fadilov
16-11-2003, 11:53
كيف نفهم القرآن
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ،
في الحقيقة إنه سؤال ملح للغاية وخطير أيضا إذا لم تراعى أمور كلية عند الإجابة عليه ، ولتوضيح خطورته سنضرب مثالا حيا عليه ،
لقد احتج المعتزلة على أن العاصي مخلد في النار بقول الله تعالى في سورة الجن : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) وبالنسبة لهم فهي آية واضحة لا تحتاج إلى شرح كثير وبالأخص أن الله أكد خلود العصاة بقوله أبدا ، إلا أن أهل السنة يعتبرون هذه الآية متشابهة تحتمل عدة معان من ضمنها أن يكون المقصود من المعصية المعصية في التوحيد وذلك لأن الآية المحكمة تقول :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فبما أنه يغفر ما دون الشرك فلا بد أنه قصد بالمعصية في الآية التي احتج بها المعتزلة الشرك المنافي للتوحيد ، وللوهلة الأولى قد يظن المرء أن كلام أهل السنة منطقي جدا لكن لنحاول أن نقلب الصورة كما يفعل المعتزلة ؛ أي أن نعتبر أن الآية الثانية هي الآية المتشابهة لأنها تحتمل أكثر من معنى ، من ضمنها أن المراد بقول الله ( ما دون ذلك لمن يشاء ) صغائر الذنوب لا الكبائر وذلك مثل قوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) فالسيئات هي ما دون ذلك ، أما كبائر الذنوب فهي المعاصي التي ذكرها الله في الآية الأولى ، والله يخلد بها في نار جهنم لأنها من الشرك الذي لا يغفره الله .
وهكذا تكون الآية المتشابهة عند أهل السنة هي الآية المحكمة عند المعتزلة والعكس صحيح وبهذا سنكون أمام مشكلة وهي كيف سنفهم القرآن ؟ ولماذا فهمه كل فريق على خلاف الآخر ؟
قد يسارع البعض إلى القول بأننا سنفهم القرآن على وفق نصوص السنة ، إلا أن هذا الجواب سيوقعنا في نفس المشكلة بالإضافة إلى مشكلة أخرى ؛ ذلك أن نصوص السنة فيها ذات التعارض ، وتحتمل نفس طريقة التأويل ، فنحن نقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من تجرع سما فسمه في يد يتجرعه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " كما نقرأ أحاديث الشفاعة التي تتكلم عن خروج مرتكبي الكبائر من نار جهنم فكل طرف يستدل بالحديث الذي يؤيد مذهبه ويجعله محكما بينما يأول الحديث الآخر ويجعله متشابها، هذا بالإضافة إلى أن من شروط صحة حديث الآحاد أن لا يخالف الأصول وهذا عند الطرفين، فكيف سنستدل به على شرح الأصول أو إثباتها ! هذه نقطة، بالإضافة إلى أن بإمكان كل فريق إن يضعف الأحاديث التي تخالف مذهبه لأنها أخبار رواها الآحاد من الناس خالفت آيات القرآن التي ظن كل فريق أنها محكمة قطعية في الدلالة ، هذا هو الإشكال الأول حول جعل السنة هي الحاكمة في تحديد ما هو المتشابه وما هو المحكم من القرآن .
أما الإشكال الثاني : فهو أن القرآن نص في غير ما موضع على أنه كتاب هداية وبيان كقوله تعالى :(بلسان عربي مبين) مما يدل على أن القرآن واضح الدلالة لا يحتاج إلى شرح بل يستقل بنفسه في إيصال المعنى الذي أراده؛ وإلا لما كان بينا، وعليه فكيف سنجعل من السنة مبينا للقرآن ، وربما اعترض أحدهم بقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فالرسول – صلى الله عليه وسلم – مبين لما في القرآن، وهذا في حقيقة الأمر زيادة للإشكال وليس حلا له إذ كيف وما هي الحاجة إلى بيان ما هو بين ! وجواب هذا أن السنة تبين ما لم يذكر في القرآن من أحكام كأوقات الصلاة أو عدد الركعات لا أنها تشرح ما هو مبين في القرآن أو أنها تبين أن مراد الله خلاف ما يفهم في ظاهر لغة العرب، وهذا الأخير يلزم منه لا أن يخرج القرآن عن كونه بيانا فقط بل أن يكون كتاب تلبيس وإضلال للأمة –عياذا بالله– إذ إنه أفهم المخاطبين به خلاف مراده ، وهذا الأمر يجب أن يتنزه عنه أفصح الكلام وأبلغه وأحسنه ، وعليه فلا يمكن أن نلجأ إلى السنة في حل هذا الإشكال – أي في معرفة المحكم من المتشابه في القرآن – فما هي الوسائل الأخرى المقترحة ؟
فهم الصحابة ،
في حقيقة الأمر يمكن أن نقبل بهذا الاقتراح في حالة أن أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فهم واحد للمسألة التي تطرح للنقاش ، لكن إذا أتينا إلى واقع الحال فإننا سنصطدم بكثير من المسائل التي لا يعلم لأحد من الصحابة خوض فيها ، فضلا عن أن نثبت الإجماع ، أما في حالة أن علم لبعض الصحابة رضي الله عنهم خوض في المسألة المختلف فيها من غير أن يعلم بينهم خلاف فإن العصمة غير لازمة لهذا البعض وإذا كان الخطأ جائزا عليهم فلا حجة في قولهم.
وهنا سيبقى السؤال قائما وهو كيف سنفهم القرآن هل سنقول كما قالت بعض المتصوفة بأننا سنفهمه بالفيض والإلهام ! فليس لهذا الفيض والإلهام ضابط فيدعي من شاء ما شاء من التفاسير، أم أننا سنفهمه بالقواعد العقلية والمنطقية وعندها لن يستقل القرآن ببناء العقائد بل سيكون تابعا للعقل ، وعندها لن تكون الهداية آتية من القرآن بل من العقل وهذا سيخرج القرآن عن كونه كتاب هداية ، فضلا على أن كثيرا من المسائل ليس للعقل قدرة على الحكم فيها بشكل قاطع كالمسألة المفروضة، إذ يجوز أن يخلد الله العصاة في جهنم كما يجوز أن يخرجهم منها، وعلى أي حال فإن الأدلة العقلية ليست أدلة قطعية لجميع فئات الناس في الإيصال إلى المطلوب، وقد اختلف فيها كبار الفلاسفة والمتكلمين على مر العصور، فضلا على أن العامة لا ينفعهم الدليل العقلي بل الوعظ والخطابة، وهذا أمر يمكن للجاهل أن يتقنه أكثر من العالم، وخير أحوال العامة أن يكونوا تبعا للعلماء المختلفين اختلاف تضاد لا تنوع.
فكيف سيفهم القرآن ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال أحب أن أشير إلى نقطة مهمة ، وهي أن الإشكال المطروح يحوي إشكالا آخر ، وهو أن القرآن يحمل حكمين في ذات المسألة أي أنه بناءا على آليات فهم الخطاب التي ناقشناها سيبدو أن في القرآن تعارضا ظاهريا وهو ما لا يمكن وجوده في خطاب الله ، وهذا سينقلنا إلى سؤال آخر وهو : هل يمكن أن يحمل القرآن حكمين على ذات المسألة من غير أن يكون فيه اختلاف! قبل الإجابة عن السؤال المطروح دعونا نطرح سؤالا آخر وهو : إذا كان النص واحدا فلماذا اختلفت الفرق في فهمه ؟
إن آليات فهم النص تتحدد بعدة أمور منها الثقافة التي فهم القارئ النص من خلالها بالإضافة إلى نفسية القارئ التي تتعامل مع النص ثم طبيعة النص ذاته ، فعلى سبيل المثال الثقافة التي يبرز فيها مفهوم الظلم المفتعل من قبل أصحاب السلطة سيؤدي بالضرورة إلى إفراز نمطين من الناس من يعاني من هذا الظلم ومن يؤيده وفي حالة أن كان الطرفان يستندان إلى مرجعية واحدة فإن كل فريق سيحاول أن يجد في هذه المرجعية ما يدعم موقفه ، وسيقرأ في النص رأيه هو ، وقد يقرأ بعض من يتعرض للظلم الرأي المقابل إذا اشتد الظلم عليه لتبرير استكانته وتخاذله ، وفي المسألة المفروضة فإن الطرف الذي يشعر بقسوة الظلم سيسترعي انتباهه النص الذي يتكلم عن تخليد مرتكب المعاصي في النار أكثر من غيره من النصوص وسيصبح – حتى ينسجم شعوره مع النص المقدس الذي يؤمن به – هو النص الأصلي البارز الذي تفهم من خلاله كل النصوص الأخرى ، إن هذا النص اللغوي تتجسد دلالاته اللغوية الظاهرة بعمق كبير في واقع هذا المخاطب ، بينما سنجد الطرف الآخر تسترعيه النصوص التي تهون له من شأن فعلته إذ إنها تشكل مبررا لممارساته يقنع به نفسه ويستغله في إقناع الآخرين جنبا إلى جنب مع القمع الذي يمارسه ضدهم وعندها سيصبح النص – عند بعض أفراد الطرف المقابل - كما ذكرنا مبررا للاستكانة والتخاذل.
هذا بالنسبة إلى العامل الأول مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الثقافة ستفرز داخل هذين النوعين أنواعا أخرى كثيرة تميل في أصل فكرتها إلى أحد الطرفين على وفق العامل الثاني وهو الحالة النفسية للمخاطب فإذا كان المخاطب ذا طبيعة قاسية عابدة حادة متسرعة أو فلنقل متفجرة فإنه سيتفاعل مع النصوص التي تحمل في دلالاتها هذا الطبع أكثر من تفاعله مع النصوص الأخرى، بينما سنجد الإنسان الرقيق الهادئ الذي ربي على اللين والرفق والرحمة ستسترعي انتباهه النصوص التي تحوي في طياتها هذه المعاني جاعلا منها نصوصا محكمة فهو يجسدها لا في سلوكه فقط بل في شعوره كذلك .
إلا أني لا أقصد إهمال دور النص وهنا تأتي المسألة الثالثة وهي قصدية النص .
إن النص القرآني بل أي نص يستطيع أن يدلل على المعنى المحدد الذي أراده ( هذا على فرض وجود معنى محدد مراد للنص ) وذلك باجتناب ذكر ما قد يوهم خلاف المراد وتحديد المعنى المراد بشكل أكبر - هذا بشكل عام – إلا أن النص القرآني وكما رأينا تعرض لتأويلات مختلفة جعلته يظهر وكأنه فقد صفة البيان التي نسبها لنفسه إلا أننا سنلاحظ أن هذا الأمر قد حدث عندما خرج النص عن الإطار الثقافي والجو النفسي الذي كان يعيشه من يشاهد ويعايش أسباب التنزيل ، لذا فإن دلالات النص القرآني كانت تحتمل معنا واحدا محددا عند المخاطبين به في وقت نزوله - هذا في الجملة – وكان القرآن بينا لهم فإذا أردنا أن نفهم القرآن فعلينا أن نفهمه من خلال الثقافة والجو الذي نزل فيه، لكن فهم الثقافة أمر يحتاج لا إلى القراءة عنها فقط بل إلى العيش فيها أيضا حتى يدرك لا مجرد العادات والتقاليد بل مقدار عمقها في المجتمع ، والقراءة لوحدها لن تفي بهذا الغرض ، هذا بالإضافة إلى أن فهم النص المقروء عن تلك الثقافة سيتم من خلال ثقافتنا نحن – أي سيخضع دون قصد منا إلى تأويلاتنا كما خضع النص الديني- ، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك أن أسباب النزول لمعظم النصوص مجهولة ، فضلا عن شعور المخاطبين بسبب النزول ومقدار تأثرهم به ، وإذا كان الوصول إلى مثل هذا متعذرا فإن الوصول إلى مراد الله متعذر؛ وبالتالي فستكون النتيجة عند البعض أن النص القرآني نص للمخاطبين به فقط لا يصلح لكل زمان لاستحالة الوصول إلى المراد منه .
إلا أن الطرح الذي يتكلم عن ديمومة الشريعة بوصفه أمرا مسلما وحقيقة راسخة يستدل على خطأ هذا التحليل بمخالفته لحقيقة ديمومة الشريعة وبقائها القطعية - برأيه - التي دلت عليها النصوص دلالة واضحة ، ومارسها الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، بينما يعتبر من يؤيد هذا التحليل أن عدم تعارض القرآن أمر مقطوع به وأن مراده الدلالة على معنا واحد كذلك وهذا لا يمكن أن يكون إذا قلنا بديمومة الشريعة، أي أن كل فريق استند إلى مسلمة جعلها أساسا لآليات تعامله مع النص، وأهدر المسلمة الأخرى.
وهنا خرج فريق ثالث قال بديمومة النص ولكن بتعدد دلالاته على وفق المخاطب وثقافته ، هذا الطرف اعتبر ديمومة الشريعة أمرا مقطوعا به كما أنه اعتبر عدم تعارض القرآن كذلك ، إلا أنه ذهب إلى أن النص لا يحمل دلالة واحدة، وهنا أثير إشكال حول هذا الفهم وهو: كيف يمكن لنص أن يحمل عدة آراء لنفس المسألة من غير أن يكون متعارضا مع نفسه !
يمكن أن يقال إن النص لا يمكن أن ينفك عن قارئه في دلالته إذ من غير اعتبار وجود المرسل إليه ما حاجة الرسالة! لذا فإن دلالة النص للقارئ الواحد ستتم من خلال ثقافة ذلك القارئ ونفسيته وستفسر النصوص التي تتعارض في ظاهرها مع هذه الثقافة بطريقة يزول فيها هذا التعارض ، وعندها لن تكون النصوص متعارضة فيما بينها بالنسبة لهذا القارئ ، وهكذا سيكون النص نصا قادرا على مواكبة تغير الثقافات والنفسيات المختلفة ويكتب له الخلود في أحكامه ، وقد يذهب بعض من يتبنى هذا الرأي إلى القول بأن في هذا دلالة على إعجاز القرآن من حيث أنه استطاع البقاء مع تغير الأزمان والأماكن.
إن هذا الرأي وإن كان يحمل حلولا لبعض المشاكل إلا أنه يواجه بدوره ثغرات أخرى إذ إن تحكم الثقافة في فهم النص الديني سيهدر قيمته وفائدته ، وسيجرد النص من هدفه التغييري الذي أنزل من أجله ، وبعبارة أخرى سيصبح النص جزأ من الثقافة مفعولا فيه بدلا من أن يكون فاعلا فيها مغيرا لها كما هو معلوم ضرورة من حال النص مع الجاهلية .
وهنا جاء من قيد فهم الثقافة للنص بقيود شرعية لا يجوز للثقافة مع تغيرها أن تتعداها ، وبالطبع فإن هذه القيود ليست نصوصا جزئية وإلا فإنها ستخضع بدورها إلى ما يخضع له أي نص لغوي من تغير دلالته باختلاف الثقافات وقراءته من خلال شخصية القارئ ، إن هذه القيود هي كليات الشريعة التي تضافرت النصوص على إثباتها وقام عليها الدليل العقلي الفطري فضلا عن نقلها نقلا يغني عن إثباتها ، ومحاولة السؤال عن دليل جزئي عليها أشبه بمحاولة السؤال عن الأمور البدهية كالسؤال عن دليل وجود شخص اسمه محمد –صلى الله عليه وسلم- قال إنه رسول من الله، نعم قد تحتاج آحاد الكليات إلى من يبين أنها على هذا القدر من الوضوح ، أو فلنقل على بيان أنها كلية، وهذا لا ضير فيه.
يمكننا أن نختصر هذه الكليات في كلية واحدة وهي "تحقيق مصالح العباد، ورفع الظلم والحرج عنهم" وبهذه الكلية سيتحقق مقصد الشريعة الذي عبر عنه الشاطبي بقوله : "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما أنه عبد لله اضطرارا" وهو معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله.
نعم يلزم من هذا الحل أن تفقد النصوص الجزئية قيمتها الدلالية الفردية، وتراعى الأمور الكلية؛ لا لأن الكلي يلغي الجزئي إذ لا تعارض بينهما أصلا، ولكن لأن الجزئي مرتبط بالواقع المعاش وبطبيعة المخاطبين به مباشرة، وبهذا يمكن أن نحل التعارض الظاهري فيما يبدو لنا بين آيات القرآن كالمسألة المطروحة إذ تحمل كل آية على مخاطبتها لحالة معينة تريد الآية تحقيق التوازن فيها ابتغاء جلب مصلحة أو دفع مفسدة محققة بذلك مقصد الشريعة، هذه الآية التي ستؤدي إلى نوع تلبيس أو إضلال للمخاطب إذا أهدرنا كونها دليلا جزئيا.
قد تتداخل هذه التيارات فيما بينها وبالأخص عند تنزيلها على الواقع، وربما كان ذلك لعدم وجود أصول واضحة عند كثير ممن ينتسب إلى أي منها ، لكنني عرضتها منفصلة ذاكرا أدلتها الكلية على فلسفاتها من غير الدخول في الأدلة الجزئية ، وإن كان في المسألة كلام كثير لا حاجة لذكره إذ مقصود هذه المقالة رسم الخطوط العريضة في المسألة المطروحة، ومن أراد التحقيق حققنا معه.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه ،
في الحقيقة إنه سؤال ملح للغاية وخطير أيضا إذا لم تراعى أمور كلية عند الإجابة عليه ، ولتوضيح خطورته سنضرب مثالا حيا عليه ،
لقد احتج المعتزلة على أن العاصي مخلد في النار بقول الله تعالى في سورة الجن : (ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا) وبالنسبة لهم فهي آية واضحة لا تحتاج إلى شرح كثير وبالأخص أن الله أكد خلود العصاة بقوله أبدا ، إلا أن أهل السنة يعتبرون هذه الآية متشابهة تحتمل عدة معان من ضمنها أن يكون المقصود من المعصية المعصية في التوحيد وذلك لأن الآية المحكمة تقول :( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) فبما أنه يغفر ما دون الشرك فلا بد أنه قصد بالمعصية في الآية التي احتج بها المعتزلة الشرك المنافي للتوحيد ، وللوهلة الأولى قد يظن المرء أن كلام أهل السنة منطقي جدا لكن لنحاول أن نقلب الصورة كما يفعل المعتزلة ؛ أي أن نعتبر أن الآية الثانية هي الآية المتشابهة لأنها تحتمل أكثر من معنى ، من ضمنها أن المراد بقول الله ( ما دون ذلك لمن يشاء ) صغائر الذنوب لا الكبائر وذلك مثل قوله تعالى: ( إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ) فالسيئات هي ما دون ذلك ، أما كبائر الذنوب فهي المعاصي التي ذكرها الله في الآية الأولى ، والله يخلد بها في نار جهنم لأنها من الشرك الذي لا يغفره الله .
وهكذا تكون الآية المتشابهة عند أهل السنة هي الآية المحكمة عند المعتزلة والعكس صحيح وبهذا سنكون أمام مشكلة وهي كيف سنفهم القرآن ؟ ولماذا فهمه كل فريق على خلاف الآخر ؟
قد يسارع البعض إلى القول بأننا سنفهم القرآن على وفق نصوص السنة ، إلا أن هذا الجواب سيوقعنا في نفس المشكلة بالإضافة إلى مشكلة أخرى ؛ ذلك أن نصوص السنة فيها ذات التعارض ، وتحتمل نفس طريقة التأويل ، فنحن نقرأ قول الرسول صلى الله عليه وسلم :" من تجرع سما فسمه في يد يتجرعه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " كما نقرأ أحاديث الشفاعة التي تتكلم عن خروج مرتكبي الكبائر من نار جهنم فكل طرف يستدل بالحديث الذي يؤيد مذهبه ويجعله محكما بينما يأول الحديث الآخر ويجعله متشابها، هذا بالإضافة إلى أن من شروط صحة حديث الآحاد أن لا يخالف الأصول وهذا عند الطرفين، فكيف سنستدل به على شرح الأصول أو إثباتها ! هذه نقطة، بالإضافة إلى أن بإمكان كل فريق إن يضعف الأحاديث التي تخالف مذهبه لأنها أخبار رواها الآحاد من الناس خالفت آيات القرآن التي ظن كل فريق أنها محكمة قطعية في الدلالة ، هذا هو الإشكال الأول حول جعل السنة هي الحاكمة في تحديد ما هو المتشابه وما هو المحكم من القرآن .
أما الإشكال الثاني : فهو أن القرآن نص في غير ما موضع على أنه كتاب هداية وبيان كقوله تعالى :(بلسان عربي مبين) مما يدل على أن القرآن واضح الدلالة لا يحتاج إلى شرح بل يستقل بنفسه في إيصال المعنى الذي أراده؛ وإلا لما كان بينا، وعليه فكيف سنجعل من السنة مبينا للقرآن ، وربما اعترض أحدهم بقوله تعالى : (وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم) فالرسول – صلى الله عليه وسلم – مبين لما في القرآن، وهذا في حقيقة الأمر زيادة للإشكال وليس حلا له إذ كيف وما هي الحاجة إلى بيان ما هو بين ! وجواب هذا أن السنة تبين ما لم يذكر في القرآن من أحكام كأوقات الصلاة أو عدد الركعات لا أنها تشرح ما هو مبين في القرآن أو أنها تبين أن مراد الله خلاف ما يفهم في ظاهر لغة العرب، وهذا الأخير يلزم منه لا أن يخرج القرآن عن كونه بيانا فقط بل أن يكون كتاب تلبيس وإضلال للأمة –عياذا بالله– إذ إنه أفهم المخاطبين به خلاف مراده ، وهذا الأمر يجب أن يتنزه عنه أفصح الكلام وأبلغه وأحسنه ، وعليه فلا يمكن أن نلجأ إلى السنة في حل هذا الإشكال – أي في معرفة المحكم من المتشابه في القرآن – فما هي الوسائل الأخرى المقترحة ؟
فهم الصحابة ،
في حقيقة الأمر يمكن أن نقبل بهذا الاقتراح في حالة أن أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فهم واحد للمسألة التي تطرح للنقاش ، لكن إذا أتينا إلى واقع الحال فإننا سنصطدم بكثير من المسائل التي لا يعلم لأحد من الصحابة خوض فيها ، فضلا عن أن نثبت الإجماع ، أما في حالة أن علم لبعض الصحابة رضي الله عنهم خوض في المسألة المختلف فيها من غير أن يعلم بينهم خلاف فإن العصمة غير لازمة لهذا البعض وإذا كان الخطأ جائزا عليهم فلا حجة في قولهم.
وهنا سيبقى السؤال قائما وهو كيف سنفهم القرآن هل سنقول كما قالت بعض المتصوفة بأننا سنفهمه بالفيض والإلهام ! فليس لهذا الفيض والإلهام ضابط فيدعي من شاء ما شاء من التفاسير، أم أننا سنفهمه بالقواعد العقلية والمنطقية وعندها لن يستقل القرآن ببناء العقائد بل سيكون تابعا للعقل ، وعندها لن تكون الهداية آتية من القرآن بل من العقل وهذا سيخرج القرآن عن كونه كتاب هداية ، فضلا على أن كثيرا من المسائل ليس للعقل قدرة على الحكم فيها بشكل قاطع كالمسألة المفروضة، إذ يجوز أن يخلد الله العصاة في جهنم كما يجوز أن يخرجهم منها، وعلى أي حال فإن الأدلة العقلية ليست أدلة قطعية لجميع فئات الناس في الإيصال إلى المطلوب، وقد اختلف فيها كبار الفلاسفة والمتكلمين على مر العصور، فضلا على أن العامة لا ينفعهم الدليل العقلي بل الوعظ والخطابة، وهذا أمر يمكن للجاهل أن يتقنه أكثر من العالم، وخير أحوال العامة أن يكونوا تبعا للعلماء المختلفين اختلاف تضاد لا تنوع.
فكيف سيفهم القرآن ؟
قبل أن نجيب على هذا السؤال أحب أن أشير إلى نقطة مهمة ، وهي أن الإشكال المطروح يحوي إشكالا آخر ، وهو أن القرآن يحمل حكمين في ذات المسألة أي أنه بناءا على آليات فهم الخطاب التي ناقشناها سيبدو أن في القرآن تعارضا ظاهريا وهو ما لا يمكن وجوده في خطاب الله ، وهذا سينقلنا إلى سؤال آخر وهو : هل يمكن أن يحمل القرآن حكمين على ذات المسألة من غير أن يكون فيه اختلاف! قبل الإجابة عن السؤال المطروح دعونا نطرح سؤالا آخر وهو : إذا كان النص واحدا فلماذا اختلفت الفرق في فهمه ؟
إن آليات فهم النص تتحدد بعدة أمور منها الثقافة التي فهم القارئ النص من خلالها بالإضافة إلى نفسية القارئ التي تتعامل مع النص ثم طبيعة النص ذاته ، فعلى سبيل المثال الثقافة التي يبرز فيها مفهوم الظلم المفتعل من قبل أصحاب السلطة سيؤدي بالضرورة إلى إفراز نمطين من الناس من يعاني من هذا الظلم ومن يؤيده وفي حالة أن كان الطرفان يستندان إلى مرجعية واحدة فإن كل فريق سيحاول أن يجد في هذه المرجعية ما يدعم موقفه ، وسيقرأ في النص رأيه هو ، وقد يقرأ بعض من يتعرض للظلم الرأي المقابل إذا اشتد الظلم عليه لتبرير استكانته وتخاذله ، وفي المسألة المفروضة فإن الطرف الذي يشعر بقسوة الظلم سيسترعي انتباهه النص الذي يتكلم عن تخليد مرتكب المعاصي في النار أكثر من غيره من النصوص وسيصبح – حتى ينسجم شعوره مع النص المقدس الذي يؤمن به – هو النص الأصلي البارز الذي تفهم من خلاله كل النصوص الأخرى ، إن هذا النص اللغوي تتجسد دلالاته اللغوية الظاهرة بعمق كبير في واقع هذا المخاطب ، بينما سنجد الطرف الآخر تسترعيه النصوص التي تهون له من شأن فعلته إذ إنها تشكل مبررا لممارساته يقنع به نفسه ويستغله في إقناع الآخرين جنبا إلى جنب مع القمع الذي يمارسه ضدهم وعندها سيصبح النص – عند بعض أفراد الطرف المقابل - كما ذكرنا مبررا للاستكانة والتخاذل.
هذا بالنسبة إلى العامل الأول مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الثقافة ستفرز داخل هذين النوعين أنواعا أخرى كثيرة تميل في أصل فكرتها إلى أحد الطرفين على وفق العامل الثاني وهو الحالة النفسية للمخاطب فإذا كان المخاطب ذا طبيعة قاسية عابدة حادة متسرعة أو فلنقل متفجرة فإنه سيتفاعل مع النصوص التي تحمل في دلالاتها هذا الطبع أكثر من تفاعله مع النصوص الأخرى، بينما سنجد الإنسان الرقيق الهادئ الذي ربي على اللين والرفق والرحمة ستسترعي انتباهه النصوص التي تحوي في طياتها هذه المعاني جاعلا منها نصوصا محكمة فهو يجسدها لا في سلوكه فقط بل في شعوره كذلك .
إلا أني لا أقصد إهمال دور النص وهنا تأتي المسألة الثالثة وهي قصدية النص .
إن النص القرآني بل أي نص يستطيع أن يدلل على المعنى المحدد الذي أراده ( هذا على فرض وجود معنى محدد مراد للنص ) وذلك باجتناب ذكر ما قد يوهم خلاف المراد وتحديد المعنى المراد بشكل أكبر - هذا بشكل عام – إلا أن النص القرآني وكما رأينا تعرض لتأويلات مختلفة جعلته يظهر وكأنه فقد صفة البيان التي نسبها لنفسه إلا أننا سنلاحظ أن هذا الأمر قد حدث عندما خرج النص عن الإطار الثقافي والجو النفسي الذي كان يعيشه من يشاهد ويعايش أسباب التنزيل ، لذا فإن دلالات النص القرآني كانت تحتمل معنا واحدا محددا عند المخاطبين به في وقت نزوله - هذا في الجملة – وكان القرآن بينا لهم فإذا أردنا أن نفهم القرآن فعلينا أن نفهمه من خلال الثقافة والجو الذي نزل فيه، لكن فهم الثقافة أمر يحتاج لا إلى القراءة عنها فقط بل إلى العيش فيها أيضا حتى يدرك لا مجرد العادات والتقاليد بل مقدار عمقها في المجتمع ، والقراءة لوحدها لن تفي بهذا الغرض ، هذا بالإضافة إلى أن فهم النص المقروء عن تلك الثقافة سيتم من خلال ثقافتنا نحن – أي سيخضع دون قصد منا إلى تأويلاتنا كما خضع النص الديني- ، فكيف إذا أضفنا إلى ذلك أن أسباب النزول لمعظم النصوص مجهولة ، فضلا عن شعور المخاطبين بسبب النزول ومقدار تأثرهم به ، وإذا كان الوصول إلى مثل هذا متعذرا فإن الوصول إلى مراد الله متعذر؛ وبالتالي فستكون النتيجة عند البعض أن النص القرآني نص للمخاطبين به فقط لا يصلح لكل زمان لاستحالة الوصول إلى المراد منه .
إلا أن الطرح الذي يتكلم عن ديمومة الشريعة بوصفه أمرا مسلما وحقيقة راسخة يستدل على خطأ هذا التحليل بمخالفته لحقيقة ديمومة الشريعة وبقائها القطعية - برأيه - التي دلت عليها النصوص دلالة واضحة ، ومارسها الصحابة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ، بينما يعتبر من يؤيد هذا التحليل أن عدم تعارض القرآن أمر مقطوع به وأن مراده الدلالة على معنا واحد كذلك وهذا لا يمكن أن يكون إذا قلنا بديمومة الشريعة، أي أن كل فريق استند إلى مسلمة جعلها أساسا لآليات تعامله مع النص، وأهدر المسلمة الأخرى.
وهنا خرج فريق ثالث قال بديمومة النص ولكن بتعدد دلالاته على وفق المخاطب وثقافته ، هذا الطرف اعتبر ديمومة الشريعة أمرا مقطوعا به كما أنه اعتبر عدم تعارض القرآن كذلك ، إلا أنه ذهب إلى أن النص لا يحمل دلالة واحدة، وهنا أثير إشكال حول هذا الفهم وهو: كيف يمكن لنص أن يحمل عدة آراء لنفس المسألة من غير أن يكون متعارضا مع نفسه !
يمكن أن يقال إن النص لا يمكن أن ينفك عن قارئه في دلالته إذ من غير اعتبار وجود المرسل إليه ما حاجة الرسالة! لذا فإن دلالة النص للقارئ الواحد ستتم من خلال ثقافة ذلك القارئ ونفسيته وستفسر النصوص التي تتعارض في ظاهرها مع هذه الثقافة بطريقة يزول فيها هذا التعارض ، وعندها لن تكون النصوص متعارضة فيما بينها بالنسبة لهذا القارئ ، وهكذا سيكون النص نصا قادرا على مواكبة تغير الثقافات والنفسيات المختلفة ويكتب له الخلود في أحكامه ، وقد يذهب بعض من يتبنى هذا الرأي إلى القول بأن في هذا دلالة على إعجاز القرآن من حيث أنه استطاع البقاء مع تغير الأزمان والأماكن.
إن هذا الرأي وإن كان يحمل حلولا لبعض المشاكل إلا أنه يواجه بدوره ثغرات أخرى إذ إن تحكم الثقافة في فهم النص الديني سيهدر قيمته وفائدته ، وسيجرد النص من هدفه التغييري الذي أنزل من أجله ، وبعبارة أخرى سيصبح النص جزأ من الثقافة مفعولا فيه بدلا من أن يكون فاعلا فيها مغيرا لها كما هو معلوم ضرورة من حال النص مع الجاهلية .
وهنا جاء من قيد فهم الثقافة للنص بقيود شرعية لا يجوز للثقافة مع تغيرها أن تتعداها ، وبالطبع فإن هذه القيود ليست نصوصا جزئية وإلا فإنها ستخضع بدورها إلى ما يخضع له أي نص لغوي من تغير دلالته باختلاف الثقافات وقراءته من خلال شخصية القارئ ، إن هذه القيود هي كليات الشريعة التي تضافرت النصوص على إثباتها وقام عليها الدليل العقلي الفطري فضلا عن نقلها نقلا يغني عن إثباتها ، ومحاولة السؤال عن دليل جزئي عليها أشبه بمحاولة السؤال عن الأمور البدهية كالسؤال عن دليل وجود شخص اسمه محمد –صلى الله عليه وسلم- قال إنه رسول من الله، نعم قد تحتاج آحاد الكليات إلى من يبين أنها على هذا القدر من الوضوح ، أو فلنقل على بيان أنها كلية، وهذا لا ضير فيه.
يمكننا أن نختصر هذه الكليات في كلية واحدة وهي "تحقيق مصالح العباد، ورفع الظلم والحرج عنهم" وبهذه الكلية سيتحقق مقصد الشريعة الذي عبر عنه الشاطبي بقوله : "المقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبدا لله اختيارا كما أنه عبد لله اضطرارا" وهو معنى كلمة التوحيد لا إله إلا الله.
نعم يلزم من هذا الحل أن تفقد النصوص الجزئية قيمتها الدلالية الفردية، وتراعى الأمور الكلية؛ لا لأن الكلي يلغي الجزئي إذ لا تعارض بينهما أصلا، ولكن لأن الجزئي مرتبط بالواقع المعاش وبطبيعة المخاطبين به مباشرة، وبهذا يمكن أن نحل التعارض الظاهري فيما يبدو لنا بين آيات القرآن كالمسألة المطروحة إذ تحمل كل آية على مخاطبتها لحالة معينة تريد الآية تحقيق التوازن فيها ابتغاء جلب مصلحة أو دفع مفسدة محققة بذلك مقصد الشريعة، هذه الآية التي ستؤدي إلى نوع تلبيس أو إضلال للمخاطب إذا أهدرنا كونها دليلا جزئيا.
قد تتداخل هذه التيارات فيما بينها وبالأخص عند تنزيلها على الواقع، وربما كان ذلك لعدم وجود أصول واضحة عند كثير ممن ينتسب إلى أي منها ، لكنني عرضتها منفصلة ذاكرا أدلتها الكلية على فلسفاتها من غير الدخول في الأدلة الجزئية ، وإن كان في المسألة كلام كثير لا حاجة لذكره إذ مقصود هذه المقالة رسم الخطوط العريضة في المسألة المطروحة، ومن أراد التحقيق حققنا معه.