمة وفصلين وخاتمة .
المقدمة : وتشتمل على سبب اختيار البحث .
الفصل الأول : بينت فيه الفرق بين دار الإسلام ودار الحرب ، وما تصير به دار الإسلام دار حرب .
الفصل الثاني : بينت فيه مفهوم الرِّبا ، وحكم المعاملات الربوية والفاسدة في دار الحرب وأقوال الفقهاء في ذلك .
الخاتمة : ذكرت فيها خلاصة ما مرّ من أقوال الفقهاء ، وما أميل إليه .
.................................................. ..............
1.البخاري/ كتاب بدء الوحي . عن عمر بن الخطاب . حديث رقم 1 ، مسلم/ كتاب الإمارة رقم الحديث 1907 .
2.البخاري/ كتاب الأيمان ، باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52 ، كتاب البيوع رقم 2051 . مسلم/ كتاب المساقاة ، باب أخذ الحلال وترك الشبهات رقم 1599 .
والله أسأل أن أكون قد وفقت لما صبوت لتحقيقه ، فإن أحسنت فمن الله ، وإن كانت الأخرى فمني والشيطان ، وأعوذ بالله من همزه ونفثه ، وأعوذ بالله من الخطل والزلل .
وقبل أن نبدأ لا بدّ من بيان سبب اختيار المذهب الحنفي لدراسة المسألة ؛ وذلك أن جمهور الفقهاء يحرمون الربا سواء في دار الإسلام أو دار الحرب ، وإنما وقع الخلاف بين أئمة المذهب الحنفي ، وهذا ما سنبينه إن شاء الله .
وحتى لا نخرج عمّا أردنا تحقيقه ، وبيانه وتجلية أمره ، نبدأ بالمقصود الأول : دار الإسلام ودار الحرب ، وبيان المقصود من كليهما .
الفصل الاول :
دار الإسلام ودار الحرب :
يرد مصطلح " دار الإسلام " كثيراً في كتب الفقهاء في أبواب السياسة الشرعية ككتب السير والجهاد ، ولعلّ أقدم من استعمل هذه اللفظة سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه في كتابه لأهل الحيرة حيث جاء فيه :
" ... وجعلت لهم أيما شيخ ضعف عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً فافتقر وصار أهل دينه يتصدقون عليه ، طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين(1) وعياله ما أقام بدار الهجرة ودار الإسلام . فإن خرجوا إلى غير دار الهجرة ودار الإسلام فليس على المسلمين النفقة على عيالهم(2) .
وقد عرّف الحنفية دار الإسلام بعدة تعريفات مختلفة في اللفظ متفقة في المعنى نورد بعضها :
قال قاضي خان(3) في شرح الزيادات(4) : ولهذا تصير دار الحرب دار الإسلام بمجرد إجراء الأحكام .
.................................................. ......................
1.أُنفق عليه منه .
2.كتاب الخراج : أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم . المكتبة الأزهرية للتراث 157-158 .
3.الحسن بن منصور بن محمود بن عبد العزيز الأوزجندي الإمام فخر الدين أبو المحاسن قاضيخان الفرغاني الحنفي ، الإمام الكبير والعالم النحرير ، قال اللكنوي : كان إماماً كبيراً وبحراً عميقاً غواصاً في المعاني الدقيقة مجتهداً فهّامة . تفقه على الإمام أبي إسحاق إبراهيم بن إسماعيل بن أبي نصر الصفاري الأنصاري والإمام ظهير الدين أبي الحسن علي بن عبد العزيز المرغيناني ونظام الدين أبي اسحاق إبراهيم بن علي المرغيناني ، وتفقه عليه شمس الأئمة محمد بن عبد الستار الكردري .ذكره ابو المحاسن الحصيري شيخ الإسلام فقال : هو سيدنا القاضي الامام والأستاذ فخر الملّة ركن الإسلام بقية السلف مفتي الشرق . له من المؤلفات الكثير منها : الفتاوى ، شرح الجامع الصغير والكبير للشيباني .توفى رحمه الله سنة 592 . انظر لترجمته : هدية العارفين1/ 280 ، كشف الظنون1 / 165 ، الطبقات السنية3/ 116 ، الجواهر المضية2/ 93 ، مفتاح السعادة2/ 252 ، الفوائد البهية/ 111 ، تاج التراجم/ 151 ، طبقات الحنفية للحنائي/ 237 .
4. 6/2023 . دار إحياء التراث .
وقال الحصكفي(1) في الدّر المختار(2) : ودار الحرب تصير دار الإسلام بإجراء أحكام أهل الإسلام فيها كجمعة وعيد ، وإن بقي فيها كافر أصلي ، وإن لم تتصل بدار الإسلام .
قال في الفتاوى الهندية(3) : اعلم أن دار الحرب تصير دار الإسلام بشرط واحد وهـو إظهار حكم الإسلام فيها . ومثله في إيثار الإنصاف(4) .
وقال ابن مازة رحمه الله بقوله : أجمع العلماء أن دار الحرب عند ظهور المسلمين عليهم دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها على الإشهار(5) .
وقال الشيخ البوطي : هي فيما اتفق عليه أئمة المذاهب الأربعة ، البلدة أو الأرض التي دخلت في منعة المسلمين وسيادتهم بحيث يقدرون على إظهار إسلامهم والامتناع من أعدائهم ، سواء تمّ ذلك بفتح وقتال ، أو بسلم ومصالحة ، أو نحو ذلك .
وقال أيضاً : وقد تختلف عبارات الفقهاء في تعريف دار الإسلام ، ولكنها اختلافات في الصياغة اللفظية فقط . ومدار هذه التعريفات كلها على معنى واحد هو محل اتفاق منهم جميعاً ، وهو أن يمتلك المسلمون السيادة لأنفسهم فوق تلك الأرض ، بحيث يملك كل منهم أن يستعلن فيها بأحكام الإسلام وشعائره .
وهذه السيادة الإسلامية على أرض ما ، هي التي تجعل منها دار إسلام وسيان بعد ذلك أن يكون سكانها مسلمين أو غير مسلمين ، كالبلدة التي فتحها المسلمون وأقروا أهلها عليها بجزية ونحوها(6) .
وعرفها الشيخ عبد الوهاب خلاف بأنها : الدار التي تجري عليها أحكام الإسلام ، ويأمن من فيها بأمان المسلمين ، سواء كانوا مسلمين أو ذميين(7) .
.................................................. ..........................
1.لعلاء الدين محمد بن علي بن محمد الحِصني الأصل الدمشقي الحَصْكَفي " نسبة إلى حصن كيفا ، وهو من ديار بكر ، وحصن كيفا على دجلة بين جزيرة ابن عمر وميافارقين ) الحنفي ، فقيه أصولي محدِّث مفسِّر نَحوي ، ولد بدمشق سنة 1021 . قرأ على محمد أفندي المحاسني ، وارتحل إلى الرَّملة وأخذ عن خير الدين بن أحمد الخطيب ، ودخل القدس وأخذ عن فخر الدّين بن زكريا ، وحجَّ وأخذ في المدينة عن أحمد القشاشي ، وتولى إفتاء الحنفية بدمشق . توفى رحمه الله سنة 1088 ، ودفن بمقبرة الباب الصغير. وله من المؤلفات الكثير منها : إفاضة الأنوار على المنار ، الدر المنتقى شرح الملتقى . انظر : هدية العارفين2/ 295 ، ذيل كشف الظنون1/ 428 ، الأعلام6/ 294 ، معجم المؤلفين11/ 56 .
2.انظر الدر المختار مع حاشية ابن عابدين 6/288 . دار الكتب العلمية .
3. 2/232 . دار الفكر .
4.لسبط ابن الجوزي / 231 .
5.المحيط البرهاني في الفقه النعماني 5/ 114 .
6.الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه / 80 .
7.السياسة الشرعية . نقلاً عن أسس العلاقات الدولية في الإسلام لمحمود أبو الليل/ 13 .
ومن خلال ما مضى من ذكر تعريفات دار الإسلام ، نخلص إلى القول أن محل الاتفاق على دار الإسلام هو خضوعها لأحكام الإسلام وسلطان المسلمين سواء كان سكانها من المسلمين أو غيرهم .
وبالتالي تشمل دار الإسلام كل البلاد التي فتحها المسلمون ، ويستطيعون أن يظهروا أحكام الإسلام من غير مانع من أحد .
دار الحرب :
ذكرنا سابقاً أن دار الحرب تصير دار إسلام بظهور أحكام الإسلام فيها ، وخضوعها لسيادة المسلمين . أما تحول دار الإسلام إلى دار حرب فهذا محل خلاف بين أئمة المذهب من السادة الحنفية ، وبيّنا سابقاً سبب اقتصارنا على مذهب السادة الأحناف لورود الخلاف في مسألتنا الأصلية وهي المعاملات الربوية في دار الحرب في مذهبهم .
قال أبو يوسف ومحمد بن الحسن : أن دار الإسلام تصير دار حرب بشرط واحد لا غير ، وهو إظهار حكم الكفر فيها .
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا تصير دار الإسلام دار حرب إلا بشروط ثلاثة ، وإن غلبوا على دار من دورنا ، أو ارتدّ أهل مصر وغلبوا وأجروا أحكام الكفر ، أو نقض أهل الذمة العهد وتغلبوا على دارهم(1) .
قال ابن مازة رحمه الله(2) : ودار الإسلام عند استيلاء الكفار عليها عندهما (أي أبو يوسف ومحمد) تصير دار حرب بإجراء أحكام الكفر على سبيل الاشتهار ، وعند أبي حنيفة رحمه الله لا تصير دار الحرب إلا بشرائط ثلاثة :
أحدها : إجراء أحكام الكفر على سبيل الإشهار .
والثاني : أن تكون متاخمة بأرض حرب ، أي متصلة لا يتخلل بينهما بلدة من بلاد المسلمين .
والثالث : أن لا يبقى فيها مؤمن آمن على نفسه بإيمانه أو ذمي آمن في نفسه بأمانه الأول ، وهو أمان المسلمين(3) .
.................................................. ..............................
1.انظر : رد المحتار على الدر المختار 6/288 . كتاب الجهاد / باب المستأمن . مطلب فيما تصير به دار الإسلام دار حرب وبالعكس . المحيط البرهاني لابن مازة 5/ 144 ، شرح الزيادات لقاضي خان6/ 2032 باب ما إذا غلب المشركون من أرض المسلمين ثم يظهر عليهم المسلمون ، الفتاوى الهندية 2/ 232 .
2.للإمام برهان الدين محمود بن أحمد بن عبدالعزيز الحنفي المعروف بابن مازه صاحب المحيط ، والمولود سنة 551 والمتوفى رحمه الله سنة 616 . وله العديد من المؤلفات منها : الذخيرة البرهانية ، الواقعات ، شرح الزيادات للشيباني ، الفتاوى البرهانية . انظر لترجمته هدية العارفين2 / 404 ، كشف الظنون1 ، 343 ،الفوائد البهية/ 336 ، الجواهر المضية3/ 42 ، تاج التراجم/ 288 .
3. المحيط البرهاني 5/ 114 .
قال ابن عابدين رحمه الله(1) تعقيباً على الشرط الأول : وظاهره أنه لو أجريت أحكام المسلمين ، وأحكام أهل الشرك لا تكون دار حرب .
وقال تعقيباً على الشرط الثاني : بأن لا يتخلل بينهما بلدة من من بلاد الإسلام ، وظاهره أن البحر ليس فاصلاً ، بل قدمنا في باب استيلاء الكفار أن بحر الملح ملحق بدار الحرب ، خلافاً لما في فتاوى قارىء الهداية(2) .
وقال تعقيباً على الشرط الثالث : أي الذي كان ثابتاً قبل استيلاء الكفار للمسلم بإسلامه ، وللـذمي بعقد الذمة(3) .
قلت : ما نراه في أيامنا من الأمان للمسلمين في دار الحرب إنما حصلوا عليه بموجب قانون داخلي لتلك الدولة ، أو معاهدة مع الدولة الإسلامية ، وهو ما يعرف بفيزة دخول تلك الدار ، لا بالأمان الأول أي بإسلام المسلم ، وعقد الذمة للذمي .
وبالنسبة للمتاخمة قال الدكتور محمود أبو الليل(4) : لم يعد اليوم ذا موضوع ، بعد أن أخذ ابن الأرض يتحكم في الأجواء ، بل يتحكم في الفضاء ، ولم يعد القتال يحتاج إلى المتاخمة بفعل اختراع الطائرات النفاثة ، والصواريخ العابرة للقارات ، فيعتبر هذا الشرط باطلاً بحكم الواقع .
قلت : وإن كان الإنسان قد استطاع التحكم في الأجواء وغزو الفضاء ، إلا أنه لا بد من المتاخمة لحسم المعركة والإنطلاق من قاعدة قريبة لتحقيق هذا الأمر ، وكل من له أدنى اطلاع على الأمور والإستراتيجية العسكرية يدرك أن القصف الصاروخي والجوي إنما هو ممهد للحرب البرية ، ولا يمكن حسم المعركة بدونه . وغزو العراق خير شاهد على ذلك ، وهو ليس منّا ببعيد . والله أجل وأعلم وأحكم .
وقال أيضاً : اشتراط أبي حنيفة لهذه الشروط الثلاثة إنما هو خاص بالدار التي كانت في الأصل دار إسلام ، أما البلاد الأخرى التي لم تخضع لسلطان المسلمين فالظاهر أن أبا حنيفة يتفق فيها مع غيره من الفقهاء أنها تكون دار حرب ، ما لم ترتبط بالمسلمين بعهد ، فتكون حينئذ دار عهد(5) .
.................................................. ...........
1. إمامُ الحنفية في الشام - صاحب الحاشية المشهورة - 1748_ 1836 م ،محمد أمين بن عمر بن عبد العزيز بن أحمد بن عبد الرحيم بن محمد صلاح الدين بن نجم الدّين بن محمد صلاح الدين بن نجم الدين بن كمال بن تقي الدين المدرس بن مصطفى الشهابي بن حسين بن رحمة الله بن أحمد الفاني بن علي بن أحمد بن محمود بن أحمد بن عبدالله بن عز الدين بن عبدالله بن قاسم بن حسن بن اسماعيل بن حسين النتيف بن أحمد بن إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الأعرج ابن الإمام جعفر الصادق ابن محمد الباقر ابن الإمام زين العابدين بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم جميعا.
وعرف المترجم بابن عابدين، وهي شهرة تعود إلى جدّه محمد صلاح الدين الذي أطلق عليه اللقب لصلاحه. انظر لترجمته ومؤلفاته المطبوعة والمخطوطة : فقيه الحنفية محمد أمين عابدين : محمد مطيع الحافظ .
2. قارىء الهداية هو سراج الدين عمر بن علي الحنفي ، وتوفى رحمه الله سنة 773 ، وله تعليقة على الهداية . وجاءت المسألة في فتاويه كالتالي : سئل عن البحر المالح أهو من دار الحرب أم من دار الإسلام ؟ فأجاب : ليس من دار أحد الفريقين لأنه لا قهر لأحد عليه . انظر : فتاوى قارىء الهداية / 78 . دار الفرقان عمّان .
3. انظر : رد المحتار على الدر المختار : 6/ 288 .
4. أسس العلاقات الدولية في الإسلام / 18 . دار المصطفى ، وبنفس قوله قال الدكتور محمود الديك : المعاهدات في الشريعة الإسلامية /65 .
5. المصدر السابق / 19 .
وبهذا القدر كفاية لبيان دار الإسلام ودار الحرب .
ونختم بالقول : أن كل إقليم حكمه المسلمون ، واستقر لهم الحكم فيه لفترة ولو كانت محدودة ، ثم انتقلت السيادة في هذا الإقليم لغيرهم بحيث لم أزيح حكم الإسلام ، وأخرج أهله منه يعتبر داراً إسلامية .
ويعتبر كل حكم قائم عليه بعد ذلك مغتصباً ، ويجب على المسلمين تجميع قوتهم ، وإعداد أبنائهم لاسترداد ما أخذ منهم ، فهو ميراثهم وميراث أجدادهم الذين ضحوا من أجل نشر الإسلام فيه ، كفلسطين الحبيبة ، والأندلس والقوقاز .
فاستقرار الإسلام في مثل هذه البلاد ولو لفترة ، وكذلك وجود المسلمين يكفي لأن يبقى هذا الأقليم تابعاً لدار الإسلام .
وننتقل لبيان مفهوم الرّبا ، الذي يوصلنا بعدها لبيان حكمه في دار الحرب .
الفصل الثاني :
الرِّبا :
عرّف الحنفية الرّبا بأنه(1) : الفضل المستحق لأحد العاقدين في المعاوضة الخالي عن عوض شرط فيه . أي في العقد .
وعلته عندهم : القدر والجنس ، وعنوا بالقدر الكيل في المكيل والوزن في الموزون .
قال في الدّر المختار : هو لغة : مطلق الزيادة .
وشرعاً : (فضل) ولو حكماً فدخل ربا النسيئة والبيوع الفاسدة (خالٍ عن عوض) خرج مسألة صرف الجنس بخلاف جنسه (بمعيار شرعي) وهو الكيل والوزن فليس الذرع والعد بربا (مشروط) ذلك الفضل (لأحد المتعاقدين) أي بائع أو مشتر ، فلو شرط لغيرهما فليس بربا بل بيعاً فاسداً (في المعاوضة) فليس الفضل في الهبة بربا (وعلته) أي علة تحريم الزيادة (القدر) المعهود بكيل أو وزن (مع الجنس فإن وجدا حرم الفضل) أي الزيادة (والنساء) ، وإن عدما حلّا .
يتضح مما سبق من العبارات أنه لو شُرِطَت زيادةٌ في القرض ، ووجب أداؤها على أحد الفريقين ، لكان ربًا وحرامًا ، (كلُ قرض جرّ نفعًا حرام) أي إذا كان مشروطاً .
قال الإمام محمد الحسن بن أحمد الكواكبي في منظومته المسماة : الفرائد السنية(2) :
.................................
1. انظر : تبيين الحقائق : للزيلعي 4/ 85 ، فتح القدير : لابن الهمام 7/ 8 ، رد المحتار على الدر المختار7/398 ، التصحيح والترجيح لابن قطلوبغا/ 231 ، شرح العيني على الكنز2/ 57 ، تحفة الفقهاء للسمرقندي2/ 25 ، فتح باب العناية للقاري 2/ 355 ، الفوائد السميةشرح الفرائد السنية للكواكبي 2/ 38 ، النتف في الفتاوى للسغدي1/ 484 ، الفتاوى الهندية3/ 117 .
2. انظر الفرائد السنية مع شرحها المسمى الفوائد السمية للكواكبي 2/ 38 .
فضل خلا عن عوض مشروط
لواحد من عاقد منوط
بعقده وذاك في المعاوضة
فذلك الربا بلا معاوضة
وعلة التحريم فيه أبدا
القدر والجنس إذا ما وجدا
فكل ما بينهما تجانس
ان فضل الواحد إذ يقايس
شرعاً على الآخر بالمعيار
فهو ربا بذلك المقدار
والكيل والوزن هنا المقدار
فذاك في الشرع هو المعيار