المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : إرشاد النحرير لترجيحات الامام ابن جرير



الصفحات : 1 2 [3] 4 5

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:22
وأولـى القراءات فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه { أمَرْنا مُتْرَفِـيها } بقصر الألف من أمرنا وتـخفـيف الـميـم منها، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى تصويبها دون غيرها.

وإذا كان ذلك هو الأولـى بـالصواب بـالقراءة، فأولـى التأويلات به تأويـل من تأوّله: أمرنا أهلها بـالطاعة فعصوا وفسقوا فـيها، فحقّ علـيهم القول: لأن الأغلب من معنى أمرنا: الأمر، الذي هو خلاف النهي دون غيره، وتوجيه معانـي كلام الله جلّ ثناؤه إلـى الأشهر الأعرف من معانـيه، أولـى ما وجد إلـيه سبـيـل من غيره.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:31
وأولـى القراءتـين بـالصواب عندي فـي ذلك، قراءة من قرأه { إما يَبْلُغَنَّ } علـى التوحيد علـى أنه خبر عن أحدهما، لأن الـخبر عن الأمر بـالإحسان فـي الوالدين، قد تناهى عند قوله { وَبـالوَالِدَيْنِ إحْساناً } ثم ابتدأ قوله { إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما أوْ كِلاهُما }...

والذي هو أولـى بـالصحة عندي فـي قراءة ذلك، قراءة من قرأه: «فلا تَقُلْ لَهُما أُفِّ» بكسر الفـاء بغير تنوين لعلَّتـين إحداهما: أنها أشهر اللغات فـيها وأفصحها عند العرب والثانـية: أن حظّ كلّ ما لـم يكن له معرَب من الكلام السكون فلـما كان ذلك كذلك. وكانت الفـاء فـي أفّ حظها الوقوف، ثم لـم يكن إلـى ذلك سبـيـل لاجتـماع الساكنـين فـيه، وكان حكم الساكن إذا حُرّك أن يحرّك إلـى الكسر حرّكت إلـى الكسر، كما قـيـل: مُدِّ وشُدِّ ورُدِّ البـاب...

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:36
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: الأوّاب: هو التائب من الذنب، الراجع من معصية الله إلـى طاعته، ومـما يكرهه إلـى ما يرضاه، لأن الأوّاب إنـما هو فعَّال، من قول القائل: آب فلان من كذا إما من سفره إلـى منزله، أو من حال إلـى حال، كما قال عبَـيد بن الأبرص:
وكُلُّ ذِي غَيْبَةٍ يَئُوبُ وغائِبُ الـمَوْتِ لا يَئُوبُ
فهو يئوب أوبـاً، وهو رجل آئب من سفره، وأوّاب من ذنوبه.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:39
وقال آخرون: بل عنى به قرابه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسدي، قال: ثنا إسماعيـل بن أبـان، قال: ثنا الصبـاح بن يحيى الـمَزنـيّ، عن السُّديّ، عن أبـي الديـلـم، قال: قال علـيّ بن الـحسين علـيهما السلام لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم، قال: أفما قرأت فـي بنـي إسرائيـل { وآتِ ذَا القُرْبى حَقَّهُ } قال: وإنكم للقْرابة التـي أمر الله جلّ ثناؤه أن يُؤتـي حقه؟ قال: نعم.

وأولـى التأويـلـين عندي بـالصواب، تأويـل من تأوّل ذلك أنها بـمعنى وصية الله عبـاده بصلة قرابـات أنفسهم وأرحامهم من قِبَل آبـائهم وأمهاتهم، وذلك أن الله عزّ وجلّ عَقَّب ذلك عقـيب حَضّه عبـاده علـى بر الآبـاء والأمَّهات، فـالواجب أن يكون ذلك حَضًّا علـى صلة أنسابهم دون أنساب غيرهم التـي لـم يجر لها ذكر. وإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: وأعط يا مـحمد ذا قرابتك حقه من صلتك إياه، وبرّك به، والعطف علـيه. وخرج ذلك مَخْرج الـخطاب لنبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، والـمراد بحكمه جميع من لزمته فرائض الله، يدلّ علـى ذلك ابتداؤه الوصية بقوله جلّ ثناؤه:
{ وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ وَبـالوَالِدَيْنِ إحْساناً إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الكِبَرَ أحَدُهُما }
فوجَّه الـخطاب بقوله
{ وَقَضَى رَبُّكَ }
إلـى نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال
{ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ }
فرجع بـالـخطاب به إلـى الـجميع، ثم صرف الـخطاب بقوله
{ إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ }
إلـى إفراده به. والـمعنـيّ بكل ذلك جميع من لزمته فرائض الله عزّ وجلّ، أفرد بـالـخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، أو عمّ به هو وجميع أمته....

وقوله { وَابْنَ السَّبِـيـلِ } يعنـي: الـمسافر الـمنقطع به، يقول تعالـى: وصِل قرابتك، فأعطه حقه من صلتك إياه، والـمسكين ذا الـحاجة، والـمـجتاز بك الـمنقطع به، فأعنه، وقوّه علـى قطع سفره. وقد قـيـل: إنـما عنى بـالأمر بإتـيان ابن السبـيـل حقه أن يضاف ثلاثة أيام.

والقول الأوّل عندي أولـى بـالصواب، لأن الله تعالـى لـم يخصُصْ من حقوقه شيئاً دون شيء فـي كتابه، ولا علـى لسان رسوله، فذلك عامّ فـي كلّ حقّ له أن يُعطاه من ضيافة أو حمولة أو مَعُونة علـى سفره...

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:44
وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:

حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وإمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُم } عن هؤلاء الذين أوصيناك بهم { ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجوها } إذا خشيت إن أعطيتهم، أن يتقوّوا بها علـى معاصي الله عزّ وجلّ، ويستعينوا بها علـيها، فرأيت أن تـمنعهم خيرا، فإذا سألوك { فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً } قولاً جميلاً: رزقك الله، بـارك الله فـيك.

وهذا القول الذي ذكرناه عن ابن زيد مع خلافه أقوال أهل التأويـل فـي تأويـل هذه الآية، بعيد الـمعنى، مـما يدلّ علـيه ظاهرها، وذلك أن الله تعالـى قال لنبـيه صلى الله عليه وسلم { وَإمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها } فأمره أن يقول إذا كان إعراضه عن القوم الذين ذكرهم انتظار رحمة منه يرجوها من ربه { قَوْلاً مَيْسُوراً } وذلك الإعراض ابتغاء الرحمة، لن يخـلو من أحد أمرين: إما أن يكون إعراضاً منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها لنفسه، فـيكون معنى الكلام كما قلناه، وقاله أهل التأويـل الذين ذكرنا قولهم، وخلاف قوله أو يكون إعراضا منه ابتغاء رحمة من الله يرجوها للسائلـين الذين أُمِر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم بزعمه أن يـمنعهم ما سألوه خشية علـيهم من أن ينفقوه فـي معاصي الله، فمعلوم أن سخط الله علـى من كان غير مأمون منه صَرْف ما أُعْطي من نفقة لـيتقوّى بها علـى طاعة الله فـي معاصيه، أخوف من رجاء رحمته له، وذلك أن رحمة الله إنـما ترجى لأهل طاعته، لا لأهل معاصيه، إلا أن يكون أراد توجيه ذلك إلـى أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم أمر بـمنعهم ما سألوه، لـينـيبوا من معاصي الله، ويتوبوا بـمنعه إياهم ما سألوه، فـيكون ذلك وجهاً يحتـمله تأويـل الآية، وإن كان لقول أهل التأويـل مخالفـاً.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:48
وأولـى القراءات فـي ذلك عندنا بـالصواب، القراءة التـي علـيها قراء أهل العراق، وعامة أهل الـحجاز، لإجماع الـحجة من القراء علـيها، وشذوذ ما عداها. وإن معنى ذلك كان إثما وخطيئة، لا خَطَأ من الفعل، لأنهم إنـما كانوا يقتلونهم عمداً لا خطأ، وعلـى عمدهم ذلك عاتبهم ربهم، وتقدم إلـيهم بـالنهي عنه

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 05:55
وقال آخرون: بل ذلك السلطان: هو القتل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَمَنْ قُتِل مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِولِـيِّهِ سُلْطاناً } وهو القَوَد الذي جعله الله تعالـى.

وأولـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأول ذلك: أن السلطان الذي ذكر الله تعالـى فـي هذا الـموضع ما قاله ابن عبـاس، من أن لولـيّ القتـيـل القتل إن شاء وإن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم فتـح مكة: " ألا وَمن قُتِل لَهُ قَتِـيـلٌ فَهُو بِخَيْرِ النَّظَريْنِ بـينِ أنْ يَقْتُل أوْ يأْخُذ الدّيَة " وقد بـيَّنت الـحكم فـي ذلك فـي كتابنا: كتاب الـجراح...

وقوله: { فَلا يُسْرِفْ فـي القَتْلِ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الكوفة: «فلا تُسْرِفْ» بـمعنى الـخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والـمراد به هو والأئمة من بعده، يقول: فلا تقتل بـالـمقتول ظُلْـما غير قاتله، وذلك أن أهل الـجاهلـية كانوا يفعلون ذلك إذا قتل رجل رجلاً عمد ولـيّ القتـيـل إلـى الشريف من قبـيـلة القاتل، فقتله بولـيه، وترك القاتل، فنهى الله عزّ وجلّ عن ذلك عبـاده، وقال لرسوله علـيه الصلاة والسلام: قتل غير القاتل بـالـمقتول معصية وسرف، فلا تقتل به غير قاتله، وإن قتلت القاتل بـالـمقتول فلا تـمثِّل به. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: { فَلا يُسْرِفْ } بـالـياء، بـمعنى فلا يسرف ولـيّ الـمقتول، فـيقتل غير قاتل ولـيه. وقد قـيـل: عنى به: فلا يسرف القاتل الأول لأولـي الـمقتول.

والصواب من

القول فـي ذلك عندي، أن يقال: إنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى، وذلك أن خطاب الله تبـارك وتعالـى نبـيه صلى الله عليه وسلم بأمر أو نهى فـي أحكام الدين، قضاء منه بذلك علـى جميع عبـاده، وكذلك أمره ونهيه بعضهم، أمر منه ونهى جميعهم، إلا فـيـما دلّ فـيه علـى أنه مخصوص به بعض دون بعض، فإذا كان ذلك كذلك بـما قد بـيَّنا فـي كتابنا (كتاب البـيان، عن أصول الأحكام) فمعلوم أن خطابه تعالـى بقوله { فَلا تُسْرِفْ فـي القَتْلِ } نبـيه صلى الله عليه وسلم، وإن كان موجَّهاً إلـيه أنه معنّى به جميع عبـاده، فكذلك نهيه ولـيّ الـمقتول أو القاتل عن الإسراف فـي القتل، والتعدّي فـيه نهى لـجميعهم، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب صواب القراءة فـي ذلك.

وأما قوله: { إنَّهُ كانَ مَنْصُوراً } فإن أهل التأويـل اختلفوا فـيـمن عُنِـي بـالهاء التـي فـي قوله { إنَّهُ } وعلـى ما هي عائدة، فقال بعضهم: هي عائدة علـى ولـيّ الـمقتول، وهو الـمعنـيّ بها، وهو الـمنصور علـى القاتل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة { إنَّهُ كانَ مَنْصُوراً } قال: هو دفع الإمام إلـيه، يعنـي إلـى الولـيّ، فإن شاء قتل، وإن شاء عفـا.

وقال آخرون: بل عُنِـي بها الـمقتول، فعلـى هذا القول هي عائدة علـى «مَن» فـي قوله: { وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً }. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثـير، عن مـجاهد { إنَّهُ كانَ مَنْصُوراً } إن الـمقتول كان منصوراً.

وقال آخرون: عُنِـي بها دم الـمقتول، وقالوا: معنى الكلام: إن دم القتـيـل كان منصوراً علـى القاتل.

وأشبه ذلك بـالصواب عندي. قول من قال عُنِـي بها الولـيّ، وعلـيه عادت، لأنه هو الـمظلوم، وولـيه الـمقتول، وهي إلـى ذكره أقرب من ذكر الـمقتول، وهو الـمنصور أيضاً، لأن الله جلّ ثناؤه قضى فـي كتابه الـمنزل، أن سلَّطه علـى قاتل ولـيه، وحكَّمه فـيه، بأن جعل إلـيه قتله إن شاء، واستبقاءه علـى الدية إن أحبّ، والعفو عنه إن رأى، وكفـى بذلك نُصرة له من الله جلّ ثناؤه، فلذلك قلنا: هو الـمعنـيّ بـالهاء التـي فـي قوله: { إنَّهُ كانَ مَنْصُوراً }.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 06:09
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: لا تقل للناس وفـيهم ما لا علـم لك به، فترميهم بـالبـاطل، وتشهد علـيهم بغير الـحقّ، فذلك هو القـفو.

وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال فـيه بـالصواب، لأن ذلك هو الغالب من استعمال العرب القـفو فـيه...

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 06:14
وقوله: { كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئُهُ عنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } فإن القرّاء اختلفت فـيه، فقرأه بعض قرّاء الـمدينة وعامة قرّاء الكوفة { كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئُهُ عنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } علـى الإضافة بـمعنى: كلّ هذا الذي ذكرنا من هذه الأمور التـي عددنا من مبتدإ قولنا
{ وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إياهُ }
.. إلـى قولنا { وَلا تَـمْشِ فِـي الأرْضِ مَرَحاً كانَ سَيِّئُهُ } يقول: سيىء ما عددنا علـيك عند ربك مكروها. وقال قارئو هذه القراءة: إنـما قـيـل { كُلّ ذلكَ كانَ سَيِّئُهُ } بـالإضافة، لأن فـيـما عددنا من قوله
{ وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ }
أموراً، هي أمر بـالـجميـل، كقوله
{ وَبـالوَالدَيْنِ إحْساناً }
، وقوله وآتِ
{ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ }
وما أشبه ذلك، قالوا: فلـيس كلّ ما فـيه نهيا عن سيئة، بل فـيه نهى عن سيئة، وأمر بحسنات، فلذلك قرأنا { سَيِّئُهُ }. وقرأ عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض قرّاء الكوفة: «كُلُّ ذلكَ كانَ سَيِّئَةً» وقالوا: إنـما عنى بذلك: كلّ ما عددنا من قولنا
{ وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إمْلاقٍ }
ولـم يدخـل فـيه ما قبل ذلك. قالوا: وكلّ ما عددنا من ذلك الـموضع إلـى هذا الـموضع سيئة لا حسنة فـيه، فـالصواب قراءته بـالتنوين. ومن قرأ هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون من نـيته أن يكون الـمكروه مقدماً علـى السيئة، وأن يكون معنى الكلام عنده: كلّ ذلك كان مكروهاً سيئة لأنه إن جعل قوله: مكروهاً بعد السيئة من نعت السيئة، لزمه أن تكون القراءة: كلّ ذلك كان سيئة عند ربك مكروهة، وذلك خلاف ما فـي مصاحف الـمسلـمين.

وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ { كُلُّ ذلكَ كانَ سيِّئُهُ } علـى إضافة السيىء إلـى الهاء، بـمعنى: كلّ ذلك الذي عددنا من
{ وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ }
.. كانَ سَيِّئُهُ لأن فـي ذلك أموراً منهياً عنها، وأموراً مأموراً بها، وابتداء الوصية والعهد من ذلك الـموضع دون قوله
{ وَلا تَقْتُلُوا أوْلادَكُمْ }
إنـما هو عطف علـى ما تقدّم من قوله وَقَضَى رَبُّكَ ألاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ فإذا كان ذلك كذلك، فقرأته بإضافة السيىء إلـى الهاء أولـى وأحقّ من قراءته سيئةً بـالتنوين، بـمعنى السيئة الواحدة.

فتأويـل الكلام إذن: كلّ هذا الذي ذكرنا لك من الأمور التـي عددناها علـيك كان سيئه مكروهاً عند ربك يا مـحمد، يكرهه وينهى عنه ولا يرضاه، فـاتق مواقعته والعمل به.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 06:25
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كمَا يَقُولُونَ إذًا لابْتَغَوْا إلـى ذِي العَرْشِ سَبِـيلاً } يقول: لو كان معه آلهة إذن لعرفوا فضله ومرتبته ومنزلته علـيهم، فـابتغوا ما يقرّبهم إلـيه.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 06:31
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالآخرة حِجابـاً مَسْتُوراً } الـحجاب الـمستور أكنة علـى قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به، أطاعوا الشيطان فـاستـحوذ علـيهم.

حدثنا مـحمد، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة { حِجابـاً مَسْتُوراً } قال: هي الأكنة.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بـالآخِرَةِ حِجابـاً مَسْتُوراً } قال: قال أُبـيّ: لا يفقهونه، وقرأ
{ قُلُوبُهُمْ فِـي أكِنَّةٍ وفِـي آذَانِهِمْ وَقْرٌ }
فهم لا يخـلص ذلك إلـيهم.

وكان بعض نـحويـيِّ أهل البصرة يقول: معنى قوله { حِجابـاً مَسْتُوراً } حِجابـاً ساتراً، ولكنه أخرج وهو فـاعل فـي لفظ الـمفعول، كما يقال: إنك مشئوم علـينا وميـمون، وإنـما هو شائم ويامن، لأنه من شأمهم ويـمنهم. قال: والـحجاب ههنا: هو الساتر. وقال: مستوراً. وكان غيره من أهل العربـية يقول: معنى ذلك: حجابـاً مستوراً عن العبـاد فلا يرونه.

وهذا القول الثانـي أظهر بـمعنى الكلام أن يكون الـمستور هو الـحجاب، فـيكون معناه: أن لله ستراً عن أبصار الناس فلا تدركه أبصارهم، وإن كان للقول الأوّل وجه مفهوم.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 06:35
يقول تعالى ذكره: وجعلنا علـى قلوب هؤلاء الذين لا يؤمنون بـالآخرة عند قراءتك علـيهم القرآن أكنة وهي جمع كِنان، وذلك ما يتغشَّاها من خِذلان الله إياهم عن فهم ما يُتلـى علـيهم { وفِـي آذانِهمْ وَقْرا } يقول: وجعلنا فـي آذانهم وقراً عن سماعه، وصمـماً. والوَقر بـالفتـح فـي الأذن: الثقل. والوِقر بـالكسر: الـحِمْل. وقوله: { وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فـي القُرْآنِ وَحْدَهُ } يقول: وإذا قلت: لا إله إلا الله فـي القرآن وأنت تتلوه { وَلَّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُوراً } يقول: انفضوا، فذهبوا عنك نفوراً من قولك استكبـاراً له واستعظاماً من أن يوحِّد الله تعالـى. وبـما قلنا فـي ذلك، قال بعض أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا } وإن الـمسلـمين لـما قالوا: لا إله إلا الله، أنكر ذلك الـمشركون وكبرت علـيهم، فصافها إبلـيس وجنوده، فأبى الله إلا أن يـمضيها وينصرها ويفلـجها ويظهرها علـى من ناوأها، إنها كلـمة من خاصم بها فلـج، ومن قاتل بها نُصِر، إنـما يعرفها أهل هذه الـجزيرة من الـمسلـمين، التـي يقطعها الراكب فـي لـيال قلائل ويسير الدهر فـي فِئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُوراً } قال: بغضا لـما تكلـم به لئلا يسمعوه، كما كان قوم نوح يجعلون أصابعهم فـي آذانهم لئلا يسمعوا ما يأمرهم به من الاستغفـار والتوبة، ويستغشُون ثـيابهم، قال: يـلتفون بثـيابهم، ويجعلون أصابعهم فـي آذانهم لئلا يسمعوا ولا يُنظر إلـيهم.

وقال آخرون: إنـما عُنِـي بقوله { وَلَّوْا علـى أدْبـارِهِمْ نُفُوراً } الشياطين، وإنها تهرب من قراءة القرآن، وذكر الله. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـحسين بن مـحمد الذارع، قال: ثنا روح بن الـمسيب أبو رجاء الكلبـي، قال: ثنا عمرو بن مالك، عن أبـي الـجوزاء، عن ابن عبـاس، فـي قوله: { وَإذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِـي القُرآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلـى أدْبـارِهِمْ نُفُوراً } هم الشياطين.

والقول الذي قلنا فـي ذلك أشبه بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، وذلك أن الله تعالـى أتبع ذلك قوله
{ وَإذَا قَرأتَ القُرآنَ جَعَلْنا بَـيْنَكَ وبـينَ الَّذِينَ لا يُؤمِنُونَ بـالآخِرِةِ حِجابـاً مَسْتُوراً }
فأن يكون ذلك خبراً عنهم أولـى إذ كان بخبرهم متصلاً من أن يكون خبراً عمن لـم يجز له ذكر. وأما النفور، فإنها جمع نافر، كما القعود جمع قاعد، والـجلوس جمع جالس وجائز أن يكون مصدراً أخرج من غير لفظه، إذ كان قوله { وَلَّوْا } بـمعنى: نفروا، فـيكون معنى الكلام: نفروا نفورا، كما قال امرؤ القـيس:
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةٌ أيَّ إذْلالِ
إذا كان رُضْت بـمعنى: أذللت، فأخرج الإذلال من معناه، لا من لفظه.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 10:39
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله تعالـى ذكره قال: { أوْ خَـلْقاً مـمَّا يَكْبُرُ فِـي صُدُورِكُمْ } ، وجائز أن يكون عنى به الـموت، لأنه عظيـم فـي صدور بنـي آدم وجائز أن يكون أراد به السماء والأرض وجائز أن يكون أراد به غير ذلك، ولا بـيان فـي ذلك أبـين مـما بـين جلَّ ثناؤه، وهو كلّ ما كبر فـي صدور بنـي آدم من خـلقه، لأنه لـم يخصص منه شيئاً دون شيء...

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 10:42
وقال آخرون: معنى ذلك: فتستـجيبون بـمعرفته وطاعته. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَـجِيبُونَ بِحَمْدِهِ }: أي بـمعرفته وطاعته.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: معناه: فتستـجيبون لله من قبوركم بقدرته، ودعائه إياكم. ولله الـحمد فـي كلّ حال، كما يقول القائل: فعلت ذلك الفعل بحمد الله، يعنـي: لله الـحمد عن كلّ ما فعلته، وكما قال الشاعر:
فإنّـي بِحَمْد الله لا ثَوْبَ فـاجِرٍ لَبِسْتُ وَلا مِنْ غَدْرَةٍ أتَقَنَّعُ
بـمعنى: فإنـي والـحمد لله لا ثوب فـاجر لبست.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 10:46
يقول تعالـى ذكره لهؤلاء الـمشركين من قريش الذين قالوا
{ أئِذَا كُنَّا عِظاماً وَرُفـاتاً أئِنَّا لَـمَبْعُوثُونَ خَـلْقاً جَدِيداً }
{ رَبُّكُمْ } أيها القوم { أعْلَـمُ بِكُمْ إنْ يَشأْ يَرْحَمُكُمْ } فـيتوب علـيكم برحمته، حتـى تنـيبوا عما أنتـم علـيه من الكفر به وبـالـيوم الآخر { وَإنْ يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ } بأن يخذلكم عن الإيـمان، فتـموتوا علـى شرككم، فـيعذّبكم يوم القـيامة بكفركم به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن عبد الـملك بن جريج قوله: { رَبُّكُمْ أعْلَـمُ بِكُمْ إنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } قال: فتؤمنوا { أوْ إنْ يَشأْ يُعَذّبْكُمْ } فتـموتوا علـى الشرك كما أنتـم.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 10:51
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيـم، قال: كان ابن عبـاس يقول فـي قوله: { أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلـى رَبِّهِمُ الوَسِيـلَةَ } قال: هو عُزير والـمسيح والشمس والقمر.

وأولـى الأقوال بتأويـل هذه الآية قول عبد الله بن مسعود الذي رويناه، عن أبـي معمر عنه، وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن الذين يدعوهم الـمشركون آلهة أنهم يبتغون إلـى ربهم الوسيـلة فـي عهد النبـيّ صلى الله عليه وسلم ومعلوم أن عُزيراً لـم يكن موجوداً علـى عهد نبـينا علـيه الصلاة والسلام، فـيبتغي إلـى ربه الوسيـلة وأن عيسى قد كان رُفع، وإنـما يبتغي إلـى ربه الوسيـلة من كان موجوداً حياً يعمل بطاعة الله، ويتقرّب إلـيه بـالصالـح من الأعمال.

فأما من كان لا سبـيـل له إلـى العمل، فبـم يبتغي إلـى ربه الوسيـلة. فإذ كان لا معنى لهذا القول، فلا قول فـي ذلك إلا قول من قال ما اخترنا فـيه من التأويـل، أو قول من قال: هم الـملائكة، وهما قولان يحتـملهما ظاهر التنزيـل. وأما الوسيـلة، فقد بـيَّنا أنها القربة والزلفة. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس: الوسيـلة: القربة.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: الوسيـلة، قال: القربة والزلفـى.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:07
وقال آخرون مـمن قال: هي رؤيا منام: إنـما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى فـي منامه قوما يعلون منبره. ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن مـحمد بن الـحسن بن زبـالة، قال: ثنا عبد الـمهيـمن بن عبـاس بن سهل بن سعد، قال: ثنـي أبـي، عن جدّي، قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنـي فلان ينزون علـى منبره نزو القردة، فساءه ذلك، فما استـجمع ضاحكا حتـى مات. قال: وأنزل الله عزّ وجلّ فـي ذلك { وَما جَعَلْنا الرُّؤْيا التـي أرَيْناكَ إلاَّ فِتْنَةً للنَّاسِ }... الآية.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: عنى به رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأى من الآيات والعبر فـي طريقه إلـى بـيت الـمقدس، وبـيت الـمقدس لـيـلة أُسري به، وقد ذكرنا بعض ذلك فـي أوّل هذه السورة.

وإنـما قُلنا ذلك أولـى بـالصواب، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن هذه الآية إنـما نزلت فـي ذلك، وإياه عنى الله عزّ وجلّ بها، فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: وما جعلنا رؤياك التـي أريناك لـيـلة أسرينا بك من مكة إلـى بـيت الـمقدس، إلاَّ فتنة للناس: يقول: إلا بَلاء للناس الذين ارتدّوا عن الإسلام، لـمَّا أُخبروا بـالرؤيا التـي رآها علـيه الصلاة والسلام، وللـمشركين من أهل مكة الذين ازدادوا بسماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم تـمادياً فـي غيهم، وكفراً إلـى كفرهم، كما:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { إلاَّ فِتْنَةً للنَّاسِ }.
..

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { والشَّجَرَةَ الـمَلْعُونَةَ فِـي القُرآنِ } الزقوم التـي سألوا الله أن يـملأ بـيوتهم منها. وقال: هي الصَّرَفـان بـالزبد تتزقمه، والصرفـان: صنف من التـمر. قال: وقال أبو جهل: هي الصرفـان بـالزبد، وافتتنوا بها.

وقال آخرون: هي الكَشُوث. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا مـحمد بن إسماعيـل بن أبـي فديك، عن ابن أبـي ذئب، عن مولـى بنـي هاشم حدثه، أن عبد الله بن الـحارث بن نوفل، أرسله إلـى ابن عبـاس، يسأله عن الشجرة الـملعونة فـي القرآن؟ قال: هي هذه الشجرة التـي تلوي علـى الشجرة، وتـجعل فـي الـماء، يعنـي الكشوثـي.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب عندنا قول من قال: عنى بها شجرة الزقوم، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى ذلك. ونصبت الشجرة الـملعونة عطفـاً بها علـى الرؤيا. فتأويـل الكلام إذن: وما جعلنا الرؤيا التـي أريناك، والشجرة الـملعونة فـي القرآن إلاَّ فتنة للناس، فكانت فتنتهم فـي الرؤيا ما ذكرت من ارتداد من ارتدّ، وتـمادِي أهل الشرك فـي شركهم، حين أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما أراه الله فـي مسيره إلـى بـيت الـمقدس لـيـلة أُسريَ به. وكانت فتنتهم فـي الشجرة الـملعونة ما ذكرنا من قول أبـي جهل والـمشركين معه: يخبرنا مـحمد أن فـي النار شجرة نابتة، والنار تأكل الشجر فكيف تنبت فـيها؟

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:23
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن لـيث، عن مـجاهد، فـي قوله { وَاسْتَفْزِز مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: بـاللهو والغناء.

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت لـيثا يذكر، عن مـجاهد، فـي قوله: { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: اللعب واللهو.

وقال آخرون: عنى به { واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ } بدعائك إياه إلـى طاعتك ومعصية الله. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيَّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: صوته كلّ داع دعا إلـى معصية الله.

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال: بدعائك.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة أن يقال: إن الله تبـارك وتعالـى قال لإبلـيس: واستفزز من ذرّية آدم من استطعت أن تستفزّه بصوتك، ولـم يخصص من ذلك صوتاً دون صوت، فكل صوت كان دعاء إلـيه وإلـى عمله وطاعته، وخلافـا للدعاء إلـى طاعة الله، فهو داخـل فـي معنى صوته الذي قال الله تبـارك وتعالـى اسمه له { وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ }....

وقال آخرون: بل عُنِـي به ما كان الـمشركون يذبحونه لآلهتهم. ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ، قال: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول: { وَشارِكْهُمْ فِـي الأمْوَالِ والأوْلادِ } يعنـي ما كانوا يذبحون لآلهتهم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عُنِـي بذلك كلّ مال عصى الله فـيه بإنفـاق فـي حرام أو اكتساب من حرام، أو ذبح للآلهة، أو تسيـيب، أو بحر للشيطان، وغير ذلك مـما كان معصياً به أو فـيه، وذلك أن الله قال { وَشارِكْهُمْ فـي الأمْوَالِ } فكلّ ما أطيع الشيطان فـيه من مال وعصى الله فـيه، فقد شارك فـاعل ذلك فـيه إبلـيس، فلا وجه لـخصوص بعض ذلك دون بعض....

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: كلّ ولد ولدته أنثى عصى الله بتسميته ما يكرهه الله، أو بإدخاله فـي غير الدين الذي ارتضاه الله، أو بـالزنا بأمه، أو قتله ووأده، أو غير ذلك من الأمور التـي يعصى الله بها بفعله به أو فـيه، فقد دخـل فـي مشاركة إبلـيس فـيه من ولد ذلك الـمولود له أو منه، لأن الله لـم يخصص بقوله { وَشارِكْهُم فـي الأمْوَالِ والأولادِ } معنى الشركة فـيه بـمعنى دون معنى، فكلّ ما عصى الله فـيه أو به، وأطيع به الشيطان أو فـيه، فهو مشاركة من عصى الله فـيه أو به إبلـيس فـيه.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:35
حدثنـي الـحرث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُناسٍ بإمامِهِمْ } بكتابهم.

وأولـى هذه الأقوال عندنا بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: يوم ندعو كلّ أناس بإمامهم الذي كانوا يقتدون به، ويأتـمُّون به فـي الدنـيا، لأن الأغلب من استعمال العرب الإمام فـيـما ائتـمّ واقتدي به، وتوجيه معانـي كلام الله إلـى الأَشهر أَوْلـى ما لـم تثبت حجة بخلافه يجب التسلـيـم لها.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:38
وأولى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب، قول من قال: معنى ذلك: ومن كان فـي هذه الدنـيا أعمى عن حجج الله علـى أنه الـمنفرد بخـلقها وتدبـيرها، وتصريف ما فـيها، فهو فـي أمر الآخرة التـي لـم يرها ولـم يعاينها، وفـيـما هو كائن فـيها أعمى وأضلّ سبـيلاً: يقول: وأضلّ طريقاً منه فـي أمر الدنـيا التـي قد عاينها ورآها.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى تأويلاته بـالصواب، لأن الله تعالـى ذكره لـم يخصص فـي قوله { وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ } الدنـيا { أعْمَى } عمى الكافر به عن بعض حججه علـيه فـيها دون بعض، فـيوجه ذلك إلـى عماه عن نعمه بـما أنعم به علـيه من تكريـمه بنـي آدم، وحمله إياهم فـي البرّ والبحر، وما عدّد فـي الآية التـي ذكر فـيها نعمه علـيهم، بل عمّ بـالـخبر عن عماه فـي الدنـيا، فهم كما عمّ تعالـى ذكره.

واختلفت القراء فـي قراءة قوله { فَهُوَ فِـي الآخِرَةِ أعْمَى } فكسرت القَراء جميعا الحرف الأوّل أعني قوله { وَمَنْ كانَ فِـي هَذِهِ أعْمَى }. وأما قوله { فَهُوَ فِـي الآخِرَةِ أعْمَى } فإن عامة قرّاء الكوفـيـين أمالت أيضاً قوله: { فَهُوَ فِـي الآخِرَةِ أعْمَى }. وأما بعض قرّاء البصرة فإنه فتـحه، وتأوّله بـمعنى: فهو فـي الآخرة أشدّ عمى. واستشهد لصحة قراءته بقوله: { وأضَلُّ سَبِـيلاً }.

وهذه القراءة هي أَوْلـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب للشاهد الذي ذكرنا عن قارئه كذلك، وإنـما كره من كره قراءته كذلك ظناً منه أن ذلك مقصود به قصد عمى العينـين الذي لا يوصف أحد بأنه أعمى من آخر أعمى، إذ كان عمى البصر لا يتفـاوت، فـيكون أحدهما أزيد عمى من الآخر، إلا بإدخال أشدّ أو أبـين، فلـيس الأمر فـي ذلك كذلك.

وإنـما قلنا: ذلك من عمى القلب الذي يقع فـيه التفـاوت، فإنـما عُنِـي به عمى قلوب الكفـار، عن حجج الله التـي قد عاينتها أبصارهم، فلذلك جاز ذلك وحسُن. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا سفـيان، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { فَهُوَ فِـي الآخِرَةِ أعْمَى } قال: أعمى عن حجته فـي الآخرة.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:48
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب، قول قتادة ومـجاهد، وذلك أن قوله: { وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ } فـي سياق خبر الله عزّ وجلّ عن قريش وذكره إياهم، ولـم يجر للـيهود قبل ذلك ذكر، فـيوجه قوله { وَإنْ كادُوا } إلـى أنه خبر عنهم، فهو بأن يكون خبراً عمن جرى له ذكر أولـى من غيره. وأما القلـيـل الذي استثناه الله جلّ ذكره فـي قوله { وإذاً لا يَـلْبَثُونَ خَـلْفَكَ إلاَّ قَلِـيلاً } فإنه فـيـما قـيـل، ما بـين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلـى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 11:56
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بقوله { أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ }: صلاة الظهر، وذلك أن الدلوك فـي كلام العرب: الـميـل، يقال منه: دلك فلان إلـى كذا: إذا مال إلـيه. ومنه الـخبر الذي روي عن الـحسن أن رجلاً قال له: أيُدالك الرجل امرأته؟ يعنـي بذلك: أيـميـل بها إلـى الـمـماطلة بحقها. ومنه قول الراجز:
هَذَا مَقامُ قَدَميْ رَبـاحِ غُدْوَةَ حتـى دَلَكَتْ بِرَاحِ
ويروى: براح بفتـح البـاء، فمن روى ذلك: بِراح، بكسر البـاء، فإنه يعنـي: أنه يضع الناظر كفه علـى حاجبه من شعاعها، لـينظر ما لقـي من غيارها. وهذا تفسير أهل الغريب أبـي عبـيدة والأصمعي وأبـي عمرو الشيبـانـيّ وغيرهم. وقد ذكرت فـي الـخبر الذي رويت عن عبد الله بن مسعود، أنه قال حين غربت الشمس: دلكت براح، يعنـي: براح مكانا، ولست أدري هذا التفسير، أعنـي قوله: براح مكاناً مِنْ كلام من هو مـمن فـي الإسناد، أو من كلام عبد الله، فإن يكن من كلام عبد الله، فلا شكّ أنه كان أعلـم بذلك من أهل الغريب الذين ذكرت قولهم، وأن الصواب فـي ذلك قوله، دون قولهم، وإن لـم يكن من كلام عبد الله، فإن أهل العربـية كانوا أعلـم بذلك منه، ولـما قال أهل الغريب فـي ذلك شاهد من قول العجاج، وهو قوله:
والشَّمْسُ كادَتْ تَكُونُ دَنَفـا أدْفَعُها بـالرَّاحِ كَيْ تَزَ حْلَفـا
فأخبر أنه يدفع شعاعها لـينظر إلـى مغيبها براحه. ومن روى ذلك بفتـح البـاء، فإنه جعله اسماً للشمس وكسر الـحاء لإخراجه إياه علـى تقدير قَطامِ وحَذامِ ورَقاشِ، فإذا كان معنى الدلوك فـي كلام العرب هو الـميـل، فلا شكَ أن الشمس إذا زالت عن كبد السماء، فقد مالت للغروب، وذلك وقت صلاة الظهر، وبذلك ورد الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان فـي إسناد بعضه بعض النظر.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا خالد بن مخـلد، قال: ثنـي مـحمد بن جعفر، قال: ثنـي يحيى بن سعيد، قال: ثنـي أبو بكر بن عمرو بن حزم الأنصاري، عن أبـي مسعود عقبة بن عمرو، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتانِـي جَبْرَائِيـلُ عَلَـيْهِ السَّلامُ لِدُولُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّـى بِـيَ الظُّهْرَ " ...

فإذا كان صحيحاً ما قلنا بـالذي به استشهدنا، فبـين إذن أن معنى قوله جلّ ثناؤه: { أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلـى غَسَقِ اللَّـيْـلِ } أن صلاة الظهر والعصر بحدودهما مـما أوجب الله علـيك فـيهما لأنهما الصلاتان اللتان فرضهما الله علـى نبـيه من وقت دلوك الشمس إلـى غسق اللـيـل وغسق اللـيـل: هو إقبـاله ودنوّه بظلامه، كما قال الشاعر:
آبَ هَذَا اللَّـيْـلُ إذْ غَسَقَا
وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي الصلاة التـي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامتها عنده، فقال بعضهم: الصلاة التـي أمر بإقامتها عنده صلاة الـمغرب. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { أقِمِ الصَّلاةَ لِدِلُوكِ الشَّمْسِ إلـى غَسَقِ اللَّـيْـلِ } قال: غسق اللـيـل: بدوّ اللـيـل...

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن أبـي جعفر { إلـى غَسَقِ اللَّـيْـلِ } قال: صلاة العصر.

وأولـى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الصلاة التـي أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بإقامتها عند غسق الليل، هي صلاة الـمغرب دون غيرها، لأن غسق الليل هو ما وصفنا من إقبال الليل وظلامه، وذلك لا يكون إلا بعد مغيب الشمس. فأما صلاة العصر، فإنها مـما تقام بـين ابتداء دلوك الشمس إلـى غسق الليل، لا عند غسق اللـيـل. وأما قوله: { وقُرآنَ الفَجْرِ } فإن معناه وأقم قرآن الفجر: أي ما تقرأ به صلاة الفجر من القرآن، والقرآن معطوف علـى الصلاة فـي قوله: { أقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ }.
...

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 12:09
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وَمِنَ اللَّـيْـلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ } يعنـي بـالنافلة أنها للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة، أُمر بقـيام اللـيـل وكُتب علـيه.

وقال آخرون: بل قـيـل ذلك له علـيه الصلاة والسلام لأنه لـم يكن فعله ذلك يكفِّر عنه شيئا من الذنوب، لأن الله تعالـى كان قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فكان له نافلة فضل، فأما غيره فهو له كفـارة، ولـيس هو له نافلة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثـير، عن مـجاهد، قال: النافلة للنبـيّ صلى الله عليه وسلم خاصة من أجل أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، فما عمل من عمل سوى الـمكتوبة، فهو نافلة من أجل أنه لا يعمل ذلك فـي كفـارة الذنوب، فهي نوافل وزيادة، والناس يعملون ما سوى الـمكتوبة لذنوبهم فـي كفـارتها، فلـيست للناس نوافل.

وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك، القول الذي ذكرنا عن ابن عبـاس، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان الله تعالـى قد خصه بـما فرض علـيه من قـيام اللـيـل، دون سائر أمته. فأما ما ذكر عن مـجاهد فـي ذلك، فقول لا معنى له، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فـيـما ذُكِر عنه أكثر ما كان استغفـارا لذنوبه بعد نزول قول الله عزّ وجلّ علـيه
{ لِـيَغْفِرَ لَكَ اللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأخَّرَ }
وذلك أن هذه السورة أنزلت علـيه بعد مُنْصَرِفَه من الـحديبـية، وأنزل علـيه
{ إذَا جاءَ نَصْرُ اللّهِ وَالفَتْـحُ }
عام قبض. وقـيـل له فـيها
{ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إنَّهُ كانَ تَوَّابـا }
فكان يُعدُّ له صلى الله عليه وسلم فـي الـمـجلس الواحد استغفـار مئة مرّة، ومعلوم أن الله لـم يأمره أن يستغفر إلا لـما يغفر له بـاستغفـاره ذلك، فبـين إذن وجه فساد ما قاله مـجاهد.....

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب ما صحّ به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما:

حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن داود بن يزيد، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاما مَـحْمودا } سُئل عنها، قال: «هِيَ الشَّفـاعَةُ».

حدثنا علـيّ بن حرب، قال: ثنا مَكِّيّ بن إبراهيـم، قال: ثنا داود بن يزيد الأَوْدِيّ، عن أبـيه، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي قوله: { عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاما مَـحْمُودا } قال: " هو الـمقام الذي أشفع فـيه لأمتـي " ..

وهذا وإن كان هو الصحيح من

القول فـي تأويـل قوله { عَسَى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاما مَـحْمُودا } لـما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مـجاهد من أن الله يُقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك.

فأما من جهة النظر، فإن جميع من ينتـحل الإسلام إنـما اختلفوا فـي معنى ذلك علـى أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بـائن من خـلقه كان قبل خـلقه الأشياء، ثم خـلق الأشياء فلـم يـماسَّها، وهو كما لـم يزل، غير أن الأشياء التـي خـلقها، إذ لـم يكن هو لها مـماسا، وجب أن يكون لها مبـاينا، إذ لا فعال للأشياء إلا وهو مـماسّ للأجسام أو مبـاين لها. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فـاعل الأشياء، ولـم يجز فـي قولهم: إنه يوصف بأنه مـماسّ للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مبـاين، فعلـى مذهب هؤلاء سواء أقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، أو علـى الأرض إذ كان من قولهم إن بـينونته من عرشه، وبـينونته من أرضه بـمعنى واحد فـي أنه بـائن منهما كلـيهما، غير مـماسّ لواحد منهما.

وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالـى ذكره قبل خـلقه الأشياء، لا شيء يـماسه، ولا شيء يبـاينه، ثم خـلق الأشياء فأقامها بقدرته، وهو كما لـم يزل قبل الأشياء خـلقه لا شيء يـماسه ولا شيء يبـاينه، فعلـى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد مـحمدا صلى الله عليه وسلم علـى عرشه، أو علـى أرضه، إذ كان سواء علـى قولهم عرشه وأرضه فـي أنه لا مـماس ولا مبـاين لهذا، كما أنه لا مـماس ولا مبـاين لهذه.

وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خـلقه الأشياء لا شيء يـماسه، ولا شيء يبـاينه، ثم أحدث الأشياء وخـلقها، فخـلق لنفسه عرشا استوى علـيه جالسا، وصار له مـماسا، كما أنه قد كان قبل خـلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا، ولا شيء يحرمه ذلك، ثم خـلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا، وأعطى هذا، ومنع هذا، قالوا: فكذلك كان قبل خـلقه الأشياء يـماسه ولا يبـاينه، وخـلق الأشياء فماس العرش بجلوسه علـيه دون سائر خـلقه، فهو مـماس ما شاء من خـلقه، ومبـاين ما شاء منه، فعلـى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد مـحمدا علـى عرشه، أو أقعده علـى منبر من نور، إذ كان من قولهم: إن جلوس الربّ علـى عرشه، لـيس بجلوس يشغل جميع العرش، ولا فـي إقعاد مـحمد صلى الله عليه وسلم موجبـا له صفة الربوبـية، ولا مخرجه من صفة العبودية لربه، كما أن مبـاينة مـحمد صلى الله عليه وسلم ما كان مبـاينا له من الأشياء غير موجبة له صفة الربوبـية، ولا مخرجته من صفة العبودية لربه من أجل أنه موصوف بأنه له مبـاين، كما أن الله عزّ وجلّ موصوف علـى قول قائل هذه الـمقالة بأنه مبـاين لها، هو مبـاين له.

قالوا: فإذا كان معنى مبـاين ومبـاين لا يوجب لـمـحمد صلى الله عليه وسلم الـخروج من صفة العبودة والدخول فـي معنى الربوبـية، فكذلك لا يوجب له ذلك قعوده علـى عرش الرحمن، فقد تبـين إذا بـما قُلنا أنه غير مـحال فـي قول أحد مـمن ينتـحل الإسلام ما قاله مـجاهد من أن الله تبـارك وتعالـى يُقْعِد مـحمدا علـى عرشه.

فإن قال قائل: فإنا لا ننكر إقعادا الله مـحمدا علـى عرشه، وإنـما ننكر إقعاده.

حدثنـي عبـاس بن عبد العظيـم، قال: ثنا يحيى بن كثـير، عن الـجَريريّ، عن سيف السَّدُوسيّ، عن عبد الله بن سلام، قال: إن مـحمدا صلى الله عليه وسلم يوم القـيامة علـى كرسيّ الربّ بـين يدي الربّ تبـارك وتعالـى، وإنـما ينكر إقعاده إياه معه. قـيـل: أفجائز عندك أن يقعده علـيه لا معه. فإن أجاز ذلك صار إلـى الإقرار بأنه إما معه، أو إلـى أنه يقعده، والله للعرش مبـاين، أو لا مـماسّ ولا مبـاين، وبأيّ ذلك قال كان منه دخولاً فـي بعض ما كان ينكره وإن قال ذلك غير جائز كان منه خروجا من قول جميع الفرق التـي حكينا قولهم، وذلك فراق لقول جميع من ينتـحل الإسلام، إذ كان لا قول فـي ذلك إلا الأقوال الثلاثة التـي حكيناها، وغير مـحال فـي قول منها ما قال مـجاهد فـي ذلك

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 12:15
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أدخـلنـي مكة آمنا، وأخرجنـي منها آمنا. ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد بن سلـيـمان، قال: سمعت الضحاك قال فـي قوله: { رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعنـي مكة، دخـل فـيها آمنا، وخرج منها آمنا.

وأشبه هذه الأقوال بـالصواب فـي تأويـل ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وأدخـلنـي الـمدينة مُدْخـل صدق، وأخرجنـي من مكة مُخْرج صدق.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية، لأن ذلك عقـيب قوله:
{ وَإنْ كادُوا لَـيَسْتَفِزُّونَكَ مِن الأرْضِ لِـيُخْرِجُوكَ مِنْها وإذاً لا يَـلْبَثُونَ خِلاَفَكَ إلاَّ قَلِـيلاً }
وقد دللنا فـيـما مضى، علـى أنه عنى بذلك أهل مكة فإذ كان ذلك عقـيب خبر الله عما كان الـمشركون أرادوا من استفزازهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لـيخرجوه عن مكة، كان بـيِّنا، إذ كان الله قد أخرجه منها، أن قوله: { وَقُلْ رَبّ أدْخِـلْنِـي مُدْخَـلَ صِدْقٍ وأخْرِجْنِـي مُخْرَجَ صِدْقٍ } أمر منه له بـالرغبة إلـيه فـي أن يخرجه من البلدة التـي هم الـمشركون بإخراجه منها مخرج صدق، وأن يدخـله البلدة التـي نقله الله إلـيها مدخـل صدق....

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: ذلك أمر من الله تعالـى نبـيه بـالرغبة إلـيه فـي أن يؤتـيه سلطاناً نصيراً له علـى من بغاه وكاده، وحاول منعه من إقامته فرائض الله فـي نفسه وعبـاده.

وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب، لأن ذلك عقـيب خبر الله عما كان الـمشركون هموا به من إخراجه من مكة، فأعلـمه عزّ وجلّ أنهم لو فعلوا ذلك عوجلوا بـالعذاب عن قريب، ثم أمره بـالرغبة إلـيه فـي إخراجه من بـين أظهرهم إخراج صدق يحاوله علـيهم، ويدخـله بلدة غيرها، بـمدخـل صدق يحاوله علـيهم ولأهلها فـي دخولها إلـيها، وأن يجعل له سلطاناً نصيراً علـى أهل البلدة التـي أخرجه أهلها منها، وعلـى كلّ من كان لهم شبـيها، وإذا أوتـي ذلك، فقد أوتـي لا شكّ حجة بـينة.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 12:18
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: أمر الله تبـارك وتعالـى نبـيه علـيه الصلاة والسلام أن يخبر الـمشركين أن الـحقّ قد جاء، وهو كلّ ما كان لله فـيه رضا وطاعة، وأن البـاطل قد زهق: يقول: وذهب كلّ ما كان لا رضا لله فـيه ولا طاعة مـما هو له معصية وللشيطان طاعة، وذلك أن الـحقّ هو كلّ ما خالف طاعة إبلـيس، وأن البـاطل: هو كلّ ما وافق طاعته، ولـم يخصص الله عزّ ذكره بـالـخبر عن بعض طاعاته، ولا ذهاب بعض معاصيه، بل عمّ الـخبر عن مـجيء جميع الـحقّ، وذهاب جميع البـاطل، وبذلك جاء القرآن والتنزيـل، وعلـى ذلك قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الشرك بـالله، أعنـي علـى إقامة جميع الـحقّ، وإبطال جميع البـاطل.

وأما قوله عزّ وجلّ: { وَزَهَقَ البـاطِلُ } فإن معناه: ذهب البـاطل، من قولهم: زَهَقت نفسه: إذا خرجت وأزهقتها أنا ومن قولهم: أزهق السهم: إذا جاوز الغرض فـاستـمرّ علـى جهته، يقال منه: زهق البـاطل، يزهَق زُهوقاً، وأزهقه الله: أي أذهبه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس { إنَّ البـاطِلَ كانَ زَهُوقاً } يقول: ذاهبـاً.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 12:35
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { تَفْجُرَ } فروي عن إبراهيـم النـخعيّ أنه قرأ { حتـى تَفْجُرَ لَنا } خفـيفة وقوله
{ فَتُفَجِّرَ الأنهَارَ خِلاَلَها تَفْجِيراً }
بـالتشديد، وكذلك كانت قراء الكوفـيـين يقرءونها، فكأنهم ذهبوا بتـخفـيفهم الأولـى إلـى معنى: حتـى تفجر لنا من الأرض ماء مرّة واحدة. وبتشديدهم الثانـية إلـى أنها تفجر فـي أماكن شتـى، مرّة بعد أخرى، إذا كان ذلك تفجر أنهار لا نهر واحد والتـخفـيف فـي الأولـى والتشديد فـي الثانـية علـى ما ذكرت من قراءة الكوفـيـين أعجب إلـيّ لـما ذكرت من افتراق معنـيـيهما، وإن لـم تكن الأولـى مدفوعة صحتها.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 12:40
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { كِسَفـاً } فقرأته عامَّة قرّاء الكوفة والبصرة بسكون السين، بـمعنى: أو تسقط السماء كما زعمت علـينا كِسفـاً، وذلك أن الكِسْف فـي كلام العرب: جمع كِسْفة، وهو جمع الكثـير من العدد للـجنس، كما تـجمع السِّدْرة بسِدْر، والتـمرة بتـمر، فحُكي عن العرب سماعاً: أعطنـي كِسْفة من هذا الثوب: أي قطعة منه، يقال منه: جاءنا بثريد كِسْف: أي قطع خبز. وقد يحتـمل إذا قرىء كذلك «كِسْفـاً» بسكون السين أن يكون مرادا به الـمصدر من كسف. فأما الكِسَفُ بفتـح السين، فإنه جمع ما بـين الثلاث إلـى العشر، يقال: كِسَفة واحدة، وثلاث كِسَف، وكذلك إلـى العشر. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة وبعض الكوفـيـين { كِسَفـاً } بفتـح السين بـمعنى: جمع الكِسْفة الواحدة من الثلاث إلـى العشر، يعنـي بذلك قِطَعاً: ما بـين الثلاث إلـى العشر.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب عندي قراءة من قرأه بسكون السين، لأن الذين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، لـم يقصدوا فـي مسألتهم إياه ذلك أن يكون بحدّ معلوم من القطع، إنـما سألوا أن يُسقط علـيهم من السماء قِطَعاً، وبذلك جاء التأويـل أيضاً عن أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { كِسْفـاً } قال: السماء جمعاً...

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج { أوْ تَأْتـيَ بـاللّهِ وَالـمَلائِكَةِ قَبِـيلاً } فنعاينهم.

ووجَّهه بعض أهل العربـية إلـى أنه بـمعنى الكفـيـل من قولهم: هو قَبـيـلُ فلان بـما لفلان علـيه وزعيـمه.

وأشبه الأقوال فـي ذلك بـالصواب، القول الذي قاله قتادة من أنه بـمعنى الـمعاينة، من قولهم: قابلت فلانا مقابلة، وفلان قبـيـل فلان، بـمعنى قبـالته، كما قال الشاعر:
نُصَالِـحُكُمْ حتـى تَبُوءُوا بِـمِثْلِها كصَرْخَةِ حُبْلَـى يَسَّرَتْها قَبِـيـلُها
يعنـي قابِلَتها. وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: إذا وصفوا بتقدير فعيـل من قولهم قابلت ونـحوها، جعلوا لفظ صفة الاثنـين والـجميع من الـمؤنث والـمذكر علـى لفظ واحد، نـحو قولهم: هذه قبـيـلـي، وهما قبـيـلـي، وهم قبـيـلـي، وهن قبـيـلـي.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 13:15
وأما قوله: { فـاسأَلْ بَنِـي إسْرَائيـلَ إذْ جاءَهُمْ } فإن عامَّة قرّاء الإسلام علـى قراءته علـى وجه الأمر بـمعنى: فـاسأل يا مـحمد بنـي إسرائيـل إذ جاءهم موسى ورُوي عن الـحسن البصري فـي تأويـله ما:

حدثنـي به الـحارث، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن إسماعيـل، عن الـحسن { فأسأَلْ بَنِـي إسْرَائِيـلَ } قال: سؤالك إياهم: نظرك فـي القرآن.

ورُوي عن ابن عبـاس أنه كان يقرأ ذلك: «فَسَأَلَ» بـمعنى: فسأل موسى فرعون بنـي إسرائيـل أن يرسلهم معه علـى وجه الـخبر. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، عن حنظلة السَّدوسيّ، عن شهر بن حوشب، عن ابن عبـاس، أنه قرأ: «فَسأَلَ بَنِـي إسْرَائِيـلَ إذْ جاءَهُمْ» يعنـي أن موسى سأل فرعونَ بنـي إسرائيـل أن يرسلهم معه.

والقراءة التـي لا أستـجيز أن يُقرأ بغيرها، هي القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار، لإجماع الـحجة من القرّاء علـى تصويبها، ورغبتهم عما خالفهم.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 13:19
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { لَقَدْ عَلِـمْتَ } فقرأ عامة قرّاء الأمصار ذلك { لَقَدْ عَلِـمْتَ } بفتـح التاء، علـى وجه الـخطاب من موسى لفرعون. ورُوي عن علـيّ بن أبـي طالب رضوان الله علـيه فـي ذلك، أنه قرأ: «لَقَدْ عَلِـمْتُ» بضمّ التاء، علـى وجه الـخبر من موسى عن نفسه. ومن قرأ ذلك علـى هذه القراءة، فإنه ينبغي أن يكون علـى مذهبه تأويـل قوله
{ إنّـي لأَظُنُّكَ يا مُوسَى مَسْحُوراً }
إنـي لأظنك قد سُحِرت، فترى أنك تتكلـم بصواب ولـيس بصواب. وهذا وجه من التأويـل. غير أن القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار خلافها، وغير جائز عندنا خلاف الـحجة فـيـما جاءت به من القراءة مـجمعة علـيه.

وبعد، فإن الله تعالـى ذكره قد أخبر عن فرعون وقومه أنهم جحدوا ما جاءهم به موسى من الآيات التسع، مع علـمهم بأنها من عند الله بقوله
{ وأدْخِـلْ يَدَكَ فِـي جَيْبِكَ تَـخْرُجْ بَـيْضَاءَ مِنْ غيرِ سُوءٍ فِـي تِسْعِ آياتٍ إلـى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ، إنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فـاسِقِـينَ فَلَـمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِـينٌ وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَـيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْـماً وَعُلُوّاً }
فأخبر جلّ ثناؤه أنهم قالوا: هي سحر، مع علـمهم واستـيقان أنفسهم بأنها من عند الله، فكذلك قوله: { لَقَدْ عَلِـمْتَ } إنـما هو خبر من موسى لفرعون بأنه عالـم بأنها آيات من عند الله. وقد ذُكر عن ابن عبـاس أنه احتـجّ فـي ذلك بـمثل الذي ذكرنا من الـحجة. قال:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، أنه كان يقرأ: { لَقَدْ عَلِـمْتَ } يا فرعون بـالنصب { ما أنْزَلَ هَؤُلاءِ إلاَّ رَبُّ السَّمَواتِ والأرْضِ } ، ثم تلا
{ وَجَحَدُوا بِها واسْتَـيْقَنَتْها أنْفُسُهُمْ ظُلْـماً وعُلُوّاً }
فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: قال موسى لفرعون: لقد علـمت يا فرعون ما أنزل هؤلاء الآيات التسع البـينات التـي أريتكها حجة لـي علـى حقـيقة ما أدعوك إلـيه، وشاهدة لـي علـى صدق وصحة قولـي، إنـي لله رسول، ما بعثنـي إلـيك إلا ربّ السموات والأرض، لأن ذلك لا يقدر علـيه، ولا علـى أمثاله أحد سواه. { بصائر } يعنـي بـالبصائر: الآيات، أنهنّ بصائر لـمن استبصر بهنّ، وهدى لـمن اهتدى بهنّ، يعرف بهنّ من رآهنْ أن من جاء بهنّ فمـحقّ، وأنهنّ من عند الله لا من عند غيره، إذ كنّ معجزات لا يقدر علـيهنّ، ولا علـى شيء منهنّ سوى ربّ السموات والأرض وهو جمع بصيرة.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 13:25
وَقُرآناً فَرَقْناهُ لَتَقْرأَهُ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار { فَرَقْناهُ } بتـخفـيف الراء من فرقناه، بـمعنى: أحكمناه وفصلناه وبـيناه. وذُكر عن ابن عبـاس، أنه كان يقرؤه بتشديد الراء «فَرَّقْناهُ» بـمعنى: نزّلناه شيئا بعد شيء، آية بعد آية، وقصة بعد قصة.

وأولـى القراءتـين بـالصواب عندنا، القراءة الأولـى، لأنها القراءة التـي علـيها الـحجة مـجمعة، ولا يجوز خلافها فـيـما كانت علـيه مـجمعة من أمر الدين والقرآن. فإذا كان ذلك أولـى القراءتـين بـالصواب، فتأويـل الكلام: وما أرسلناك إلا مبشراً ونذيراً، وفصلناه قرآناً، وبـيَّناه وأحكمناه، لتقرأه علـى الناس علـى مكث. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك من التأويـل، قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { وَقُرآناً فَرَقْناهُ } يقول: فصلناه.

اسامة محمد خيري
09-02-2017, 13:36
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة، ما ذكرنا عن ابن عبـاس فـي الـخبر الذي رواه أبو جعفر، عن سعيد، عن ابن عبـاس، لأن ذلك أصحّ الأسانـيد التـي رُوِي عن صحابـيّ فـيه قولٌ مخرَّجا، وأشبه الأقوال بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، وذلك أن قوله: { وَلا تَـجْهِرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُـخافِتْ بِها } عقـيب قوله { قُلِ ادْعِوا اللّهَ أوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أيَّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الأسْماءُ الـحُسْنَى } وعقـيب تقريع الكفـار بكفرهم بـالقرآن، وذلك بعدهم منه ومن الإيـمان. فإذا كان ذلك كذلك، فـالذي هو أولـى وأشبه بقوله { وَلاَ تَـجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُـخافِتْ بِها } أن يكون من سبب ما هو فـي سياقه من الكلام، ما لـم يأت بـمعنى يوجب صرفه عنه، أو يكون علـى انصرافه عنه دلـيـل يعلـم به الانصراف عما هو فـي سياقه.

فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: قل ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أيا ما تدعوا فله الأسماء الـحسنى، ولا تـجهر يا مـحمد بقراءتك فـي صلاتك ودعائك فـيها ربك ومسألتك إياه، وذكرك فـيها، فـيؤذيك بجهرك بذلك الـمشركون، ولا تـخافت بها فلا يسمعها أصحابك { وَابْتَغِ بـينَ ذلكَ سبِـيلاً } ولكن التـمس بـين الـجهر والـمخافتة طريقا إلـى أن تسمع أصحابك، ولا يسمعه الـمشركون فـيؤذوك. ولولا أن أقوال أهل التأويـل مضت بـما ذكرت عنهم من التأويـل، وأنا لا نستـجيز خلافهم فـيـما جاء عنهم، لكان وجها يحتـمله التأويـل أن يقال: ولا تـجهر بصلاتك التـي أمرناك بـالـمخافتة بها، وهي صلاة النهار لأنها عجماء، لا يجهز بها، ولا تـخافت بصلاتك التـي أمرناك بـالـجهر، وهي صلاة اللـيـل، فإنها يجهر بها { وَابْتَغِ بـينَ ذلكَ سَبِـيلاً } بأن تـجهر بـالتـي أمرناك بـالـجهر بها، وتـخافت بـالتـي أمرناك بـالـمخافتة بها، لا تجهز بجميعها، ولا تـخافت بكلها، فكان ذلك وجها غير بعيد من الصحة، ولكنا لا نرى ذلك صحيحا لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى خلافه. فإن قال قائل: فأية قراءة هذه التـي بـين الـجهر والـمخافتة؟ قـيـل:

حدثنـي مطر بن مـحمد، قال: ثنا قتـيبة، ووهب بن جرير، قالا: ثنا شعبة، عن الأشعث بن سلـيـم، عن الأسود بن هلال، قال: قال عبد الله: لـم يخافت من أسمع أذنـيه.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا شعبة، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن عبد الله، مثله.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:09
سورة الكهف

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي، قراءة من قرأ: { كَبُرَتْ كَلِـمَةً } نصبـاً لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها، فتأويـل الكلام: عَظُمت الكلـمة كلـمة تـخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا: اتـخذ الله ولداً، والـملائكة بنات الله، كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق { كَبُرَتْ كَلِـمَةً تَـخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ } قولهم: إن الـملائكة بنات الله.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:18
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أم حسبت يا مـحمد أن أصحاب الكهف والرقـيـم كانوا من آياتنا عَجَبـا، فإن الذين آتـيتك من العلـم والـحكمة أفضل منه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { أمْ حَسِبْتَ أنَّ أصحَابَ الكَهْفِ والرَّقِـيـمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَبـاً } يقول: الذي آتـيتك من العلـم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقـيـم.

وإنـما قلنا: إن القول الأوّل أولـى بتأويـل الآية، لأنّ الله عزّ وجلّ أنزل قصة أصحاب الكهف علـى نبـيه احتـجاجاً بها علـى الـمشركين من قومه علـى ما ذكرنا فـي الرواية عن ابن عبـاس، إذ سألوه عنها اختبـاراً منهم له بـالـجواب عنها صدقه، فكان تقريعهم بتكذيبهم بـما هو أوكد علـيهم فـي الـحجة مـما سألوا عنهم، وزعموا أنهم يؤمنون عند الإجابة عنه أشبه من الـخبر عما أنعم الله علـى رسوله من النعم....

وأولى هذه الأقوال بـالصواب فـي الرقـيـم أن يكون معنـياً به: لوح، أو حجر، أو شيء كُتب فـيه كتاب. وقد قال أهل الأخبـار: إن ذلك لوح كُتب فـيه أسماء أصحاب الكهف وخبرهم حين أوَوْا إلـى الكهف. ثم قال بعضهم: رُفع ذلك اللوح فـي خزانة الـملك. وقال بعضهم: بل جُعل علـى بـاب كهفهم. وقال بعضهم: بل كان ذلك مـحفوظاً عند بعض أهل بلدهم. وإنـما الرقم: فعيـل. أصله: مرقوم، ثم صُرف إلـى فعيـل، كما قـيـل للـمـجروح: جريح، وللـمقتول: قتـيـل، يقال منه: رقمت كذا وكذا: إذا كتبته، ومنه قـيـل للرقم فـي الثوب رقم، لأنه الـخطّ الذي يعرف به ثمنه. ومن ذلك قـيـل للـحيَّة: أرقم، لـما فـيه من الآثار والعرب تقول: علـيك بـالرقمة، ودع الضفة: بـمعنى علـيك برقمة الوادي حيث الـماء، ودع الضفة الـجانبة. والضفتان: جانبـا الوادي. وأحسب أن الذي قال الرقـيـم: الوادي، ذهب به إلـى هذا، أعنـي به إلـى رقمة الوادي.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:24
وفـي نصب قوله { أمَداً } وجهان: أحدهما أن يكون منصوبـاً علـى التفسير من قوله أحْصَى كأنه قـيـل: أيّ الـحزبـين أصوب عددا لقدر لبثهم.

وهذا هو أولـى الوجهين فـي ذلك بـالصواب، لأن تفسير أهل التفسير بذلك جاء.

والآخر: أن يكون منصوبـاً بوقوع قوله { لَبِثُوا } علـيه، كأنه قال: أيّ الـحزبـين أحصى للبثهم غاية.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:35
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: الوصيد: البـاب، أو فناء البـاب حيث يغلق البـاب، وذلك أن البـاب يُوصَد، وإيصاده: إطبـاقه وإغلاقه من قول الله عزّ وجلّ:
{ إنَّهَا عَلَـيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ }
وفـيه لغتان: الأصيد، وهي لغة أهل نـجد، والوصيد: وهي لغة أهل تهامة. وذُكِر عن أبـي عمرو بن العلاء، قال: إنها لغة أهل الـيـمن، وذلك نظير قولهم: ورّخت الكتاب وأرخته، ووكدت الأمر وأكدته فمن قال الوصيد، قال: أوصدت البـاب فأنا أُوصِده، وهو مُوصَد ومن قال الأصيد، قال: آصدت البـاب فهو مُؤْصَد، فكان معنى الكلام: وكلبهم بـاسط ذَراعيه بفناء كهفهم عند البـاب، يحفظ علـيهم بـابه.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:39
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي قول من قال: إن الله تعالـى بعثهم من رقدتهم لـيتساءلوا بـينهم كما بـيَّنا قبل، لأن الله عزّ ذكره، كذلك أخبر عبـاده فـي كتابه، وإن الله أعثر علـيهم القوم الذين أعثرهم علـيهم، لـيتـحقق عندهم ببعث الله هؤلاء الفتـية من رقدتهم بعد طول مدتها بهيئتهم يوم رقدوا، ولـم يشيبوا علـى مرّ الأيام واللـيالـي علـيهم، ولـم يهرَموا علـى كرّ الدهور والأزمان فـيهم قدرته علـى بعث من أماته فـي الدنـيا من قبره إلـى موقـف القـيامة يوم القـيامة، لأن الله عزّ ذكره بذلك أخبرنا، فقال:
{ وكذلكَ أعْثَرنْا عَلَـيْهمْ لِـيَعْلَـمُوا أنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقّ وأنَّ السَّاعَة لا رَيْبَ فِـيها }..

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، فـي قوله: { أزْكَى طَعاماً } قال: خير طعاماً.

وأولـى الأقوال عندي فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: معنى ذلك: أحلّ وأطهر، وذلك أنه لا معنى فـي اختـيار الأكثر طعاماً للشراء منه إلا بـمعنى إذا كان أكثرهم طعاماً، كان خـلـيقاً أن يكون الأفضل منه عنده أوجد، وإذا شرط علـى الـمأمور الشراء من صاحب الأفضل، فقد أمر بشراء الـجيد، كان ما عند الـمشتري ذلك منه قلـيلاً الـجيد أو كثـيراً، وإنـما وجه من وجه تأويـل أزكى إلـى الأكثر، لأنه وجد العرب تقول: قد زكا مال فلان: إذا كثر، وكما قال الشاعر:
قَبـائِلُنا سَبْعٌ وأنُتُـمْ ثَلاثَةٌ وَللسَّبْعُ أزْكَى مِنْ ثَلاثٍ وأطْيَبُ
بمعنى: أكثر، وذلك وإن كان كذلك، فإن الـحلال الـجيد وإن قلّ، أكثر من الـحرام الـخبـيث وإن كثر. وقـيـل: { فَلْـيَنْظُرْ أيُّها } فأضيف إلـى كناية الـمدينة، والـمراد بها أهلها، لأن تأويـل الكلام: فلـينظر أيّ أهلها أزكى طعاماً لـمعرفة السامع بـالـمراد من الكلام. وقد يُحتـمل أن يكونوا عنوا بقولهم { أيُّها أزْكَى طَعاماً }: أيها أحلّ، من أجل أنهم كانوا فـارقوا قومهم وهم أهل أوثان، فلـم يستـجيزوا أكل ذبـيحتهم.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 05:54
وإنـما قـيـل له ذلك فـيـما بلغنا من أجل أنه وعد سائلـيه عن الـمسائل الثلاث اللواتـي قد ذكرناها فـيـما مضى، اللواتـي إحداهنّ الـمسألة عن أمر الفتـية من أصحاب الكهف أن يجيبهم عنهنّ غد يومهم، ولـم يستثن، فـاحتبس الوحي عنه فـيـما قـيـل من أجل ذلك خمس عشرة، حتـى حزنه إبطاؤه، ثم أنزل الله علـيه الـجواب عنهنّ، وعرف نبـيه سبب احتبـاس الوحي عنه، وعلَّـمه ما الذي ينبغي أن يستعمل فـي عِدَاته وخبره عما يحدث من الأمور التـي لـم يأته من الله بها تنزيـل، فقال: { وَلا تَقُولَنَّ } يا مـحمد { لِشَيْءٍ إنّـي فـاعِلٌ ذلك غَداً } كما قلت لهؤلاء الذين سألوك عن أمر أصحاب الكهف، والـمسائل التـي سألوك عنها، سأخبركم عنها غدا { إلاَّ أنْ يَشاءَ اللّهُ }. ومعنى الكلام: إلا أن تقول معه: إن شاء الله، فترك ذكر تقول اكتفـاء بـما ذكر منه، إذ كان فـي الكلام دلالة علـيه. وكان بعض أهل العربـية يقول: جائز أن يكون معنى قوله: { إلاَّ أنْ يَشاءَ اللّهُ } استثناء من القول، لا من الفعل كأن معناه عنده: لا تقولنّ قولاً إلا أن يشاء الله ذلك القول، وهذا وجه بعيد من الـمفهوم بـالظاهر من التنزيـل مع خلافه تأويـل أهل التأويـل...

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: واذكر ربك إذا تركت ذكره، لأن أحد معانـي النسيان فـي كلام العرب الترك، وقد بـيَّنا ذلك فـيـما مضى قبل.

فإن قال قائل: أفجائز للرجل أن يستثنـيَ فـي يـمينه إذ كان معنى الكلام ما ذكرت بعد مدة من حال حلفه؟ قـيـل: بل الصواب أن يستثنى ولو بعد حِنْثه فـي يـمينه، فـيقول: إن شاء الله لـيخرج بقـيـله ذلك مـما ألزمه الله فـي ذلك بهذه الآية، فـيسقط عنه الـحرج بتركه ما أمره بقـيـله من ذلك فأما الكفـارة فلا تسقط عنه بحال، إلا أن يكون استثناؤه موصولاً بـيـمينه.

فإن قال: فما وجه قول من قال له: ثُنْـياه ولو بعد سنة، ومن قال له ذلك ولو بعد شهر، وقول من قال ما دام فـي مـجلسه؟ قـيـل: إن معناهم فـي ذلك نـحو معنانا فـي أن ذلك له، ولو بعد عشر سنـين، وأنه بـاستثنائه وقـيـله إن شاء الله بعد حين من حال حلفه، يسقط عنه الـحرج الذي لو لـم يقله كان له لازما فأما الكفـارة فله لازمة بـالـحِنْث بكلّ حال، إلا أن يكون استثناؤه كان موصولاً بـالـحلف، وذلك أنا لا نعلـم قائلاً قال مـمن قال له الثُّنْـيا بعد حين يزعم أن ذلك يضع عنه الكفـارة إذا حنِث، ففـي ذلك أوضح الدلـيـل علـى صحة ما قلنا فـي ذلك، وأن معنى

القول فـيه، كان نـحو معنانا فـيه.

وقوله: { وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } يقول عزّ ذكره لنبـيه صلى الله عليه وسلم: قل ولعلّ الله أن يهدينـي فـيسدّدنـي لأسدَّ مـما وعدتكم وأخبرتكم أنه سيكون، إن هو شاء.

وقد قـيـل: إن ذلك مـما أُمر النبـيّ صلى الله عليه وسلم أن يقوله إذا نسي الاستثناء فـي كلامه، الذي هو عنده فـي أمر مستقبل مع قوله: إن شاء الله، إذا ذكر. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا الـمعتـمر، عن أبـيه، عن مـحمد، رجل من أهل الكوفة، كان يفسر القرآن، وكان يجلس إلـيه يحيى بن عبـاد، قال: { وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنّـي فـاعِلٌ ذلكَ غَداً إلاَّ أنْ يَشاءَ اللّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أنْ يَهْدِيَنَ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً } قال فقال: وإذا نسي الإنسان أن يقول: إن شاء الله، قال: فتوبته من ذلك، أو كفَّـارة ذلك أن يقول: { عَسَى أنْ يَهْدِينِ رَبّـي لأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَداً }.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 06:00
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال الله عزّ ذكره: ولبث أصحاب الكهف فـي كهفهم رقوداً إلـى أن بعثهم الله، لـيتساءلوا بـينهم، وإلـى أن أعثر علـيهم من أعثر، ثلاث مئة سنـين وتسع سنـين، وذلك أن الله بذلك أخبر فـي كتابه. وأما الذي ذُكر عن ابن مسعود أنه قرأ «وَقالُوا: وَلَبِثُوا فِـي كَهْفِهِم» وقول من قال: ذلك من قول أهل الكتاب، وقد ردّ الله ذلك علـيهم، فإن معناه فـي ذلك: إن شاء الله كان أن أهل الكتاب قالوا فـيـما ذكر علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن للفتـية من لدن دخـلوا الكهف إلـى يومنا ثلاث مئة سنـين وتسع سنـين، فردّ الله ذلك علـيهم، وأخبر نبـيه أن ذلك قدر لبثهم فـي الكهف من لدن أوَوا إلـيه أن بعثهم لـيتساءلوا بـينهم ثم قال جلّ ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم: قل يا مـحمد: الله أعلـم بـما لبثوا بعد أن قبض أرواحهم، من بعد أن بعثهم من رقدتهم إلـى يومهم هذا، لا يعلـم بذلك غير الله، وغير من أعلـمه الله ذلك.

فإن قال قائل: وما يدلّ علـى أن ذلك كذلك؟ قـيـل: الدالّ علـى ذلك أنه جلّ ثناؤه ابتدأ الـخبر عن قدر لبثهم فـي كهفهم ابتداء، فقال: { وَلِبثُوا فـي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مئَةٍ سنـينَ وَازْدَادُوا تسْعاً } ولـم يضع دلـيلاً علـى أن ذلك خبر منه عن قول قوم قالوه، وغير جائز أن يضاف خبره عن شيء إلـى أنه خبر عن غيره بغير برهان، لأن ذلك لو جاز جاز فـي كلّ أخبـاره، وإذا جاز ذلك فـي أخبـاره جاز فـي أخبـار غيره أن يضاف إلـيه أنها أخبـاره، وذلك قلب أعيان الـحقائق وما لا يخيـل فساده.

فإن ظنّ ظانّ أن قوله: { قُلِ اللّهُ أعْلَـمُ بِـمَا لَبِثُوا } دلـيـل علـى أن قوله: { وَلِبثُوا فِـي كَهْفِهِمْ } خبر منه عن قوم قالوه، فإن ذلك كان يجب أن يكون كذلك لو كان لا يحتـمل من التأويـل غيره فأما وهو مـحتـمل ما قلنا من أن يكون معناه: قل الله أعلـم بـما لبثوا إلـى يوم أنزلنا هذه السورة، وما أشبه ذلك من الـمعانـي فغير واجب أن يكون ذلك دلـيلاً علـى أن قوله: { وَلِبِثُوا فـي كَهْفِهِمْ } خبر من الله عن قوم قالوه، وإذا لـم يكن دلـيلاً علـى ذلك، ولـم يأت خبر بأن قوله: { وَلِبِثُوا فـي كَهْفِهِمْ } خَبر من الله عن قوم قالوه، ولا قامت بصحة ذلك حجة يجب التسلـيـم لها، صحّ ما قلنا، وفسَد ما خالفه....

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراة من قرأه: { ثلاثَ مِئَةٍ } بـالتنوين { سِنِـينَ } ، وذلك أن العرب إنـما تضيف الـمئة إلـى ما يفسرها إذا جاء تفسيرها بلفظ الواحد، وذلك كقولهم ثلاث مئة درهم، وعندي مئة دينار، لأن الـمئة والألف عدد كثـير، والعرب لا تفسر ذلك إلا بـما كان بـمعناه فـي كثرة العدد، والواحد يؤدّي عن الـجنس، ولـيس ذلك للقلـيـل من العدد، وإن كانت العرب ربـما وضعت الـجمع القلـيـل موضع الكثـير، ولـيس ذلك بـالكثـير. وأما إذا جاء تفسيرها بلفظ الـجمع، فإنها تنوّن، فتقول: عندي ألفٌ دراهمُ، وعندي مئةٌ دنانـير، علـى ما قد وصفت.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 09:04
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: ضياعاً وهلاكاً، من قولهم: أفرط فلان فـي هذا الأمر إفراطاً: إذا أسرف فـيه وتـجاوز قدره، وكذلك قوله: { وكانَ أمْرُهُ فُرُطاً } معناه: وكان أمر هذا الذي أغفلنا قلبه عن ذكرنا فـي الرياء والكبر، واحتقار أهل الإيـمان، سرفـاً قد تـجاوز حدّه، فَضَيَّع بذلك الـحقّ وهلك

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 09:21
وأولـى القراءات فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأ { وكانَ لَهُ ثُمُرٌ } بضمّ الثاء والـميـم لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وإن كانت جمع ثمار، كما الكتب جمع كتاب.

ومعنى الكلام: { وَفَجَّرْنا خِلاَلُهِما نَهَراً وكانَ لَهُ } منهما { ثُمُرٌ } بـمعنى من جنتـيه أنواع من الثمار. وقد بـين ذلك لـمن وفق لفهمه، قوله: { جَعَلْنا لأحَدِهِما جَنَّتَـيْنِ مِنْ أعْنابٍ وحَفَفْناهُما بنَـخْـلٍ وَجَعَلْنا بَـيْنَهُما زَرْعاً } ثم قال: وكان له من هذه الكروم والنـخـل والزرع ثمر.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 09:33
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: الولاية، فقرأ بعض أهل الـمدينة والبصرة والكوفة { هُنالكَ الوَلايَةُ } بفتـح الواو من الولاية، يعنون بذلك هنالك الـمُوالاة لله، كقول الله:
{ اللَّهُ وَلِـيُّ الَّذِينَ آمَنُوا }
وكقوله:
{ ذلكَ بأنَّ اللّهَ مَوْلَـى الَّذِينَ آمَنُوا }
يذهبون بها إلـى الوَلاية فـي الدين. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة: «هُنالِكَ الوِلايَةُ» بكسر الواو: من الـمُلك والسلطان، من قول القائل: وَلِـيتُ عمل كذا، أو بلدة كذا ألـيه ولاية.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأ بكسر الواو، وذلك أن الله عقب ذلك خبره عن مُلكه وسلطانه، وأن من أحلّ به نقمته يوم القـيامة فلا ناصر له يومئذٍ، فإتبـاع ذلك الـخبر عن انفراده بـالـمـملكة والسلطان أولـى من الـخبر عن الـموالاة التـي لـم يجر لها ذكر ولا معنى، لقول من قال: لا يسمَّى سلطان الله ولاية، وإنـما يسمى ذلك سلطان البشر، لأن الولاية معناها أنه يـلـي أمر خـلقه منفردا به دون جميع خـلقه، لا أنه يكون أميراً علـيهم.

واختلفوا أيضاً فـي قراءة قوله { الـحَقِّ } فقرأ ذلك عامَّة قرّاء الـمدينة والعراق خفضاً، علـى توجيهه إلـى أنه من نعت الله، وإلـى أن معنى الكلام: هنالك الولاية لله الـحقّ ألوهية، لا البـاطل بطول ألوهيته التـي يدعونها الـمشركون بـالله آلهة. وقرأ ذلك بعض أهل البصرة وبعض متأخري الكوفـيـين: «لِلّهِ الـحَقُّ» برفع الـحقّ توجيها منهما إلـى أنه من نعت الولاية، ومعناه: هنالك الولاية الـحقّ، لا البـاطل لله وحده لا شريك له

وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأه خفضاً علـى أنه من نعت الله، وأن معناه ما وصفت علـى قراءة من قرأه كذلك.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 09:45
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: هنّ جميع أعمال الـخير، كالذي رُوي عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس، لأن ذلك كله من الصالـحات التـي تبقـى لصاحبها فـي الآخرة، وعلـيها يجازي ويُثاب، وإن الله عزّ ذكره لـم يخصص من قوله { والبـاقِـياتُ الصَّالِـحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابـاً } بعضاً دون بعض فـي كتاب، ولا بخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن ظنّ ظانّ أن ذلك مخصوص بـالـخبر الذي رويناه عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنـما ورد بأن قول: سبحان الله، والـحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، هنّ من البـاقـيات الصالـحات، ولـم يقل: هنّ جميع البـاقـيات الصالـحات، ولا كلّ البـاقـيات الصالـحات وجائز أن تكون هذه بـاقـيات صالـحات، وغيرها من أعمال البرّ أيضا بـاقـيات صالـحات.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 09:57
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس، ومن وافقه فـي تأويـل الـموبق: أنه الـمهلك، وذلك أن العرب تقول فـي كلامها: قد أوبقت فلاناً: إذا أهلكته. ومنه قول الله عزّ وجلّ:
{ أوْ يُوبِقْهُنَّ بِـمَا كَسَبُوا }
بـمعنى: يهلكهنّ. ويقال للـمهلك نفسه: قد وبق فلان فهو يوبق وبقا. ولغة بنـي عامر: يابق بغير همز. وحُكي عن تـميـم أنها تقول: يبـيق. وقد حُكي وبق يبق وبوقا، حكاها الكسائي. وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل البصرة يقول: الـموبق: الوعد، ويستشهد لقـيـله ذلك بقول الشاعر:
وحادَ شَرَوْرَى فـالسَّتارَ فَلَـمْ يَدَعْ تِعاراً لَهُ والوَادِيَـيْنِ بِـمَوْبِقِ
ويتأوّله بموعد. وجائز أن يكون ذلك الـمهلك الذي جعل الله جلّ ثناؤه بـين هؤلاء الـمشركين، هو الوادي الذي ذكر عن عبد الله بن عمرو، وجائز أن يكون العداوة التـي قالها الـحسن.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 10:19
وقوله: { نَسيا حُوَتهُما } يعنـي بقوله: نسيا: تركا، كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { نَسيَا حُوَتهُما } قال: أضلاه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، قال: أضلاه.

قال بعض أهل العربـية: إن الـحوت كان مع يوشع، وهو الذي نسيه، فأضيف النسيان إلـيهما، كما قال:
{ يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤْلُؤُ والـمَرْجانُ }
وإنـما يخرج من الـملـح دون العذب.

وإنـما جاز عندي أن يقال: { نَسِيا } لأنهما كانا جميعا تزوّداه لسفرهما، فكان حمل أحدهما ذلك مضافـاً إلـى أنه حمل منهما، كما يقال: خرج القوم من موضع كذا، وحملوا معهم كذا من الزاد، وإنـما حمله أحدهما ولكنه لـما كان ذلك عن رأيهم وأمرهم أضيف ذلك إلـى جميعهم، فكذلك إذا نسيه حامله فـي موضع قـيـل: نسي القوم زادهم، فأضيف ذلك إلـى الـجميع بنسيان حامله ذلك، فـيجرى الكلام علـى الـجميع، والفعل من واحد، فكذلك ذلك فـي قوله: { نَسِيا حُوَتُهما } لأن الله عزّ ذكره خاطب العرب بلغتها، وما يتعارفونه بـينهم من الكلام.

وأما قوله:
{ يَخْرُجُ مِنْهُما اللُّؤلُؤُ والمَرْجانُ }
فإن القول فـي ذلك عندنا بخلاف ما قال فـيه، وسنبـينه إن شاء الله تعالـى إذا انتهينا إلـيه...

ثم اختلف أهل العلـم فـي صفة اتـخاذه سبـيـله فـي البحر سربـاً، فقال بعضهم: صار طريقه الذي يسلك فـيه كالـحجر. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس، قوله { سَرَبـاً } قال: أثره كأنه حجر.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبـيد الله بن عبد الله عن ابن عبـاس، عن أبـيّ بن كعب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر حديث ذلك: " ما انْـجابَ ماءٌ مُنْذُ كانَ النِّاسُ غيرُهُ ثَبَتَ مَكانُ الـحُوتِ الَّذِي فِـيهِ فـانْـجابَ كالكُوّةِ حتـى رَجَعَ إلَـيْهِ مُوسَى، فَرأى مَسْلَكَهُ، فقالَ: ذلكَ ما كُنَّا نَبْغي "

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن عطية، قال: ثنا عمرو بن ثابت، عن أبـيه، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، فـي قوله { فـاتَّـخَذَ سَبـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـاً } قال: جاء فرأى أثر جناحيه فـي الطين حين وقع فـي الـماء، قال ابن عبـاس { فـاتَّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـاً } وحلق بـيده.

وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر ماء جامداً. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قال: سرب من الـجرّ حتـى أفضى إلـى البحر، ثم سلك، فجعل لا يسلك فـيه طريقاً إلا صار ماء جامداً.

وقال آخرون: بل صار طريقه فـي البحر حجراً. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قال: جعل الـحوت لا يـمسّ شيئاً من البحر إلا يبس حتـى يكون صخرة.

وقال آخرون: بل إنـما اتـخذ سبـيـله سربـاً فـي البرّ إلـى الـماء، حتـى وصل إلـيه لا فـي البحر. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فـاتَّـخَذَ سَبِـيـلَهُ فِـي البَحْرِ سَرَبـاً } قال: قال: حشر الـحوت فـي البطحاء بعد موته حين أحياه الله. قال ابن زيد، وأخبرنـي أبو شجاع أنه رآه قال: أتـيت به فإذا هو شقة حوت وعين واحدة، وشقّ آخر لـيس فـيه شيء.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ: واتـخذ الـحوت طريقه فـي البحر سربـاً. وجائز أن يكون ذلك السرب كان بـانـجياب عن الأرض وجائز أن يكون كان بجمود الـماء وجائز أن يكون كان بتـحوّله حجراً.

وأصحّ الأقوال فـيه ما رُوي الـخبر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا عن أبـيّ عنه.

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 10:44
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تؤاخذنـي بتركي عهدك، ووجه أن معنى النسيان: الترك. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، قال: ثنـي مـحمد بن إسحاق، عن الـحسن بن عمارة، عن الـحكم، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس قالَ { لا تُؤاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ }: أي بـما تركت من عهدك.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن موسى سأل صاحبه أن لا يؤاخذِه بِـما نسِي فـيه عهده من سؤاله إياه علـى وجه ما فعل وسببه لا بـما سأله عنه، وهو لعهده ذاكر للصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأن ذلك معناه من الـخبر، وذلك ما:

حدثنا به أبو كريب، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا ابن عيـينة، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، عن أبـيّ بن كعب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم { لا تُؤاخِذْنِـي بِـمَا نَسِيتُ } قالَ: " كانَتِ الأُوَلـى مِنْ مُوسَى نِسْياناً "

اسامة محمد خيري
10-02-2017, 10:47
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة: «أقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً» وقالوا معنى ذلك: الـمطهرة التـي لا ذنب لها، ولـم تذنب قطّ لصغرها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: { نَفْساً زَكِيَّةً } بـمعنى: التائبة الـمغفور لها ذنوبها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { أقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } والزكية: التائبة.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { قالَ أقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } قال: الزكية: التائبة.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر أقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً قال: قال الـحسن: تائبة، هكذا فـي حديث الـحسن وشهْر زاكية.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: ثنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله { نَفْساً زَكيَّةً } قال: تائبة. ذكر من قال: معناها الـمسلـمة التـي لا ذنب لها:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنـي يعلـى بن مسلـم، أنه سمع سعيد بن جبـير يقول: وجد خضر غلـماناً يـلعبون، فأخذ غلاماً ظريفـاً فأضجعه ثم ذبحه بـالسكين. قال: وأخبرنـي وهب بن سلـيـمان عن شعيب الـجبئي قال: اسم الغلام الذي قتله الـخضر: جيسور «قالَ أقَتَلْتَ نَفْساً زَاكِيَةً» قال: مسلـمة. قال: وقرأها ابن عبـاس: { زَكِيَّةً } كقولك: زكياً.

وكان بعض أهل العلـم بكلام العرب من أهل الكوفة يقول: معنى الزكية والزاكية واحد، كالقاسية والقسية، ويقول: هي التـي لـم تـجن شيئا، وذلك هو الصواب عندي لأنـي لـم أجد فرقاً بـينهما فـي شيء من كلام العرب.

فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتـين قرأ ذلك القارىء فمصيب، لأنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار بـمعنى واحد.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:00
والصواب من القول فـي ذلك أن يُقال: إن الله عزّ ذكره أخبر أن صاحب موسى وموسى وجدا جداراً يريد أن ينقضّ فأقامه صاحب موسى، بـمعنى: عَدَل مَيَـله حتـى عاد مستوياً. وجائز أن يكون كان ذلك بإصلاح بعد هدم. وجائز أن يكون كان برفع منه له بـيده، فـاستوى بقدرة الله، وزال عنه مَيْـلُه بلطفه، ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر للعذر قاطع بأيّ ذلك كان من أيّ.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:11
حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة { وكانَ تَـحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما } قال: مال لهما، قال قتادة: أُحِلَّ الكنز لـمن كان قبلنا، وحُرّم علـينا، فإن الله يُحلّ من أمره ما يشاء، ويحرّم، وهي السنن والفرائض، ويحلّ لأمة، ويحرّم علـى أخرى، لكنّ الله لا يقبل من أحد مضى إلا الإخلاص والتوحيد له.

وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب: القول الذي قاله عِكْرمة، لأن الـمعروف من كلام العرب أن الكنز اسم لـما يكنز من من مال، وأن كلّ ما كنز فقد وقع علـيه اسم كنز، فإن التأويـل مصروف إلـى الأغلب من استعمال الـمخاطبـين بـالتنزيـل، ما لـم يأت دلـيـل يجب من أجله صرفه إلـى غير ذلك، لعلل قد بـيَّناها فـي غير موضع.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:16
اختلفت القراء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «فـاتَّبع» بوصل الألف، وتشديد التاء، بـمعنى: سلك وسار، من قول القائل: اتَّبعتُ أثر فلان: إذا قـفوته وسرت وراءه. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة
{ فَأَتْبَعَ }
بهمز، وتـخفـيف التاء، بـمعنى لـحق.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ: «فـاتَّبَعَ» بوصل الألف، وتشديد التاء، لأن ذلك خبر من الله تعالـى ذكره عن مسير ذي القرنـين فـي الأرض التـي مكن له فـيها، لا عن لـحاقه السبب، وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس «فـاتَّبَعَ سَبَبـاً» يعنـي بـالسبب: الـمنزل.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:22
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرأة الأمصار، ولكلّ واحدة منهما وجه صحيح ومعنى مفهوم، وكلا وجهيه غير مفسد أحدهما صاحبه، وذلك أنه جائز أن تكون الشمس تغرب فـي عين حارّة ذات حمأة وطين، فـيكون القارىء فـي عين حامية وصفها بصفتها التـي هي لها، وهي الـحرارة، ويكون القارىء فـي عين حمئة واصفها بصفتها التـي هي بها وهي أنها ذات حمأة وطين. وقد رُوي بكلا صيغتـيها اللتـين قلت إنهما من صفتـيها أخبـار.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:25
يقول: وأما من صدّق الله منهم ووحدَّه، وعمل بطاعته، فله عند الله الـحسنى، وهي الـجنة، { جزاء } يعنـي ثوابـا علـى إيـمانه، وطاعته ربه.

وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: «فَلَهُ جَزَاءُ الـحُسْنَى» برفع الـجزاء وإضافته إلـى الـحسنى.

وإذا قرىء ذلك كذلك، فله وجهان من التأويـل:

أحدهما: أن يجعل الـحسنى مراداً بها إيـمانه وأعماله الصالـحة، فـيكون معنى الكلام إذا أريد بها ذلك: وإما من آمن وعمل صالـحاً فله جزاؤها، يعنـي جزاء هذه الأفعال الـحسنة.

والوجه الثانـي: أن يكون معنـيا بـالـحسنى: الـجنة، وأضيف الـجزاء إلـيها، كما قـيـل
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ }
والدار: هي الآخرة، وكما قال:
{ وَذلكَ دِينُ القَـيِّـمَة }
والدين: هو القـيـم.

وقرأ آخرون: { فَلَهُ جَزَاءً الـحُسْنى } بـمعنى: فله الـجنة جزاء فـيكون الـجزاء منصوبـاً علـى الـمصدر، بـمعنى: يجازيهم جزاء الـجنة.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندي قراءة من قرأه: { فَلَهُ جَزاءً الـحُسْنَى } بنصب الـجزاء وتنوينه علـى الـمعنى الذي وصفت، من أن لهم الـجنة جزاء، فـيكون الـجزاء نصبـا علـى التفسير.

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 05:33
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { يَفْقَهُونَ } فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة { يَفْقَهُونَ قَوْلاً } بفتـح القاف والـياء، من فقَه الرجل يفقه فقهاً. وقرأ ذلك عامَّة قرّاء أهل الكوفة «يُفْقِهُونَ قَوْلاً» بضمّ الـياء وكسر القاف: من أفقهت فلاناً كذا أفقهه إفقاها: إذا فهمته ذلك.

والصواب عندي من القول فـي ذلك، أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى وذلك أن القوم الذين أخبر الله عنهم هذا الـخبر جائز أن يكونوا لا يكادون يفقهون قولاً لغيرهم عنهم، فـيكون صوابـاً القراءة بذلك. وجائز أن يكونوا مع كونهم كذلك كانوا لا يكادون أن يفقهوا غيرهم لعلل: إما بألسنتهم، وإما بـمنطقهم، فتكون القراءة بذلك أيضاً صوابـاً...

فـالـخبر الذي ذكرناه عن وهب بن منبه فـي قصة يأجوج ومأجوج، يدلّ علـى أن الذين قالوا لذي القرنـين { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إنـما أعلـموه خوفَهم ما يُحدث منهم من الإفساد فـي الأرض، لا أنهم شَكَوا منهم فساداً كان منهم فـيهم أو فـي غيرهم، والأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم سيكون منهم الإفساد فـي الأرض، ولا دلالة فـيها أنهم قد كان منهم قبل إحداث ذي القرنـين السدّ الذي أحدثه بـينهم وبـين من دونهم من الناس فـي الناس غيرهم إفساد.

فإذا كان ذلك كذلك بـالذي بـيَّنا، فـالصحيح من تأويـل قوله { إنَّ يَأْجُوجَ ومَأْجُوج مُفْسِدُونَ فِـي الأرْضِ } إن يأجوج ومأجوج سيفسدون فـي الأرض...

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب قراءة من قرأه: «فَهَلْ نَـجْعَلُ لَكَ خَرَاجاً» بـالألف، لأن القوم فـيـما ذُكر عنهم، إنـما عرضوا علـى ذي القرنـين أن يعطوه من أموالهم ما يستعين به علـى بناء السدِّ، وقد بـين ذلك بقوله:
{ فَأعِينُونِـي بقُوَّةٍ أجْعَلْ بَـيْنَكُمْ وبَـيْنَهُمْ رَدْماً }
ولـم يعرضوا علـيه جزية رؤوسهم. والـخراج عند العرب: هو الغلة...

اسامة محمد خيري
11-02-2017, 06:06
والصواب من القول فـي ذلك، ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما:

حدثنا به أحمد بن أبـي سريج، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا همام بن يحيى، قال: ثنا زيد بن أسلـم، عن عطاء بن يسار، عن عبـادة بن الصامت، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: " الـجَنَّةُ مِئَةُ دَرَجَةٍ، ما بـينَ كُلّ دَرَجَتَـينِ مَسِيرَةُ عامٍ والفِرْدَوْسُ أعْلاها دَرَجَةً، وَمِنْها الأنهَارُ الأرْبَعَةُ، والفِرْدَوْسُ مِنْ فَوْقِها، فإذَا سألْتُـمُ اللَّهَ فـاسألُوهُ الفِرْدَوْسَ "

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 05:08
سورة مريم

وقرأ ذلك جماعة من قرّاء أهل الكوفة والبصرة: «يَرِثْنِـي ويَرِثْ» بجزم الـحرفـين علـى الـجزاء والشرط، بـمعنى: فهب لـي من لدنك ولـيا فإنه يرثنـي إذا وهبته لـي. وقال الذين قرأوا ذلك كذلك: إنـما حسُن ذلك فـي هذا الـموضع، لأن يرثنـي من آية غير التـي قبلها. قالوا: وإنـما يحسُن أن يكون مثل هذا صلة، إذا كان غير منقطع عما هو له صلة، كقوله:
{ رِدْءاً يُصَدِّقُنِـي }


قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأه برفع الـحرفـين علـى الصلة للولـيّ، لأنّ الولـيّ نكرة، وأن زكريا إنـما سأل ربه أن يهب له ولـيا يكون بهذه الصفة، كما رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أنه سأله ولـيا، ثم أخبر أنه إذا وهب له ذلك كانت هذه صفته، لأن ذلك لو كان كذلك، كان ذلك من زكريا دخولاً فـي علـم الغيب الذي قد حجبه الله عن خـلقه.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 05:14
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بغُلامٍ اسمُهُ يَحْيَى لَـمْ نَـجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } لـم يسمّ أحد قبله يحيى.

قال أبو جعفر: وهذا القول أعنـي قول من قال: لـم يكن لـيحيى قبل يحيى أحد سمي بـاسمه أشبه بتأويـل ذلك، وإنـما معنى الكلام: لـم نـجعل للغلام الذي نهب لك الذي اسمه يحيى من قبله أحدا مسمى بـاسمه، والسميّ: فعيـل صرف من مفعول إلـيه.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 05:30
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الـحجاز والعراق غير أبـي عمرو: { لأهَبَ لَكِ } بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك: يقول: أرسلنـي إلـيك لأهب لك { غُلاَماً زَكِيًّا } علـى الـحكاية. وقرأ ذلك أبو عمرو بن العلاء: «لِـيَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا» بـمعنى: إنـما أنا رسول ربك أرسلنـي إلـيك لـيهب الله لك غلاماً زكياً.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك، ما علـيه قرّاء الأمصار، وهو { لأَهَبَ لَكِ } بـالألف دون الـياء، لأن ذلك كذلك فـي مصاحف الـمسلـمين، وعلـيه قراءة قديـمهم وحديثهم، غير أبـي عمرو، وغير جائز خلافهم فـيـما أجمعوا علـيه، ولا سائغ لأحد خلاف مصاحفهم، والغلام الزكيّ: هو الطاهر من الذنوب وكذلك تقول العرب: غلام زاكٍ وزكيّ، وعال وعلـيّ.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 05:41
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندنا قول من قال: الذي ناداها ابنها عيسى، وذلك أنه من كناية ذكره أقرب منه من ذكر جبرائيـل، فردّه علـى الذي هو أقرب إلـيه أولـى من ردّه علـى الذي هو أبعد منه، ألا ترى فـي سياق قوله
{ فحَمَلَتْهُ فـانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا }
يعنـي به: فحملت عيسى فـانتبذت به، ثم قـيـل: فناداها نسقاً علـى ذلك من ذكر عيسى والـخبر عنه. ولعلة أخرى، وهي قوله:
{ فأشارَتْ إلَـيْهِ }
ولـم تشر إلـيه إن شاء الله إلا وقد علـمت أنه ناطق فـي حاله تلك، وللذي كانت قد عرفت ووثقت به منه بـمخاطبته إياها بقوله لها: { أنْ لا تَـحْزَنِـي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } وما أخبر الله عنه أنه قال لها أشيري للقوم إلـيه، ولو كان ذلك قولاً من جبرائيـل، لكان خـلـيقاً أن يكون فـي ظاهر الـخبر، مبـيناً أن عيسى سينطق، ويحتـجّ عنها للقوم، وأمر منه لها بأن تشير إلـيه للقوم إذا سألوها عن حالها وحاله.

فإذا كان ذلك هو الصواب من التأويـل الذي بـيَّنا، فبـين أن كلتا القراءتـين، أعنـي { مِنْ تَـحْتِها } بـالكسر، و«مَنْ تَـحْتَها» بـالفتـح صواب. وذلك أنه إذا قرىء بـالكسر كان فـي قوله { فَنادَاها } ذكر من عيسى: وإذا قرىء { مِنْ تَـحْتِها } بـالفتـح كان الفعل لـمن وهو عيسى. فتأويـل الكلام إذاً: فناداها الـمولد من تـحتها أن لا تـحزنـي يا أمه { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } ...

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَـحْتَكِ سَرِيًّا } يعنـي نفسه، قال: وأيّ شيء أسرى منه، قال: والذين يقولون: السريّ: هو النهر لـيس كذلك النهر، لو كان النهر لكان إنـما يكون إلـى جنبها، ولا يكون النهر تـحتها.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قـيـل من قال: عنى به الـجدول، وذلك أنه أعلـمها ما قد أعطاها الله من الـماء الذي جعله عندها، وقال لها { وَهُزّي إلَـيْكِ بِجِذْعِ النَّـخْـلَةِ تُساقِطْ عَلَـيْكِ رُطَبـاً جَنِـيًّا فَكُلِـي } من هذا الرطب...

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن هذه القراءات الثلاث، أعنـي تَسَّاقَطُ بـالتاء وتشديد السين، وبـالتاء وتـخفـيف السين، وبـالـياء وتشديد السين، قراءات متقاربـات الـمعانـي، قد قرأ بكل واحدة منهنّ قرّاء أهل معرفة بـالقرآن، فبأيّ ذلك قرأ القارىء فمصيب الصواب فـيه، وذلك أن الـجذع إذا تساقط رطبـاً، وهو ثابت غير مقطوع، فقد تساقطت النـخـلة رطبـاً، وإذا تساقطت النـخـلة رطبـاً، فقد تساقطت النـخـلة بأجمعها، جذعها وغير جذعها، وذلك أن النـخـلة ما دامت قائمة علـى أصلها، فإنـما هي جذع وجريد وسعف، فإذا قطعت صارت جذعاً، فـالـجذع الذي أمرت مريـم بهزّه لـم يذكر أحد نعلـمه أنه كان جذعاً مقطوعاً غير السديّ، وقد زعم أنه عاد بهزّها إياه نـخـلة، فقد صار معناه ومعنى من قال: كان الـمتساقط علـيها رطبـاً نـخـلة واحدةً، فتبـين بذلك صحة ما قلنا....

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 05:52
حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { يا أُخْتَ هارُونَ } قال: كانت من بنـي هارون أخي موسى، وهو كما تقول: يا أخا بنـي فلان.

وقال آخرون: بل كان ذلك رجلاً منهم فـاسقاً معلن الفسق، فنسبوها إلـيه.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك ما جاء به الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرناه، وأنها نسبت إلـى رجل من قومها.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 06:02
وقد اختفلت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء الـحجاز والعراق: «قَوْلُ الـحَقّ» برفع القول، علـى ما وصفت من الـمعنى، وجعلوه فـي إعرابه تابعا لعيسى، كالنعت له، ولـيس الأمر فـي إعرابه عندي علـى ما قاله الذين زعموا أنه رفع علـى النعت لعيسى، إلا أن يكون معنى القول الكلـمة، علـى ما ذكرنا عن إبراهيـم، من تأويـله ذلك كذلك، فـيصحّ حينئذٍ أن يكون نعتا لعيسى، وإلا فرفعه عندي بـمضمر، وهو هذا قول الـحقّ علـى الابتداء، وذلك أن الـخبر قد تناهى عن قصة عيسى وأمه عند قوله { ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـمَ } ثم ابتدأ الـخبر بأن الـحقّ فـيـما فـيه تـمتري الأمـم من أمر عيسى، هو هذا القول، الذي أخبر الله به عنه عبـاده، دون غيره. وقد قرأ ذلك عاصم بن أبـي النَّـجُود وعبد الله بن عامر بـالنصب، وكأنهما أرادا بذلك الـمصدر: ذلك عيسى ابن مريـم قولاً حقاً، ثم أدخـلت فـيه الألف واللام. وأما ما ذُكر عن ابن مسعود من قراءته: «ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَـم قالُ الـحقّ»، فإنه بـمعنى قول الـحقّ، مثل العاب والعيب، والذام والذيـم.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: الرفع، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 06:05
وقوله: { وَإنَّ اللَّهَ رَبّـي وَرَبُّكُمْ فـاعْبُدُوهُ } اختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: «وأنَّ اللَّهَ رَبّـي وَرَبكُمْ» واختلف أهل العربـية فـي وجه فتـح «أن» إذا فتـحت، فقال بعض نـحوِّيـي الكوفة: فُتـحت ردّاً علـى عيسى وعطفـاً علـيه، بـمعنى: ذلك عيسى ابن مريـم، وذلك أن الله ربـي وربكم. وإذا كان ذلك كذلك كانت أن رفعا، وتكون بتأويـل خفض، كما قال:
{ ذَلِكَ أنْ لَـمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى بِظُلْـمٍ }
قال: ولو فتـحت علـى قوله:
{ وأوْصَانِـي }
بأن الله، كان وجهاً. وكان بعض البصريـين يقول: وذُكر ذلك أيضاً عن أبـي عمرو بن العلاء، وكان مـمن يقرؤه بـالفتـح إنـما فتـحت أن بتأويـل
{ وَقَضَى }
أن الله ربـي وربُّكم. وكانت عامة قرّاء الكوفـيـين يقرؤونه: { وَإنَّ اللَّهَ } بكسر إن بـمعنى النسق علـى قوله: { فإنَّـما يَقُولُ لَهُ }. وذُكر عن أبـيّ بن كعب أنه كان يقرؤه: «فإنَّـما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَـيَكُونُ إنَّ اللَّهَ رَبِّـي وَرَبُّكُمْ» بغير واو.

قال أبو جعفر: والقراءة التـي نـختار فـي ذلك: الكسر علـى الابتداء. وإذا قرىء كذلك لـم يكن لها موضع، وقد يجوز أنَّ يكون عطفـاً علـى «إنَّ» التـي مع قوله
{ قالَ إنِّـي عَبْدُ اللَّهِ آتانِـيَ الكِتابَ وَإنَّ اللَّهَ رَبِّـي وَرَبُّكُمْ }
ولو قال قائل، مـمن قرأ ذلك نصبـاً: نصب علـى العطف علـى الكتاب، بـمعنى: آتانـي الكتاب، وآتانـي أن الله ربـي وربُّكم، كان وجهاً حسناً. ومعنى الكلام: وإنـي وأنتـم أيها القوم جميعاً الله عبـيد، فإياه فـاعبدوا دون غيره. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عمن لايتهم، عن وهب بن منبه، قال: عهد إلـيهم حين أخبرهم عن نفسه ومولده وموته وبعثه { إنَّ اللَّهَ رَبِّـي وَرَبُّكُمْ فـاعْبُدُوهُ هذَا صِراطٌ مُسْتَقِـيـمٌ } أي إنـي وإياكم عبـيد الله، فـاعبدوه ولا تعبدوا غيره.

اسامة محمد خيري
12-02-2017, 06:16
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله { وَاهْجُرْنِـي مَلـيًّا }: اجتنبنـي سالـما لا يصيبك منـي معرّة.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين بتأويـل الآية عندي قول من قال: معنى ذلك: واهجرنـي سوياً، سِلـماً من عقوبتـي، لأنه عقـيب قوله: { لَئِنْ لَـمْ تَنْتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ } وذلك وعيد منه له إن لـم ينته عن ذكر آلهته بـالسوء أن يرجمه بـالقول السيىء، والذي هو أولـى بأن يتبع ذلك التقدّم إلـيه بـالانتهاء عنه قبل أن تناله العقوبة، فأما الأمر بطول هجره فلا وجه له.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:05
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك عندي بتأويـل الآية، قول من قال: أضعتـموها تركهم إياها لدلالة قول الله تعالـى ذكره بعده علـى أن ذلك كذلك، وذلك قوله جلّ ثناؤه:
{ إلاَّ مَنْ تابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِـحاً }
فلو كان الذين وصفهم بأنهم ضيعوها مؤمنـين لـم يستثن منهم من آمن، وهم مؤمنون ولكنهم كانوا كفـاراً لا يصلون لله، ولا يؤدّون له فريضة فسقة قد آثروا شهوات أنفسهم علـى طاعة الله، وقد قـيـل: إن الذين وصفهم الله بهذه الصفة قوم من هذه الأمة يكونون فـي آخر الزمان...

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:17
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: معناه: له ما بـين أيدينا من أمر الآخرة، لأن ذلك لـم يجيء وهو جاء، فهو بـين أيديهم، فإن الأغلب فـي استعمال الناس إذا قالوا: هذا الأمر بـين يديك، أنهم يعنون به ما لـم يجيء، وأنه جاء، فلذلك قلنا: ذلك أولـى بـالصواب. وما خـلفنا من أمر الدنـيا، وذلك ما قد خـلفوه فمضى، فصار خـلفهم بتـخـلـيفهم إياه، وكذلك تقول العرب لـما قد جاوزه الـمرء وخـلفه هو خـلفه، ووراءه وما بـين ذلك: ما بـين ما لـم يـمض من أمر الدنـيا إلـى الآخرة، لأن ذلك هو الذي بـين ذينك الوقتـين.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى التأويلات به، لأن ذلك هو الظاهر الأغلب، وإنـما يحمل تأويـل القرآن علـى الأغلب من معانـيه، ما لـم يـمنع من ذلك ما يجب التسلـيـم له. فتأويل الكلام إذاً: فلا تستبطئنا يا مـحمد فـي تـخـلفنا عنك، فإنا لا نتنزّل من السماء إلـى الأرض إلا بأمر ربك لنا بـالنزول إلـيها، لله ما هو حادث من أمور الآخرة التـي لـم تأت وهي آتـية، وما قد مضى فخـلفناه من أمر الدنـيا، وما بـين وقتنا هذا إلـى قـيام الساعة. بـيده ذلك كله، وهو مالكه ومصرّفه، لا يـملك ذلك غيره، فلـيس لنا أن نـحدث فـي سلطانه أمراً إلا بأمره إيانا به { وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } يقول: ولـم يكن ربك ذا نسيان، فـيتأخر نزولـي إلـيك بنسيانه إياك بل هو الذي لا يعزُب عنه شيء فـي السماء ولا فـي الأرض تبـارك وتعالـى ولكنه أعلـم بـما يدبر ويقضي فـي خـلقه. جل ثناؤه. وبنـحو ما قلنا فـي تأويل ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد { وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا } قال: ما نسيك ربك.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:19
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { أوَلا يَذْكُرُ الإنْسانُ } فقرأه بعض قرّاء الـمدينة والكوفة: { أوَلا يَذْكُرُ } بتـخفـيف الذال، وقد قرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة والبصرة والـحجاز: «أوَلا يَذَّكَّرُ» بتشديد الذال والكاف، بـمعنى: أو لا يتذكر، والتشديد أعجب إلـيّ، وإن كانت الأخرى جائزة، لأن معنى ذلك: أو لا يتفكر فـيعتبر...

يقول تعالـى ذكره: ثم لنـحن أعلـم من هؤلاء الذين ننزعهم من كلّ شيعة أولاهم بشدّة العذاب، وأحقهم بعظيـم العقوبة. وذكر عن ابن جريج أنه كان يقول فـي ذلك ما:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج { ثُمَّ لَنَـحْنُ أعْلَـمُ بـالَّذِينَ هُمْ أوْلَـى بِها صِلـيًّا } قال: أولـى بـالـخـلود فـي جهنـم.

قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله ابن جريج، قول لا معنى له، لأن الله تعالـى ذكره أخبر أن الذين ينزعهم من كلّ شيعة من الكفرة أشدّهم كفراً، ولا شكّ أنه لا كافر بـالله إلا مخـلَّد فـي النار، فلا وجه، وجميعهم مخـلدون فـي جهنـم، لأن يقال: ثم لنـحن أعلـم بـالذين هم أحقّ بـالـخـلود من هؤلاء الـمخـلدين، ولكن الـمعنى فـي ذلك ما ذكرنا. وقد يحتـمل أن يكون معناه: ثم لنـحن أعلـم بـالذين هم أولـى ببعض طبقات جهنـم صلـياً. والصلـيّ: مصدر صلـيت تصلـي صلـياً، والصلـي: فعول، ولكن واوها انقلبت ياء فأدغمت فـي الـياء التـي بعدها التـي هي لام الفعل، فصارت ياء مشدّدة.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:30
وأولى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: يردها الـجميع ثم يصدر عنها الـمؤمنون، فـينـجيهم الله، ويهوي فـيها الكفـار وورودهموها هو ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من مرورهم علـى الصراط الـمنصوب علـى متن جهنـم، فناج مسلـم ومكدس فـيها...

ذكر الأخبـار الـمروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبـي سفـيان، عن جابر، عن أمّ مبشر امرأة زيد بن حارثة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو فـي بـيت حفصة: " لا يَدْخُـلُ النَّارَ أحَدٌ شَهِدَ بَدْراً والحُدَيْبِـيَةَ " قالت: فقالت حفصة: يا رسول الله، ألـيس الله يقول: { وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها }؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " فمَهْ ثُمَّ يَنَـجِّي اللَّهُ الَّذِين اتَّقُوا "

حدثنـي أحمد بن عيسى، قال: ثنا سعيد بن كثـير بن عُفَـير، قال: ثنا ابن لَهيعة، عن أبـي الزبـير، قال: سألت جابر بن عبد الله عن الورود، فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " هُوَ الدُّخولُ، يَردُونَ النَّارَ حتـى يَخْرُجُوا مِنْها، فآخِرُ مَنْ يَبْقَـى رَجُلٌ عَلـى الصِّراطِ يَزْحَفُ، فَـيرْفَعُ اللّهُ لَهُ شَجَرَةً، قالَ: فَـيَقُولُ: أيْ رَبِّ أدْنَنِـي مِنْها، قالَ: فَـيُدْنِـيهِ اللّهُ تَبـارَكَ وتَعَالـى مِنْها، قالَ: ثُمَّ يَقُولُ: أيْ رَبِّ أدْخِـلْنِـي الـجَنَّةَ، قالَ: فَـيَقُولُ: سَلْ، قالَ: فَـيَسألُ، قال: فَـيَقُولُ: ذلكَ لَكَ وَعَشْرَةُ أضْعافِهِ أوْ نَـحْوُها قالَ: فَـيَقُولُ: يا رَبّ تَسْتَهْزِىءُ بِـي؟ قالَ: فَـيَضْحَكُ حتـى تَبْدُو لَهْوَاتُهُ وأضْرَاسُهُ "

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي يحيى بن أيوب «ح» وحدثنا أبو كريب، قال: ثنا مـحمد بن زيد، عن رشدين، جميعا عن زياد بن فـائد، عن سهل بن معاذ، عن أبـيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " مَنْ حَرَسَ وَرَاءَ الـمُسْلِـمِينَ فِـي سَبِـيـلِ اللّهِ مُتَطَوِّعاً، لا يأْخُذُهُ سُلْطانٌ بحرَسٍ، لَـمْ يَرَ النَّارَ بعَيْنِهِ إلاَّ تَـحِلَّةَ القَسَمِ، فإنَّ اللّهَ تَعالـى يَقُولُ وَإنْ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها "

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرَّزاق، قال: أخبرنا معمر، أخبرنـي الزهريّ، عن ابن الـمسيب عن أبـي هريرة، أن النبـيّ صلى الله عليه وسلم قال: " مَنْ ماتَ لَهُ ثَلاثَةٌ لَـمْ تَـمَسَّهُ النَّارُ إلاَّ تَـحِلَّةَ القَسَمِ " يعنـي: الورود.

وأما قوله: { كانَ عَلَـى رَبِّكَ حَتْـماً مَقْضِيًّا } فإن أهل التأويـل اختلفوا فـي تأويـله، فقال بعضهم معناه: كان علـى ربك قضاء مقضياً. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن قال: ثنا ورقاء، جميعا عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { حَتْـماً } قال: قضاء.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج { حَتْـماً مَقْضِيًّا } قال: قضاء.

وقال آخرون: بل معناه: كان علـى ربك قسماً واجبـاً. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو عمرو داود بن الزِّبْرِقان، قال: سمعت السديّ يذكر عن مرّة الهمدانـيّ، عن ابن مسعود { كانَ عَلـى رَبِّكَ حَتْـماً مَقْضِيًّا } قال: قسماً واجبـاً.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { كانَ عَلـى رَبِّكَ حَتْـماً مَقْضِيًّا } يقول: قسماً واجبـاً.

قال أبو جعفر: وقد بـيَّنت القول فـي ذلك.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:36
قال أبو جعفر: وأولـى القراءات فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأ { أثاثاً وَرِئْياً } بـالراء والهمز، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى أن معناه: الـمنظر، وذلك هو من رؤية العين، لا من الروية، فلذلك كان الـمهموز أولـى به، فإن قرأ قارىء ذلك بترك الهمز، وهو يريد هذا الـمعنى، فغير مخطىء فـي قراءته. وأما قراءته بـالزاي فقراءة خارجة، عن قراءة القرّاء، فلا أستـجيز القراءة بها لـخلافها قراءتهم، وإن كان لهم فـي التأويـل وجه صحيح.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 05:56
و«مَن» فـي قوله: { إلاَّ مَنْ } فـي موضع نصب علـى الاستثناء، ولا يكون خفضاً بضمير اللام، ولكن قد يكون نصبـاً فـي الكلام فـي غير هذا الـموضع، وذلك كقول القائل: أردت الـمرور الـيوم إلا العدوّ، فإنـي لا أمر به، فـيستثنى العدوُ من الـمعنى، ولـيس ذلك كذلك فـي قوله: { لا يَـمْلِكُونَ الشَّفـاعَةَ إلاَّ مَنِ اتَّـخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْداً } لأن معنى الكلام: لا يـملك هؤلاء الكفـار إلا من آمن بـالله، فـالـمؤمنون لـيسوا من أعداد الكافرين، ومن نصبه علـى أن معناه إلا لـمن اتـخذ عند الرحمن عهدا، فإنه ينبغي أن يجعل قوله لا يـملكون الشفـاعة للـمتقـين، فـيكون معنى الكلام حينئذ يوم نـحشر الـمتقـين إلـى الرحمن وفداً، لا يـملكون الشفـاعة، إلا من اتـخذ عند الرحمن عهداً. فـيكون معناه عند ذلك: إلا لـمن اتـخذ عند الرحمن عهداً. فأما إذا جعل لا يـملكون الشفـاعة خبراً عن الـمـجرمين، فإن «من» تكون حينئذ نصبـاً علـى أنه استثناء منقطع، فـيكون معنى الكلام: لا يـملكون الشفـاعة، لكن من اتـخذ عند الرحمن عهداً يـملكه.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 06:11
سورة طه

حدثنا علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، فـي قوله: { طَهَ } قال: فإنه قسم أقسم الله به، وهو اسم من أسماء الله.

وقال آخرون: هو حروف هجاء.

وقال آخرون: هو حروف مقطَّعة يدلّ كلّ حرف منها علـى معنى، واختلفوا فـي ذلك اختلافهم فـي الـم، وقد ذكرنا ذلك فـي مواضعه، وبـيَّنا ذلك بشواهده.

والذي هو أولـى بـالصواب عندي من الأقوال فـيه: قول من قال: معناه: يا رجل، لأنها كلـمة معروفة فـي عكَ فـيـما بلغنـي، وأن معناها فـيهم: يا رجل،

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 06:17
والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: معناه: يعلـم السرّ وأخفـى من السرّ، لأن ذلك هو الظاهر من الكلام ولو كان معنى ذلك ما تأوّله ابن زيد، لكان الكلام: وأخفـى الله سرّه، لأن أخفـى: فعل واقع متعدّ، إذ كان بـمعنى فعل علـى ما تأوّله ابن زيد، وفـي انفراد أخفـى من مفعوله، والذي يعمل فـيه لو كان بـمعنى فعل الدلـيـل الواضح علـى أنه بـمعنى أفعل، وأن تأويـل الكلام: فإنه يعلـم السرّ وأخفـى منه. فإذ كان ذلك تأويـله، فـالصواب من القول فـي معنى أخفـى من السرّ أن يقال: هو ما علـم الله مـما أخفـى عن العبـاد، ولـم يعلـموه مـما هو كائن ولـما يكن، لأن ما ظهر وكان فغير سرّ، وأن ما لـم يكن وهو غير كائن فلا شيء، وأن ما لـم يكن وهو كائن فهو أخفـى من السرّ، لأن ذلك لا يعلـمه إلاَّ الله، ثم من أعلـمه ذلك من عبـاده.

اسامة محمد خيري
13-02-2017, 06:29
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: أمره الله تعالـى ذكره بخـلع نعلـيه لـيبـاشر بقدميه بركة الوادي، إذ كان وادياً مقدساً.

وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويـلـين بـالصواب، لأنه لا دلالة فـي ظاهر التنزيـل علـى أنه أمر بخـلعهما من أجل أنهما من جلد حمار ولا لنـجاستهما، ولا خبر بذلك عمن يـلزم بقوله الـحجة، وإن فـي قوله { إنَّكَ بـالوَادِ الـمُقَدَّسِ } بعقبه دلـيلاً واضحاً، علـى أنه إنـما أمره بخـلعهما لـما ذكرنا. ولو كان الـخبر الذي:

حدثنا به بشر قال: ثنا خـلف بن خـلـيفة عن حميد بن عبد الله بن الـحارث، عن ابن مسعود، عن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم، قال: " يَوْمَ كَلَّـمَ اللّهُ مُوسَى، كانَتْ عَلَـيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وكساءُ صُوفٍ، وسَرَاوِيـلُ صُوفٍ، وَنَعْلانِ مِنْ جِلْدِ حِمارٍ غيرِ مُذَكَى " صحيحاً لـم نعده إلـى غيره، ولكن فـي إسناده نظر يجب التثبت فـيه.....

واختلفت القراءة فـي قراءة قوله: { إنّـي أنا رَبُّكَ } فقرأ ذلك بعض قرّاء الـمدينة والبصرة: «نُودِيَ يا مُوسَى أنّـي» بفتـح الألف من «أنـي»، فأنّ علـى قراءتهم فـي موضع رفع بقوله: نودي، فإن معناه كان عندهم: نودي هذا القول. وقرأه بعض عامة قرّاء الـمدينة والكوفة بـالكسر: { نُودِيَ يا موسى إنـي } علـى الابتداء، وأن معنى ذلك قـيـل: يا موسى إنـي.

قال أبو جعفر: والكسر أولـى القراءتـين عندنا بـالصواب، وذلك أن النداء قد حال بـينه وبـين العمل فـي أن قوله «يا موسى»، وحظ قوله «نودي» أن يعمل فـي أن لو كانت قبل قوله «يا موسى»، وذلك أن يقال: نودي أن يا موسى إنـي أنا ربك، ولا حظّ لها فـي «إن» التـي بعد موسى...

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين عندي بـالصواب قراءة من قرأه بضم الطاء والتنوين، لأنه إن يكن اسماً للوادي فحظه التنوين لـما ذكر قبل من العلة لـمن قال ذلك، وإن كان مصدراً أو مفسراً، فكذلك أيضاً حكمه التنوين، وهو عندي اسم الوادي. وإذ كان ذلك كذلك، فهو فـي موضع خفض ردّاً علـى الوادي.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 04:56
قال أبو جعفر: وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب تأويـل من قال: معناه: أقم الصلاة لتذكرنـي فـيها، لأن ذلك أظهر معنـيـيه ولو كان معناه: حين تذكرها، لكان التنزيـل: أقم الصلاة لذكركها. وفـي قوله: { لِذِكْرِي } دلالة بـينة علـى صحة ما قال مـجاهد فـي تأويـل ذلك ولو كانت القراءة التـي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفـيضة فـي قَراءة الأمصار، كان صحيحاً تأويـل من تأوّله بـمعنى: أقم الصلاة حين تذكرها، وذلك أن الزهري وجَّه بقراءته أقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرَى بـالألف لا بـالإضافة، إلـى أقم لذكراها، لأن الهاء والألف حذفتا، وهما مرادتان فـي الكلام لـيوفق بـينها وبـين سائر رؤوس الآيات، إذ كانت بـالألف والفتـح.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:02
قال أبو جعفر: والذي هو أولـى بتأويـل الآية من القول، قول من قال: معناه: أكاد أخفـيها من نفسي، لأن تأويـل أهل التأويـل بذلك جاء. والذي ذُكر عن سعيد بن جبـير من قراءة ذلك بفتـح الألف قراءة لا أستـجيز القراءة بها لـخلافها قراءة الـحجة التـي لا يجوز خلافها فـيـما جاءت به نقلاً مستفـيضاً.

فإن قال قائل: ولـم وجهت تأويـل قوله { أكادُ أُخْفِـيها } بضم الألف إلـى معنى: أكاد أخفـيها من نفسي، دون توجيهه إلـى معنى: أكاد أظهرها، وقد علـمت أن للإخفـاء فـي كلام العرب وجهين: أحدهما الإظهار، والآخر الكتـمان وأن الإظهار فـي هذا الـموضع أشبه بـمعنى الكلام، إذ كان الإخفـاء من نفسه يكاد عند السامعين أن يستـحيـل معناه، إذ كان مـحالاً أن يخفـي أحد عن نفسه شيئاً هو به عالـم، والله تعالـى ذكره لا يخفـى علـيه خافـية؟ قـيـل: الأمر فـي ذلك بخلاف ما ظننت، وإنـما وجَّهنا معنى { أُخْفِـيها } بضمّ الألف إلـى معنى: أسترها من نفسي، لأن الـمعروف من معنى الإخفـاء فـي كلام العرب: الستر. يقال: قد أخفـيت الشيء: إذا سترته. وأن الذين وجَّهوا معناه إلـى الإظهار، اعتـمدوا علـى بـيت لامرىء القـيس ابن عابس الكندي.

حُدثت عن معمر بن الـمثنى أنه قال: أنشدنـيه أبو الـخطاب، عن أهله فـي بلده:
فإنْ تُدْفِنُوا الدَّاءَ لا نُـخْفِهِ وإنْ تَبْعَثُوا الـحَرْبَ لا نَقْعُدُ
بضمّ النون من لا نـخفه، ومعناه: لا نظهره، فكان اعتـمادهم فـي توجيه الإخفـاء فـي هذا الـموضع إلـى الإظهار علـى ما ذكروا من سماعهم هذا البـيت، علـى ما وصفت من ضم النون من نـخفه. وقد أنشدنـي الثقة عن الفرّاء:
فإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لا نَـخْفِهِ
بفتـح النون من نـخفه، من خفـيته أخفـيه، وهو أولـى بـالصواب لأنه الـمعروف من كلام العرب. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الفتـح فـي الألف من أَخفـيها غير جائز عندنا لـما ذكرنا، ثبت وصحّ الوجه الآخر، وهو أن معنى ذلك: أكاد استرها من نفسي.

وأما وجه صحة القول فـي ذلك، فهو أن الله تعالـى ذكره خاطب بـالقرآن العرب علـى ما يعرفونه من كلامهم وجرى به خطابهم بـينهم فلـما كان معروفـاً فـي كلامهم أن يقول أحدهم إذا أراد الـمبـالغة فـي الـخبر عن إخفـائه شيئاً هو له مسرّ: قد كدت أن أخفـي هذا الأمر عن نفسي من شدّة استسراري به، ولو قدرت أخفـيه عن نفسي أخفـيته، خاطبهم علـى حسب ما قد جرى به استعمالهم فـي ذلك من الكلام بـينهم، وما قد عرفوه فـي منطقهم. وقد قـيـل فـي ذلك أقوال غير ما قلنا، وإنـما اخترنا هذا القول علـى غيره من الأقوال لـموافقة أقوال أهل العلـم من الصحابة والتابعين، إذ كنا لا نستـجيز الـخلاف علـيهم، فـيـما استفـاض القول به منهم، وجاء عنهم مـجيئاً يقطع العذر.
..

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:15
وذُكر عن عبد الله بن أبـي إسحاق أنه كان يقرأ: «أَشْدُد بِهِ أزْرِي» بفتـح الألف من أشدد «وأُشْرِكْه فِـي أمْرِي» بضم الألف من أشركه، بـمعنى الـخبر من موسى عن نفسه، أنه يفعل ذلك، لا علـى وجه الدعاء. وإذا قرىء ذلك كذلك جزم أشدد وأشرك علـى الـجزاء، أو جواب الدعاء، وذلك قراءة لا أرى القراءة بها، وإن كان لها وجه مفهوم، لـخلافها قراءة الـحجة التـي لا يجوز خلافها.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:19
قال أبو جعفر: والذي هو أولـى بـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله ألقـى مـحبته علـى موسى، كما قال جلّ ثناؤه { وألْقَـيْتَ عَلَـيْكَ مَـحَبَّةً مِنِّـي } فحببه إلـى آسية امرأة فرعون، حتـى تبنَّته وغذّته وربَّته، وإلـى فرعون، حتـى كفّ عنه عاديته وشرّه. وقد قـيـل: إنـما قـيـل: وألقـيت علـيك مـحبة منـي، لأنه حببه إلـى كل من رآه. ومعنى { ألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبَّةً مِنِّـي } حببتك إلـيهم يقول الرجل لآخر إذا أحبه: ألقـيت علـيك رحمتـي: أي مـحبتـي.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:26
وقرأ ابن نهيك: «وَلِتَصْنَعَ» بفتـح التاء. وتأوّله كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الـمؤمن، قال: سمعت أبـا نهيك يقرأ «وَلِتَصْنَعَ عَلـى عَيْنِـي» فسألته عن ذلك، فقال: ولتعمل علـى عينـي.

قال أبو جعفر: والقراءة التـي لا أستـجيز القراءة بغيرها
{ وَلِتُصْنَعَ }
بضم التاء، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. وإذا كان ذلك كذلك، فأولـى التأويـلـين به، التأويـل الذي تأوّله قَتادَة، وهو:
{ وَألْقَـيْتُ عَلَـيْكَ مَـحَبَّةً مِنِّـي }
ولتغذى علـى عينـي، ألقـيت علـيك الـمـحبة منـي. وعنى بقوله: عَلـى عَيْنِـي بـمرأى منـي ومـحبة وإرادة....

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:32
وقوله: { قالَ رَبُّنا الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمَّ هَدَى } يقول تعالـى ذكره: قال موسى له مـجيبـاً: ربنا الذي أعطى كلّ شيء خـلقه، يعنـي: نظير خـلقه فـي الصورة والهيئة كالذكور من بنـي آدم، أعطاهم نظير خـلقهم من الإناث أزواجاً، وكالذكور من البهائم، أعطاها نظير خـلقها، وفـي صورتها وهيئتها من الإناث أزواجاً، فلـم يعط الإنسان خلاف خـلقه، فـيزوّجه بـالإناث من البهائم، ولا البهائم بـالإناث من الإنس، ثم هداهم للـمأتـي الذي منه النسل والنـماء كيف يأتـيه، ولسائر منافعه من الـمطاعم والـمشارب، وغير ذلك...


قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك، لأنه جلّ ثناؤه أخبر أنه أعطى كلّ شيء خـلقه، ولا يعطي الـمعطي نفسه، بل إنـما يعطي ما هو غيره، لأن العطية تقتضي الـمعطي الـمُعطَى والعطية، ولا تكون العطية هي الـمعْطَى، وإذا لـم تكن هي هو، وكانت غيره، وكانت صورة كلّ خـلق بعض أجزائه، كان معلوماً أنه إذا قـيـل: أعطى الإنسان صورته، إنـما يعنـي أنه أعطى بعض الـمعانـي التـي به مع غيره دعي إنساناً، فكأن قائله قال: أعطى كلّ خـلق نفسه، ولـيس ذلك إذا وجه إلـيه الكلام بـالـمعروف من معانـي العطية، وإن كان قد يحتـمله الكلام. فإذا كان ذلك كذلك، فـالأصوب من معانـيه أن يكون موجهاً إلـى أن كلّ شيء أعطاه ربه مثل خـلقه، فزوّجه به، ثم هداه لـما بـيَّنا، ثم ترك ذكر مثل، وقـيـل { أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَـلْقَه } كما يقال: عبد الله مثل الأسد، ثم يحذف مثل، فـيقول: عبد الله الأسد.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:50
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا: { إنّ } بتشديد نونها، وهذان بـالألف لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأنه كذلك هو فـي خطّ الـمصحف. ووجهه إذا قرىء كذلك مشابهته الذين إذ زادوا علـى الذي النون، وأقرّ فـي جميع الأحوال الإعراب علـى حالة واحدة، فكذلك { إنَّ هَذَانِ } زيدت علـى هذا نون وأقرّ فـي جميع أحوال الإعراب علـى حال واحدة، وهي لغة بلـحرث بن كعب، وخثعم، وزبـيد، ومن ولـيهم من قبـائل الـيـمن...

وقوله: { وَيَذْهَبـا بطَرِيقَتِكُمْ الـمُثْلَـى } يقول: ويغلبـا علـى ساداتكم وأشرافكم، يقال: هو طريقة قومه ونظورة قومه، ونظيرتهم إذا كان سيدهم وشريفهم والـمنظور إلـيه، يقال ذلك للواحد والـجمع، وربـما جمعوا، فقالوا: هؤلاء طرائق قومهم ومنه قول الله تبـارك وتعالـى:
{ كُنَّا طَرَائقَ قِدَاداً }
وهؤلاء نظائر قومهم. وأما قوله: { الـمُثْلَـى } فإنها تأنـيث الأمثل، يقال للـمؤنث، خذ الـمثلـى منهما. وفـي الـمذكر: خذ الأمثل منهما، ووحدت الـمثلـى، وهي صفة ونعت للـجماعة، كما قـيـل:
{ لهُ الأسْماءُ الـحُسْنَى }
، وقد يحتـمل أن يكون الـمُثلـى أنثت لتأنـيث الطريقة.

وبنـحو ما قلنا فـي معنى قوله: { بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثلَـى } يقول: أمثلكم وهم بنو إسرائيـل.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } قال: أولـي العقل والشرف والأنساب.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، فـي قوله { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } قال: أولـي العقول والأشراف والأنساب.

حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } وطريقتهم الـمُثلـى يومئذٍ كانت بنو إسرائيـل، وكانوا أكثر القوم عدداً وأموالاً وأولاداً. قال عدوّ الله: إنـما يريدان أن يذهبـا بهم لأنفسهما.

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة فـي قوله { بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } قال: ببنـي إسرائيـل.

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { وَيَذْهَبَـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } يقول: يذهبـا بأشراف قومكم.

وقال آخرون: معنى ذلك: ويغيرا سنتكم ودينكم الذي أنتـم علـيه، من قولهم: فلان حسن الطريقة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } قال: يذهبـا بـالذي أنتـم علـيه، يغير ما أنتـم علـيه. وقرأ:
{ ذَرُونِـي أقْتُلْ مُوسَى وَلـيْدْعُ رَبَّهُ إنّـي أخافُ أنْ يُبَدّلَ دِينَكُمْ أوْ أنْ يُظْهِرَ فِـي الأرْضِ الفَسادَ }
قال: هذا قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } وقال: يقول طريقتكم الـيوم طريقة حسنة، فإذا غيرت ذهبت هذه الطريقة. ورُوي عن علـي فـي معنى قوله: { وَيَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } ما:

حدثنا به القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن القاسم، عن علـيّ بن أبـي طالب، قال: يصرفـان وجوه الناس إلـيهما.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد فـي قوله: { ويَذْهَبـا بِطَرِيقَتِكُمُ الـمُثْلَـى } وإن كان قولاً له وجه يحتـمله الكلام، فإن تأويـل أهل التأويـل خلافه، فلا أستـجيز لذلك القول به.

اسامة محمد خيري
14-02-2017, 05:57
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { فأجْمِعُوا كَيْدَكُم } فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والكوفة { فأجْمِعُوا كَيْدَكُمْ } بهمز الألف من { فأجْمِعُوا } ، ووجَّهوا معنى ذلك إلـى: فأحكموا كيدكم، واعزموا علـيه من قولهم: أجمع فلان الـخروج، وأجمع علـى الـخروج، كما يقال: أزمع علـيه ومنه قول الشاعر:
يا لَـيْت شعْرِي والـمُنى لا تَنْفَعُ هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِيَ مُـجْمَعُ
يعنـي بقوله: «مـجمع» قد أحكم وعزم علـيه ومنه قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: " مَنْ لَـمْ يُجْمِعْ عَلـى الصَّوْمِ مِن اللَّـيْـلِ فَلا صَوْم لَهُ "

وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل البصرة: «فـاجْمِعُوا كَيْد كُمْ» بوصل الألف، وترك همزها، من جمعت الشيء، كأنه وجَّهه إلـى معنى: فلا تدَعوا من كيدكم شيئاً إلا جئتـم به. وكان بعض قارئي هذه القراءة يعتلّ فـيـما ذُكر لـي لقراءته ذلك كذلك بقوله:
{ فَتَوَّلـى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ }


قال أبو جعفر: والصواب فـي قراءة ذلك عندنا همز الألف من أجمع، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه، وأن السحرة هم الذين كانوا به معروفـين، فلا وجه لأن يقال لهم: اجمعوا ما دعيتـم له مـما أنتـم به عالـمون، لأن الـمرء إنـما يجمع ما لـم يكن عنده إلـى ما عنده، ولـم يكن ذلك يوم تزيد فـي علـمهم بـما كانوا يعملونه من السحر، بل كان يوم إظهاره، أو كان متفرّقا مـما هو عنده، بعضه إلـى بعض، ولـم يكن السحر متفرّقاً عندهم فـيجمعونه. وأما قوله:
{ فَجَمَعَ كَيْدَهُ }
فغير شبـيه الـمعنى بقوله { فَأجِمعُوا كَيْدَكُمْ } وذلك أن فرعون كان هو الذي يجمع ويحتفل بـما يغلب به موسى مـما لـم يكن عنده مـجتـمعاً حاضراً، فقـيـل: فتولـى فرعون فجمع كيده....

واختلفت القراءة فـي قراءة قوله: { يُخَيَّـلُ إلَـيْهِ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار { يُخَيَّـلُ إلَـيْهِ } بـالـياء بـمعنى: يخيـل إلـيهم سعيها. وإذا قرىء ذلك كذلك، كانت «أن» فـي موضع رفع. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرؤه: «تُـخَيَّـلُ» بـالتاء، بـمعنى: تـخيـل حبـالهم وعصيهم بأنها تسعى. ومن قرأ ذلك كذلك، كانت «أن» فـي موضع نصب لتعلق تـخيـل بها. وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: «تُـخَيَّـلُ إلَـيْهِ» بـمعنى: تتـخيـل إلـيه. وإذا قرىء ذلك كذلك أيضا ف«أن» فـي موضع نصب بـمعنى: تتـخيـل بـالسعي لهم.

والقراءة التـي لا يجوز عندي فـي ذلك غيرها { يُخَيَّـلُ } بـالـياء، لإجماع الـحجة من القراء علـيه...

وقوله: { وَلَتَعْلَـمُنَّ أيُّنا أشَدُّ عَذَابـاً وأبْقَـى } يقول: ولتعلـمنّ أيها السحرة أينا أشدّ عذابـاً لكم، وأدوم، أنا أو موسى.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 05:43
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله { لا تَـخافُ دَرَكاً } فقرأته عامَّة قرّاء الأمصار غير الأعمش وحمزة: { لا تَـخافُ دَرَكاً } علـى الاستئناف بلا، كما قال:
{ وَاصْطَبِرْ عَلَـيْها لا نَسألُكَ رِزْقاً }
فرفع، وأكثر ما جاء فـي هذا الأمر الـجواب مع «لا». وقرأ ذلك الأعمش وحمزة «لا تَـخَفْ دَرَكاً» فجزما لا تـخاف علـى الـجزاء، ورفعا { وَلا تَـخْشَى } علـى الاستئناف، كما قال جلّ ثناؤه:
{ يُوَلُّوكُمُ الأدْبـارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ }
فـاستأنف بثم، ولو نوى بقوله: { ولاَ تَـخْشَى } الـجزم، وفـيه الـياء، كان جائزاً، كما قال الراجز:
هُزّي إلَـيْكِ الـجِذْعَ يَجْنِـيكِ الـجَنى
وأعجب القراءتـين إلـيّ أن أقرأ بها: { لا تـخافُ } علـى وجه الرفع، لأن ذلك أفصح اللغتـين، وإن كانت الأخرى جائزة. وكان بعض نـحويـي البصرة يقول: معنى قوله: { لا تَـخافُ دَرَكاً } اضرب لهم طريقاً لا تـخاف فـيه دركاً، قال: وحذف فـيه، كما تقول: زيد أكرمت، وأنت تريد: أكرمته، وكما تقول:
{ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَـجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً }
أي لا تـجزى فـيه. وأما نـحويو الكوفة فإنهم ينكرون حذف فـيه إلا فـي الـمواقـيت، لأنه يصلـح فـيها أن يقال: قمت الـيوم وفـي الـيوم، ولا يجيزون ذلك فـي الأسماء.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 06:05
وقد اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة: «بِـمَلْكِنا» بفتـح الـميـم، وقرأته عامة قرّاء الكوفة: «بِـمُلْكِنا» بضم الـميـم، وقرأه بعض أهل البصرة { بِـمِلْكِنا } بـالكسر. فأما الفتـح والضمّ فهما بـمعنى واحد، وهما بقدرتنا وطاقتنا، غير أن أحدهما مصدر، والآخر اسم. وأما الكسر فهو بـمعنى ملك الشيء وكونه للـمالك.

واختلف أيضا أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم: معناه: ما أخـلفنا موعدك بأمرنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ عن ابن عبـاس، قوله: { ما أخْـلَفْنا مَوْعِدَكَ بِـمَلْكِنا } يقول: بأمرنا.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { بِـمَلْكِنا } قال: بأمرنا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد، مثله.

وقال آخرون: معناه: بطاقتنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { قالُوا ما أخْـلَفْنا مَوْعِدَكَ بِـمَلْكِنا }: أي بطاقتنا.

حدثنا موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السدي: { قالُوا ما أخْـلَفْنا مَوْعِدَكَ بِـمَلْكِنا } يقول: بطاقتنا.

وقال آخرون: معناه: ما أخـلفنا موعدك بهوانا، ولكنا لـم نـملك أنفسنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { ما أخْـلَفْنا مَوْعِدَكَ بِـمَلْكِنا } قال: يقول بهوانا، قال: ولكنه جاءت ثلاثة، قال ومعهم حلـيّ استعاروه من آل فرعون، وثـياب.

وقال أبو جعفر: وكلّ هذه الأقوال الثلاثة فـي ذلك متقاربـات الـمعنى، لأن من لـم يهلك نفسه، لغلبة هواه علـى ما أمر، فإنه لا يـمتنع فـي اللغة أن يقول: فعل فلان هذا الأمر، وهو لا يـملك نفسه وفعله، وهو لا يضبطها وفعله وهو لا يطيق تركه. فإذا كان ذلك كذلك، فسواء بأيّ القراءات الثلاث قرأ ذلك القارىء، وذلك أن من كسر الـميـم من الـملك، فإنـما يوجه معنى الكلام إلـى ما أخـلفنا موعدك، ونـحن نـملك الوفـاء به لغلبة أنفسنا إيانا علـى خلافه، وجعله من قول القائل: هذا ملك فلان لـما يـملكه من الـمـملوكات، وأن من فتـحها، فإنه يوجه معنى الكلام إلـى نـحو ذلك، غير أنه يجعله مصدراً من قول القائل: ملكت الشيء أملكه ملكاً وملكة، كما يقال: غلبت فلاناً أغلبه غَلبـاً وغَلَبة، وأن من ضمها فإنه وجَّه معناه إلـى ما أخـلفنا موعدك بسلطاننا وقدرتنا، أي ونـحن نقدر أن نـمتنع منه، لأن كل من قهر شيئاً فقد صار له السلطان علـيه.

وقد أنكر بعض الناس قراءة من قرأه بـالضمّ، فقال: أيّ ملك كان يومئذٍ لبنـي إسرائيـل، وإنـما كانوا بـمصر مستضعفـين، فأغفل معنى القوم وذهب غير مرادهم ذهابـاً بعيداً وقارئو ذلك بـالضم لـم يقصدوا الـمعنى الذي ظنه هذا الـمنكر علـيهم ذلك، وإنـما قصدوا إلـى أن معناه: ما أخـلفنا موعدك بسلطان كانت لنا علـى أنفسنا نقدر أن نردّها عما أتت، لأن هواها غلبنا علـى إخلافك الـموعد....

وقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض الـمكيـين: «حَمَلْنا» بتـخفـيف الـحاء والـميـم وفتـحهما، بـمعنى أنهم حملوا ذلك من غير أن يكلفهم حمله أحد.

قال أبو جعفر: والقول عندي فـي تأويـل ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متقاربتا الـمعنى، لأن القوم حملوا، وأن موسى قد أمرهم بحمله، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب....

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا مُعاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { هَذَا إلهُكُمْ وَإلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ } يقول: نسي موسى ربه فأخطأه، وهذا العجل إله موسى.

قال أبو جعفر: والذي هو أولـى بتأويـل ذلك القول الذي ذكرناه عن هؤلاء، وهو أن ذلك خبر من الله عزّ ذكره عن السامريّ أنه وصف موسى بأنه نسي ربه، وأنه ربه الذي ذهب يريده هو العجل الذي أخرجه السامري، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـيه، وأنه عقـيب ذكر موسى، وهو أن يكون خبراً من السامريّ عنه بذلك أشبه من غيره.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 06:12
قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب، القول الذي قاله ابن عبـاس من أن موسى عذل أخاه هارون علـى تركه اتبـاع أمره بـمن اتبعه من أهل الإيـمان، فقال له هارون: إنـي خشيت أن تقول، فرّقت بـين جماعتهم، فتركت بعضهم وراءك، وجئت ببعضهم، وذلك بـيِّن فـي قول هارون للقوم
{ يا قَومِ إنَّـمَا فُتِنْتُـمْ بِهِ وَإنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فـاتَّبِعُونِـي وأطِيعُوا أمْرِي }
وفـي جواب القوم له وقـيـلهم
{ لَنْ نَبْرَحَ عَلَـيْهِ عاكفِـينَ حتـى يَرْجِعَ إلَـيْنا مُوسَى }

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 06:20
وقوله: { لَنُـحَرَقَنَّهُ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامَّة قرْاء الـحجاز والعراق لَنُـحَرّقَنَّهُ بضم النون وتشديد الراء، بـمعنى لنـحرقنه بـالنار قطعة قطعة. ورُوي عن الـحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: «لَنُـحْرِقَنَّهُ» بضم النون، وتـخفـيف الراء، بـمعنى: لنـحرقنه بـالنار إحراقة واحدة، وقرأه أبو وجعفر القارىء: «لَنَـحْرُقَنَّهُ» بفتـح النون وضم الراء بـمعنى: لنبردنه بـالـمبـارد من حرقته أحرقه وأحرّقه، كما قال الشاعر:
بِذِي فِرْقَـيْنِ يَوْمَ بَنُو حُبَـيْبٍ نُـيُوَبهُمُ عَلَـيْنا يَحْرُقُونا
والصواب فـي ذلك عندنا من القراءة { لَنُـحَرّقَنَّهُ } بضم النون وتشديد الراء، من الإحراق بـالنار، كما:

حدثنـي علـيّ قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { لَنُـحَرّقَنَّهُ } يقول: بـالنار.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 06:36
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بـالعوج: الـميـل، وذلك أن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب.

فإن قال قائل: وهل فـي الأرض الـيوم من عوج، فـيقال: لا ترى فـيها يومئذٍ عوجاً. قـيـل: إن معنى ذلك: لـيس فـيها أودية وموانع تـمنع الناظر أو السائر فـيها عن الأخذ علـى الاستقامة، كما يحتاج الـيوم من أخذ فـي بعض سبلها إلـى الأخذ أحيانا يـميناً، وأحياناً شمالاً، لـما فـيها من الـجبـال والأودية والبحار. وأما الأمت فإنه عند العرب: الانثناء والضعف. مسموع منهم: مدّ حبله حتـى ما ترك فـيه أمتا: أي انثناء وملأ سقاءه حتـى ما ترك فـيه أمتاً ومنه قول الراجز:
ما فِـي انْـجذَابِ سَيْرِهِ مِنْ أمْتِ
يعنـي: من وهن وضعف، فـالواجب إذا كان ذلك معنى الأمت عندهم أن يكون أصوب الأقوال فـي تأويـله: ولا ارتفـاع ولا انـخفـاض، لأن الانـخفـاض لـم يكن إلاَّ عن ارتفـاع. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: لا ترى فـيها ميلاً عن الاستواء، ولا ارتفـاعاً، ولا انـخفـاضاً، ولكنها مستوية ملساء، كما قال جلّ ثناؤه: { قاعاً صَفْصَفـاً }.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 06:44
وقوله { يَعْلَـمُ ما بـينَ أيْدِيهِمْ وَما خَـلْفَهُمْ } يقول تعالـى ذكره: يعلـم ربك يا مـحمد ما بـين أيدي هؤلاء الذين يتبعون الداعي من أمر القـيامة، وما الذي يصيرون إلـيه من الثواب والعقاب { وَما خَـلفَهُمْ } يقول: ويعلـم أمر ما خـلفوه وراءهم من أمر الدنـيا، كما:

حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { يَعْلَـمُ ما بـينَ أيْدِيهمْ } من أمر الساعة { وَما خَـلْفَهُمْ } من أمر الدنـيا.

وقوله: { وَلا يُحيطُونَ بهِ علْـماً } يقول تعالـى ذكره: ولا يحيط خـلقه به علـماً. ومعنى الكلام: أنه مـحيط بعبـاده علـماً، ولا يحيط عبـاده به علـماً. وقد زعم بعضهم أن معنى ذلك: أن الله يعلـم ما بـين أيدي ملائكته وما خـلفهم، وأن ملائكته لا يحيطون علـماً بـما بـين أيدي أنفسم وما خـلفهم، وقال: إنـما أعلـم بذلك الذين كانوا يعبدون الـملائكة، أن الـملائكة كذلك لا تعلـم ما بـين أيديها وما خـلفها، موبخهم بذلك ومقرّعهم بأن من كان كذلك، فكيف يعبد، وأن العبـادة إنـما تصلـح لـمن لا تـخفـى علـيه خافـية فـي الأرض ولا فـي السماء.

اسامة محمد خيري
15-02-2017, 07:09
حدثني عبد الرحيـم البرقـيّ، قال: ثنا ابن أبـي مَريـم، قال: ثنا مـحمد بن جعفر وابن أبـي حازم، قالا: ثنا أبو حازم، عن النعمان بن أبـي عياش، عن أبـي سعيد الـخدريّ { مَعِيشَةً ضَنْكاً } قال: عذاب القبر.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: هو عذاب القبر الذي:

حدثنا به أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: ثنا عمي عبد الله بن وهب، قال: أخبرنـي عمرو بن الـحارث، عن درّاج، عن ابن حُجَيرة عن أبـي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " أتَدْرُونَ فِـيـمَ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: { فإنَّ لَهُ مَعيشَةً ضَنْكاً وَنـحْشُرُهُ يَوْمَ القـيامَةِ أعْمَى } أتَدْرُونَ ما الـمَعِيشَةً الضَّنْكُ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلـم، قال: " عَذَابُ الكافرِ فـي قَبْرِهِ، والَّذِي نَفْسي بـيَدِهِ، إنَّه لَـيُسَلَّطُ عَلَـيْهِ تَسْعَةٌ وَتِسْعُونَ تِنِّـيناً، أتَدْرُونَ ما التِّنِـينُ: تسْعَةٌ وَتسْعُونَ حَيَّة، لكلّ حَيَّة سَبْعَةُ رُؤُوسٍ، يَنْفُخُونَ فـي جِسْمِهِ وَيَـلْسَعُونَهُ ويَخْدِشُونَهُ إلـى يَوْمِ القِـيامَةِ "

وإن الله تبـارك وتعالـى أتبع ذلك بقوله:
{ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقَـى }
فكان معلوماً بذلك أن الـمعيشة الضنك التـي جعلها الله لهم قبل عذاب الآخرة، لأن ذلك لو كان فـي الآخرة لـم يكن لقوله
{ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقَـى }
معنى مفهوم، لأن ذلك إن لـم يكن تقدّمه عذاب لهم قبل الآخرة، حتـى يكون الذي فـي الآخرة أشدّ منه، بطل معنى قوله
{ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أشَدُّ وأبْقَـى }
فإذ كان ذلك كذلك، فلا تـخـلو تلك الـمعيشة الضنك التـي جعلها الله لهم من أن تكون لهم فـي حياتهم الدنـيا، أو فـي قبورهم قبل البعث، إذ كان لأوجه لأن تكون فـي الآخرة لـما قد بـيَّنا، فإن كانت لهم فـي حياتهم الدنـيا، فقد يجب أن يكون كلّ من أعرض عن ذكر الله من الكفـار، فإن معيشته فـيها ضنك، وفـي وجودنا كثـيراً منهم أوسع معيشة من كثـير من الـمقبلـين علـى ذكر الله تبـارك وتعالـى، القائلـين له الـمؤمنـين فـي ذلك، ما يدلّ علـى أن ذلك لـيس كذلك، وإذ خلا القول فـي ذلك من هذين الوجهين صحّ الوجه الثالث، وهو أن ذلك فـي البرزخ....

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء، جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: { ونَـحْشُرُهُ يَوْمَ القِـيامَةِ أعْمَى } قال: عن الـحجة.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله، وقـيـل: يحشر أعمى البصر.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك ما قال الله تعالـى ذكره، وهو أنه يحشر أعمى عن الـحجة ورؤية الشيء كما أخبر جلّ ثناؤه، فعمّ ولـم يخصص....

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { قالَ رَبّ لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً } قال: كان بعيد البصر، قصير النظر، أعمى عن الـحقّ.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أن الله عزّ وجلّ ثناؤه، عمّ بـالـخبر عنه بوصفه نفسه بـالبصر، ولـم يخصص منه معنى دون معنى، فذلك علـى ما عمه فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الآية، قال: ربّ لـم حشرتنـي أعمى عن حجتـي ورؤية الأشياء، وقد كنت فـي الدنـيا ذا بصر بذلك كله...

فإن قال قائل: وكيف قال هذا لربه: { لِـمَ حَشَرْتَنِـي أعْمَى } مع معاينته عظيـم سلطانه، أجهل فـي ذلك الـموقـف أن يكون لله أن يفعل به ما شاء، أم ما وجه ذلك؟ قـيـل: إن ذلك منه مسألة لربه يعرّفه الـجرم الذي استـحقّ به ذلك، إذ كان قد جهله، وظنّ أن لا جرم له، استـحق ذلك به منه، فقال: ربّ لأيّ ذنب ولأيّ جرم حشرتنـي أعمى، وقد كنت من قبل فـي الدنـيا بصيراً وأنت لا تعاقب أحداً إلا بدون ما يستـحق منك من العقاب.....

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: { كَذَلكَ أتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها } قال: فتركتها { وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى } وكذلك الـيوم تترك فـي النار.

ورُوي عن قتادة فـي ذلك ما.

حدثنـي بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { قالَ كَذَلكَ أتَتَكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وكَذَلكَ الـيَوْمَ تُنْسَى } قال: نسي من الـخير، ولـم ينس من الشرّ.

وهذا القول الذي قاله قَتادة قريب الـمعنى مـما قاله أبو صالـح ومـجاهد، لأن تركه إياهم فـي النار أعظم الشرّ لهم.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:00
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { كَمْ أهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ القُرُونِ يَـمْشُونَ فِـي مَساكِنِهِمْ } لأن قريشاً كانت تتـجر إلـى الشأم، فتـمرّ بـمساكن عاد وثمود ومن أشبههم، فترى آثار وقائع الله تعالـى بهم، فلذلك قال لهم: أفلـم يحذّرهم ما يرون من فعلنا بهم بكفرهم بنا نزول مثله بهم، وهم علـى مثل فعلهم مقـيـمون. وكان الفرّاء يقول: لا يجوز فـي كم فـي هذا الـموضع أن يكون إلا نصبـاً بأهلكنا وكان يقول: وهو وإن لـم يكن إلا نصبـاً، فإن جملة الكلام رفع بقوله: { يَهْدِ لَهُمْ } ويقول: ذلك مثل قول القائل: قد تبـين لـي أقام عمرو أم زيد فـي الاستفهام، وكقوله
{ سَوَاءٌ عَلَـيْكُمْ أدَعَوْتُـمُوهُمْ أمْ أنْتُـمْ صَامِتُونَ }
ويزعم أن فـيه شيئاً يرفع سواء لا يظهر مع الاستفهام، قال: ولو قلت: سواء علـيكم صمتكم ودعاؤكم تبـين ذلك الرفع الذي فـي الـجملة ولـيس الذي قال الفرّاء من ذلك، كما قال: لأن كم وإن كانت من حروف الاستفهام فإنها لـم تـجعل فـي هذا الـموضع للاستفهام، بل هي واقعة موقع الأسماء الـموصوفة. ومعنى الكلام ما قد ذكرنا قبل وهو: أفلـم يبـين لهم كثرة إهلاكنا قبلهم القرون التـي يـمشون فـي مساكنهم، أو أفلـم تهدهم القرون الهالكة. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «أفَلَـمْ يَهْدِ لَهَمْ مَنْ أهْلَكْنا» فكم واقعة موقع من فـي قراءة عبد الله، هي فـي موضع رفع بقوله: { يَهْدِ لَهُمْ } وهو أظهر وجوهه، وأصحّ معانـيه، وإن كان الذي قاله وجه ومذهب علـى بعد.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:05
وقوله: { وأطْرَافَ النَّهارِ }: يعنـي صلاة الظهر والـمغرب وقـيـل: أطراف النهار، والـمراد بذلك الصلاتان اللتان ذكرنا، لأن صلاة الظهر فـي آخر طرف النهار الأوّل، وفـي أوّل طرف النهار الآخر، فهي فـي طرفـين منه، والطرف الثالث: غروب الشمس، وعند ذلك تصلـى الـمغرب، فلذلك قـيـل أطراف، وقد يحمل أن يقال: أريد به طرفـا النهار....

وكان عاصم والكسائي يقرآن ذلك: «لَعَلَّكَ تُرْضَى» بضم التاء، ورُوي ذلك عن أبـي عبد الرحمن السُّلَـميّ، وكأنّ الذين قرأوا ذلك بـالفتـح، ذهبوا إلـى معنى: إن الله يعطيك، حتـى ترضى عطيَّته وثوابه إياك، وكذلك تأوّله أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { لَعَلَّكَ تَرْضَى } قال: الثواب، ترضى بـما يثـيبك الله علـى ذلك.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج { لَعَلَّكَ تُرْضَى } قال: بـما تُعْطَى.

وكأن الذين قرأوا ذلك بـالضم، وجهوا معنى الكلام إلـى لعلّ الله يرضيك من عبـادتك إياه، وطاعتك له. والصواب من القول فـي ذلك عندي: أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء، وهما قراءتان مستفـيضتان فـي قَرَأة الأمصار، متفقتا الـمعنى، غير مختلفتـيه وذلك أن الله تعالـى ذكره إذا أرضاه، فلا شكّ أنه يرضى، وأنه إذا رضي فقد أرضاه الله، فكل واحدة منهما تدلّ علـى معنى الأخرى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب الصواب.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:28
سورة الانبياء

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد: { لَقَدْ أنْزَلْنا إلَـيْكُمْ كَتابـا فـيه ذِكْرُكُمْ } قال: حديثكم: { أفَلا تَعْقِلونَ } قال: «في قد أفلـح»
{ بَلْ أتَـيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ }
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا سفـيان: نزل القرآن بـمكارم الأخلاق، ألـم تسمعه يقول: { لَقَدْ أنْزَلْنا إلَـيْكُمْ كِتابـا فِـيهِ ذِكْرُكُمْ أفَلا تَعْقِلُونَ }؟

وقال آخرون: بل عُنـي بـالذكر فـي هذا الـموضع: الشرفُ، وقالوا: معنى الكلام: لقد أنزلنا إلـيكم كتابـا فـيه شرفكم.

قال أبو جعفر: وهذا القول الثانـي أشبه بـمعنى الكلـمة، وهو نـحو مـما قال سفـيان الذي حكينا عنه، وذلك أنه شرفٌ لـمن اتبعه وعمل بـما فـيه.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:47
حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن أبـيه، عن عكرِمة، عن ابن عبـاس، قال: خـلق اللـيـل قبل النهار. ثم قال: { كانَتا رَتْقا فَفَتَقْنَاهُما }.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: أو لـم ير الذي كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا من الـمطر والنبـات، ففتقنا السماء بـالغيث والأرض بـالنبـات.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب فـي ذلك لدلالة قوله: { وجَعَلْنا مِنَ الـماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيّ } علـى ذلك، وأنه جلّ ثناؤه لـم يعقب ذلك بوصف الـماء بهذه الصفة إلا والذي تقدمه من ذكر أسبـابه.

فإن قال قائل: فإن كان ذلك كذلك، فكيف قـيـل: أو لـم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا، والغيث إنـما ينزل من السماء الدنـيا؟ قـيـل: إن ذلك مختلف فـيه، قد قال قوم: إنـما ينزل من السماء السابعة، وقال آخرون: من السماء الرابعة، ولو كان ذلك أيضا كما ذكرت من أنه ينزل من السماء الدنـيا، لـم يكن فـي قوله: { أنّ السَّمَوَاتِ والأرْضَ } دلـيـل علـى خلاف ما قلنا، لأنه لا يـمتنع أن يقال «السموات» والـمراد منها واحدة فتـجمع، لأن كل قطعة منها سماء، كما يقال: ثوب أخلاق، وقميص أسمال.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:52
وكان ابن عبـاس فـيـما ذَكر عنه يقول: إنـما عنى بقوله: { وَجَعَلْنا فِـيها فِجاجا } وجعلنا فـي الرواسي، فـالهاء والألف فـي قوله: { وَجَعَلْنا فِـيها } من ذكر الرواسي.

حدثنا بذلك القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس، قوله: { وَجَعَلْنا فِـيها فِجاجاً } سبلاً، قال: بـين الـجبـال.

وإنـما اخترنا القول الآخر فـي ذلك وجعلنا الهاء والألف من ذكر الأرض، لأنها إذا كانت من ذكرها دخـل فـي ذلك السهل والـجبل وذلك أن ذلك كله من الأرض، وقد جعل الله لـخـلقه فـي ذلك كله فجاجا سبلاً. ولا دلالة تدلّ علـى أنه عنى بذلك فجاج بعض الأرض التـي جعلها لهم سبلاً دون بعض، فـالعموم بها أولـى.

اسامة محمد خيري
16-02-2017, 05:58
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال كما قال الله عزّ وجلّ: { كُلّ فِـي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } وجائز أن يكون ذلك الفلك كما قال مـجاهد كحديدة الرَّحَى، وكما ذُكر عن الـحسن كطاحونة الرَّحَى، وجائز أن يكون موجا مكفوفـا، وأن يكون قطب السماء. وذلك أن الفلك فـي كلام العرب هو كل شيء دائر، فجمعه أفلاك، وقد ذكرت قول الراجز:
بـاتَتْ تُناجِي الفُلْكَ الدَّوَّارَا
وإذ كان كل ما دار فـي كلامه فلكا، ولـم يكن فـي كتاب الله ولا فـي خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عمن يُقطع بقوله العذُر، دلـيـلٌ يدل علـى أيّ ذلك هو من أيَ كان الواجب أن نقول فـيه ما قال ونسكت عما لا علـم لنا به.

فإذا كان الصواب فـي ذلك من القول عندنا ما ذكرنا، فتأويـل الكلام: والشمس والقمر، كلّ ذلك فـي دائر يسبحون.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 04:58
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي تأويـل ذلك عندنا الذي ذكرناه عمن قال معناه: خُـلق الإنسان من عجل فـي خـلقه أيْ علـى عجل وسرعة فـي ذلك. وإنـما قـيـل ذلك كذلك، لأنه بُودر بخـلقه مغيب الشمس فـي آخر ساعة من نهار يوم الـجمعة، وفـي ذلك الوقت نفخ فـيه الروح.

وإنـما قلنا أولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي ذلك بـالصواب، لدلالة قوله تعالـى: { سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ } علـيّ ذلك، وأن أبـا كريب:

حدثنا قال: ثنا ابن إدريس، قال: أخبرنا مـحمد بن عمرو، عن أبـي سلـمة، عن أبـي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ فِـي الـجُمُعَةِ لَساعَةً " يُقَلِّلُها، قال: " لا يَوَافِقُها عَبْدٌ مُسْلِـمٌ يَسأَلُ اللَّهَ فِـيها خَيْرا إلاَّ آتاهُ اللَّهُ إيَّاهُ " فقال عبد الله بن سلام: قد علـمت أيّ ساعة هي، هي آخر ساعات النهار من يوم الـجمعة. قال الله: { خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونَ }.

حدثنا أبو كريب، قال: ثنا الـمـحاربـي وعبدة بن سلـيـمان وأسير بن عمرو، عن مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو سلـمة، عن أبـي هريرة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه، وذكر كلام عبد الله بن سلام بنـحوه.

فتأويـل الكلام إذا كان الصواب فـي تأويـل ذلك ما قلنا بـما به استشهدنا { خُـلِقَ الإنْسانُ مِنْ عَجَلٍ } ، ولذلك يستعجل ربه بـالعذاب. { سأُرِيكُمْ آياتِـي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ } أيها الـمستعجلون ربهم بـالآيات القائلون لنبـينا مـحمد صلى الله عليه وسلم: بل هو شاعر، فلـيأتنا بآية كما أرسل الأوّلون آياتـي، كما أريتها من قبلكم من الأمـم التـي أهلكناها بتكذيبها الرسل، إذا أتتها الآيات: { فلا تَسْتَعْجِلُونِ } يقول: فلا تستعجلوا ربكم، فإنا سنأتـيكم بها ونريكموها.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:07
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال هذا القول الذي حكيناه عن ابن عبـاس، وأن { هُمْ } من قوله: { وَلا هُمْ } من ذكر الكفـار، وأن قوله: { يُصْحَبُونَ } بـمعنى: يُجارون يُصْحبون بـالـجوار لأن العرب مـحكيّ عنها: أنا لك جار من فلان وصاحب، بـمعنى: أجيرك وأمنعك، وهم إذا لـم يصحبوا بـالـجوار، ولـم يكن لهم مانع من عذاب الله مع سخط الله علـيهم، فلـم يصحبوا بخير ولم ينصروا.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:13
وقوله: { وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { ولا يَسْمَعُ } بفتـح الـياء من «يَسْمَعُ» بـمعنى أنه فعل للصمّ، و«الصمّ» حينئذ مرفوعون. ورُوي عن أبـي عبد الرحمن السلـمي أنه كان يقرأ: «وَلا تُسْمعُ» بـالتاء وضمها، فـالصمّ علـى هذه القراءة مرفوعة، لأن قوله: «وَلا تُسْمِعُ» لـم يسمّ فـاعله، ومعناه علـى هذه القراءة: ولا يسمع الله الصمّ الدعاء.

قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه. ومعنى ذلك: ولا يصغي الكافر بـالله بسمع قلبه إلـى تذكر ما فـي وحي الله من الـمواعظ والذكر، فـيتذكر به ويعتبر، فـينزجر عما هو علـيه مقـيـم من ضلاله إذا تُلـى علـيه وأُريد به ولكنه يعرض عن الاعتبـار به والتفكر فـيه، فعل الأصمّ الذي لا يسمع ما يقال له فـيعمل به.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة: { وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إذَا ما يُنْذَرُونَ } يقول: إن الكافر قد صمّ عن كتاب الله لا يسمعه، ولا ينتفع به ولا يعقله، كما يسمعه الـمؤمن وأهل الإيـمان.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:16
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: { وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ } الفرقان: التوراة حلالها وحرامها، وما فرق الله بين الـحق والبـاطل.

وكان ابن زيد يقول فـي ذلك ما:

حدثنـي به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { وَلَقَدْ آتَـيْنا مُوسَى وَهارُونَ الفُرْقانَ } قال: الفرقان: الـحق آتاه الله موسى وهارون، فرق بـينهما وبـين فرعون، فقضى بـينهم بـالـحقّ. وقرأ:
{ وَما أنْزَلْنا عَلـى عَبْدِنا يَوْمَ الفُرْقانِ }
قال: يوم بدر.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد فـي ذلك أشبه بظاهر التنزيـل، وذلك لدخول الواو فـي الضياء، ولو كان الفرقان هو التوراة كما قال من قال ذلك، لكان التنزيـل: ولقد آتـينا موسى وهارون الفرقان ضياء لأن الضياء الذي آتـى الله موسى وهارون هو التوراة التـي أضاءت لهما ولـمن اتبعهما أمر دينهم فبصرّهم الـحلال والـحرام، ولـم يقصد بذلك فـي هذا الـموضع ضياء الإبصار. وفـي دخول الواو فـي ذلك دلـيـل علـى أن الفرقان غير التوراة التـي هي ضياء.

فإن قال قائل: وما ينكر أن يكون الضياء من نعت الفرقان، وإن كانت فـيه واو فـيكون معناه: وضياء آتـيناه ذلك، كما قال
{ بِزِينَةٍ الكَوَاكِبِ وَحِفْظاً }
؟ قـيـل له: إن ذلك وإن كان الكلام يحتـمله، فإن الأغلب من معانـيه ما قلنا. والواجب أن يوجه معانـي كلام الله إلـى الأغلب الأشهر من وجوهها الـمعروفة عند العرب ما لـم يكن بخلاف ذلك ما يجب التسلـيـم له من حجة خبر أو عقل.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:22
وقوله: { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذا إلاَّ كَبِـيراً لَهُمْ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار سوى يحيى بن وثاب والأعمش والكسائي: «فَجَعَلَهُمْ جِذَاذا» بـمعنى جمع جذيذ، كأنهم أرادوا به جمع جذيذ وجِذاذ، كما يجمع الـخفـيف خِفـاف، والكريـم كِرام.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندنا بـالصواب قراءة من قرأه: { جُذَاذاً } بضمّ الـجيـم، لإجماع قرّاء الأمصار علـيه، وأن ما أجمعت علـيه فهو الصواب وهو إذا قرىء كذلك مصدرٌ مثل الرُّفـات، والفُتات، والدُّقاق لا واحد له، وأما من كسر الـجيـم فإنه جمع للـجذيذ، والـجذيذ: هو فعيـل صُرِف من مـجذوذ إلـيه، مثل كسير وهشيـم، والـمـجذوذة: الـمكسورة قِطَعاً.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { فجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } يقول: حُطاماً....

وقوله { لَعَلَّهُمْ إلَـيْهِ يَرْجِعُونَ } يقول: فعل ذلك إبراهيـم بآلهتهم ليعتبروا ويعلـموا أنها إذا لـم تدفع عن نفسها ما فعل بها إبراهيـم، فهي من أن تدفع عن غيرها من أراده بسوء أبعد، فـيرجعوا عما هم علـيه مقـيـمون من عبـادتها إلـى ما هو علـيه من دينه وتوحيد الله والبراءة من الأوثان.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة: { لَعَلَّهُمْ إلَـيْهِ يَرْجِعُونَ } قال: كادهم بذلك لعلهم يتذكرون أو يبصرون.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:25
واختلف أهل التأويـل قوله: { لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ } فقال بعضهم: معناه لعلّ الناس يشهدون علـيه أنه الذي فعل ذلك، فتكون شهادتهم علـيه حجة لنا علـيه. وقالوا: إنـما فعلوا ذلك لأنهم كرهوا أن يأخذوه بغير بـينة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: { فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدونَ } علـيه أنه فعل ذلك.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدونَ } قال: كرهوا أن يأخذوه بغير بـيِّنة.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: لعلهم يشهدون ما يعاقبونه به، فـيعاينونه ويرونه. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: بلغ ما فعل إبراهيـم بآلهة قومه نـمرود، وأشراف قومه، فقالوا: { فَأْتُوا بِهِ عَلـى أعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدونَ }: أي ما يُصْنع به.

وأظهرُ معنى ذلك أنهم قالوا: فأتوا به علـى أعين الناس لعلهم يشهدون عقوبتنا إياه، لأنه لو أريد بذلك لـيشهدوا علـيه بفعله كان يقال: انظروا من شهده يفعل ذلك، ولـم يقل: أحضروه بـمـجمع من الناس.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:28
يقول تعالـى ذكره: فأتوا بإبراهيـم، فلـما أتوا به قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا من الكسر بها يا إبراهيـم؟ فأجابهم إبراهيـم: بل فعله كبـيرهم هذا وعظيـمهم، فـاسألوا الآلهة من فعل بها ذلك وكسرها إن كانت تنطق أو تعبر عن نفسها

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: لـما أُتِـي به واجتـمع له قومه عند ملكهم نـمرود { قالُوا أأنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بآلِهَتِنا يا إبْراهِيـمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهُمْ هَذَا فـاسْئَلُوهُمْ إنْ كانُوا يَنْطِقُونَ } غضب من أن يعبدوا معه هذه الصغار وهو أكبر منها، فكسرهن.

حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا }... الآية، وهي هذه الـخصلة التـي كادهم بها.

وقد زعم بعض من لا يصدّق بـالآثار ولا يقبل من الأخبـار إلا ما استفـاض به النقل من العوامّ، أن معنى قوله: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهِمْ هَذَا } إنـما هو: بل فعله كبيرهم هذا إن كانوا ينطقون فـاسألوهم، أي إن كانت الآلهة الـمكسورة تنطق فإن كبـيرهم هو الذي كسرهم. وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن إبراهيـم لـم يكذب إلا ثلاث كَذَبـات كلها فـي الله، قوله: { بَلْ فَعَلَهُ كَبِـيرُهِمْ هَذَا } ، وقوله:
{ إنّـي سَقِـيـمٌ }
، وقوله لسارة: هي أختـي. وغير مستـحيـل أن يكون الله ذكْره أذِن لخليله فـي ذلك، لـيقرِّع قومه به، ويحتـجّ به علـيهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته:
{ أيَّتُها العيرُ إنَّكُمْ لَسارِقُونَ }
ولـم يكونوا سرقوا شيئا.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:32
ثُمَّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ } فـي الـحجة علـيهم لإبراهيـم حين جادلهم، فقال عند ذلك إبراهيـم حين ظهرت الـحجة علـيهم بقولهم: { لَقَدْ عَلِـمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ }.

حدثنا بِشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة قال الله: { ثُمَّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ } أدركت الناسَ حَيرة سَوْء.

وقال آخرون: معنى ذلك: ثم نُكسوا فـي الفتنة. ذكر من قال ذلك:

حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ: { ثُمَّ نُكِسُوا عَلـى رُءُوسِهِمْ } قال: نكسوا فـي الفتنة علـى رءوسهم، فقالوا: لقد علـمت ما هؤلاء ينطقون.

وقال بعض أهل العربـية: معنى ذلك: ثم رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيـم، فقالوا: لقد علـمت ما هؤلاء ينطقون.

وإنـما اخترنا القول الذي قلنا فـي معنى ذلك، لأن نَكْسَ الشيء علـى رأسه: قَلْبُه علـى رأسه وتَصْيِـيرُ أعلاه أسفله ومعلوم أن القوم لـم يُقْلبوا علـى رءوس أنفسهم، وأنهم إنـما نُكست حجتهم، فأقـيـم الـخبر عنهم مقام الـخبر عن حجتهم. وإذ كان ذلك كذلك، فنَكْس الـحجة لا شك إنـما هو احتـجاج الـمـحتـجّ علـى خصمه بـما هو حجة لـخصمه. وأما قول السديّ: ثم نكسوا فـي الفتنة، فإنهم لـم يكونوا خرجوا من الفتنة قبل ذلك فنكسوا فـيها. وأما قول من قال من أهل العربـية ما ذكرنا عنه، فقول بعيد من الفهوم لأنهم لو كانوا رجعوا عما عرفوا من حجة إبراهيـم، ما احتـجوا علـيه بـما هو حجة له، بل كانوا يقولون له: لا تسألهم، ولكن نسألك فأخبرنا مَنْ فعل ذلك بها، وقد سمعنا أنك فعلت ذلك ولكن صدقوا القول { فَقالُوا لَقَدْ عَلِـمْتَ ما هَؤُلاءِ يَنْطِقُونَ } ولـيس ذلك رجوعاً عما كانوا عرفوا، بل هو إقرار به.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:40
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَنـجّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ } قال: إلـى الشأم.

وقال آخرون: بل يعنـي مكة وهي الأرض التـي قال الله تعالـى: { التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ }. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وَنـجَّيْناهُ وَلُوطا إلـى الأرْضِ التـي بـارَكْنا فِـيها للْعالَـمِينَ } يعنـي مكة ونزول إسماعيـل البـيت ألا ترى أنه يقول:
{ إنَّ أوَّلَ بَـيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ للَّذِي بِبَكَّةَ مُبـارَكاً وَهُدًى للْعالَـمِينَ }
؟

قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا ما اخترنا من القول فـي ذلك لأنه لا خلاف بـين جميع أهل العلـم أن هجرة إبراهيـم من العراق كانت إلـى الشام وبها كان مُقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البـيت وأسكنها إسماعيـل ابنه مع أمه هاجر غير أنه لـم يُقِم بها ولـم يتـخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنـما أخبر عن إبراهيـم ولوط أنهما أنـجاهما إلـى الأرض التـي بـارك فـيها للعالمين.

اسامة محمد خيري
17-02-2017, 05:54
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { لِتُـحْصِنَكُمْ } فقرأ ذلك أكثر قرّاء الأمصار: «لِـيُحْصِنَكُمْ» بـالـياء، بـمعنى: لـيحصنكم اللَّبوس من بأسكم، ذَكَّروه لتذكير اللَّبوس. وقرأ ذلك أبو جعفر يزيد بن القعقاع: { لِتُـحْصِنَكُمْ } بـالتاء، بـمعنى: لتـحصنكم الصنعة، فأنث لتأنـيث الصنعة. وقرأ شيبة بن نصاح وعاصم بن أبـي النَّـجود: «لِنُـحْصِنَكُمْ» بـالنون، بـمعنى: لنـحصنكم نـحن من بأسكم.

قال أبو جعفر: وأولـى القراءات فـي ذلك بـالصواب عندي قراءة من قرأه بـالـياء، لأنها القراءة التـي علـيها الـحجة من قرّاء الأمصار، وإن كانت القراءات الثلاث التـي ذكرناها متقاربـات الـمعانـي وذلك أن الصنعة هي اللبوس، واللَّبوس هي الصنعة، والله هو الـمـحصن به من البأس، وهو الـمـحصن بتصيـير الله إياه كذلك. ومعنى قوله: «لِـيُحْصِنَكُمْ» لـيحرزَكم، وهو من قوله: قد أحصن فلان جاريته. وقد بـيَّنا معنى ذلك بشواهده فـيـما مضى قبل. والبأس: القتال، وعلَّـمنا داود صنعة سلاح لكم لـيحرزكم إذا لبستـموه ولقـيتـم فـيه أعداءكم من القتل.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:04
وهذا القول، أعنـي قول من قال: ذهب عن قومه مغاضبـاً لربه، أشبه بتأويـل الآية، وذلك لدلالة قوله: { فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ } علـى ذلك. علـى أن الذين وجهوا تأويـل ذلك إلـى أنه ذهب مغاضبـاً لقومه، إنـما زعموا أنهم فعلوا ذلك استنكاراً منهم أن يغاضب نبـيّ من الأنبـياء ربه واستعظاماً له. وهم بقـيـلهم أنه ذهب مغاضبـاً لقومه قد دخـلوا فـي أمر أعظم مـما أنكروا، وذلك أن الذين قالوا: ذهب مغاضبـاً لربه اختلفوا فـي سبب ذهابه كذلك، فقال بعضهم: إنـما فعل ما فعل من ذلك كراهة أن يكون بـين قوم قد جربوا علـيه الـخـلف فـيـما وعدهم، واسْتَـحْيَا منهم، ولـم يعلـم السبب الذي دفع به عنهم البلاء. وقال بعض من قال هذا القول: كان من أخلاق قومه الذين فـارقهم قتل من جرّبوا علـيه الكذب، عسى أن يقتلوه من أجل أنه وعدهم العذاب، فلـم ينزل بهم ما وعدهم من ذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك فـي سورة يونس، فكرهنا إعادته فـي هذا الـموضع.

وقال آخرون: بل إنـما غاضب ربه من أجل أنه أمر بـالـمصير إلـى قوم لـينذرهم بأسه ويدعوهم إلـيه، فسأل ربه أن يُنْظره لـيتأهب للشخوص إلـيهم، فقـيـل له: الأمر أسرع من ذلك ولـم يُنْظر حتـى شاء أن ينظر إلـى أن يأخذ نعلاً لـيـلبسها، فقـيـل له نـحو القول الأوّل. وكان رجلاً فـي خـلقه ضيق، فقال: أعجلنـي ربـي أن آخذ نعلاً فذهب مغاضبـاً.

ومـمن ذُكر هذا القول عنه: الـحسن البصريّ.

حدثنـي بذلك الـحارث، قال: ثنا الـحسن بن موسى، عن أبـي هلال، عن شهر بن حوشب، عنه.

قال أبو جعفر: ولـيس فـي واحد من هذين القولـين من وصف نبـيّ الله يونس صلوات الله علـيه شيء إلا وهو دون ما وصفه بـما وصفه الذين قالوا: ذهب مغاضبـاً لقومه لأن ذهابه عن قومه مغاضبـاً لهم، وقد أمره الله تعالـى بـالـمُقام بـين أظهرهم، لـيبلغهم رسالته ويحذّرهم بأسه وعقوبته علـى تركهم الإيـمان به والعمل بطاعته لا شك أن فـيه ما فـيه....

وقال آخرون: بل ذلك بـمعنى الاستفهام، وإنـما تأويـله: أفظنّ أن لن نقدر علـيه؟ ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَـيْهِ } قال: هذا استفهام. وفـي قوله: { فَمَا تُغْنِـي النُّذُر } قال: استفهام أيضاً.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال فـي تأويـل ذلك عندي بـالصواب، قول من قال: عَنَى به: فظنّ يونس أن لن نـحبسه ونضيق علـيه، عقوبة له علـى مغاضبته ربه.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الكلـمة، لأنه لا يجوز أن يُنْسب إلـى الكفر وقد اختاره لنبوّته، ووَصْفُه بأن ظنّ أن ربه يعجز عما أراد به ولا يقدر علـيه، وَصْفٌ له بأنه جهل قدرة الله، وذلك وصف له بـالكفر، وغير جائز لأحد وصفه بذلك. وأما ما قاله ابن زيد، فإنه قول لو كان فـي الكلام دلـيـل علـى أنه استفهام حسن، ولكنه لا دلالة فـيه علـى أن ذلك كذلك. والعرب لا تـحذف من الكلام شيئا لهم إلـيه حاجة إلا وقد أبقت دلـيلاً علـى أنه مراد فـي الكلام، فإذا لـم يكن فـي قوله: { فَظَنَّ أنْ لَنْ نَقْدرَ عَلَـيْهِ } دلالة علـى أن الـمراد به الاستفهام كما قال ابن زيد، كان معلوماً أنه لـيس به وإذ فسد هذان الوجهان، صحّ الثالث وهو ما قلنا....

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن يونس أنه ناداه فـي الظلـمات: { إنْ لا إلهَ إلا أنْتَ سُبْحانَكَ إنّـي كُنْتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ } وَلا شك أنه قد عنى بإحدى الظلـمات: بطن الـحوت، وبـالأخرى: ظلـمة البحر، وفـي الثالثة اختلاف، وجائز أن تكون تلك الثالثة ظلـمة اللـيـل، وجائز أن تكون كون الـحوت فـي جوف حوت آخر. ولا دلـيـل يدلّ علـى أيّ ذلك من أيّ، فلا قول فـي ذلك أولـى بـالـحق من التسلـيـم لظاهر التنزيـل.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:08
حدثنا مـحمد بن عبـيد الـمـحاربـيّ، قال: ثنا حاتـم بن إسماعيـل، عن حميد بن صخر، عن عمار، عن سعيد، فـي قوله: { وأصْلَـحْنا لَهُ زَوْجَهُ } قال: كانت لا تلد.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عبـاس، فـي قوله: { وأصْلَـحْنا لَهُ زَوْجَهُ } قال: وهبنا له ولدها.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله: { وأصلْـحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } كانت عاقرا، فجعلها الله وَلوداً، ووهب له منها يحيى.

وقال آخرون: كانت سيئة الـخُـلق، فأصلـحها الله له بأن رزقها حُسن الـخُـلُق.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أصلـح لزكريا زوجه، كما أخبر تعالـى ذكره بأن جعلها ولوداً حسنة الـخُـلُق لأن كل ذلك من معانـي إصلاحه إياها. ولـم يخصُصِ الله جلّ ثناؤه بذلك بعضاً دون بعض فـي كتابه ولا علـى لسان رسوله، ولا وضع علـى خصوص ذلك دلالة، فهو علـى العموم ما لـم يأت ما يجب التسلـيـم له بأن ذلك مراد به بعض دون بعض....

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:10
واختُلف فـي الفرّج الذي عنى الله جلّ ثناؤه أنها أحصنته، فقال بعضهم: عَنَى بذلك فَرْجَ نفسها أنها حفظته من الفـاحشة.

وقال آخرون: عَنَى بذلك جيب درعها أنها منعت جبرئيـل منه قبل أن تعلـم أنه رسول ربها وقبل أن تثبته معرفة. قالوا: والذي يدلّ علـى ذلك قوله: { فَنَفَخْنا فِـيها } ويعقب ذلك قوله: { والَّتِـي أحْصَنَتْ فَرْجَها } قالوا: وكان معلوما بذلك أن معنى الكلام: والتـي أحصنت جيبها { فَنَفَخْنا فِـيها مِنْ رُوحِنا }.

قال أبو جعفر: والذي هو أولـى القولـين عندنا بتأويـل ذلك قول من قال: أحصنت فرجها من الفـاحشة لأن ذلك هو الأغلب من معنـيـيه علـيه والأظهر فـي ظاهر الكلام. { فَنَفَخْنا فِـيها مِنْ رُوحِنا } يقول: فنفخنا فـي جيب درعها من روحنا. وقد ذكرنا اختلاف الـمختلفـين فـي معنى قوله: { فَنَفَخْنا فِـيها } فـي غير هذا الـموضع والأولـى بـالصواب من القول فـي ذلك فـيـما مضى بـما أغنـي عن إعادته فـي هذا الـموضع....

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:14
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { وَحَرَامٌ } فقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة: «وَحِرْمٌ» بكسر الـحاء. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: { وَحَرَامٌ } بفتـح الـحاء والألف.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان متفقتا الـمعنى غير مختلفتـيه وذلك أن الـحِرْم هو الـحرام والـحرام هو الـحِرْم، كما الـحلّ هو الـحلال والـحلال هو الـحلّ، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وكان ابن عبـاس يقرؤه: «وَحِرْم» بتأويـل: وعزم.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا بن علـية، عن أبـي الـمعلـى، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، كان يقرؤها: { وحِرْمَ علـى قرية } قال: فقلت لسعيد: أيّ شيء حرم؟ قال: عزم.

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن أبـي الـمعلـي، عن سعيد بن جبـير، عن ابن عبـاس، كان يقرؤها: «وحِرْمٌ عَلـى قَرْيَةٍ» قلت لأبـي الـمعلـى: ما الـحرم؟ قال: عزم علـيها.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الأعلـى، قال: ثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عبـاس: أنه كان يقرأ هذه الآية: «وَحِرْمٌ عَلـى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ» فلا يرجع منهم راجع، ولا يتوب منهم تائب.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا داود عن عكرمة، قال: { وَحَرَامٌ عَلـى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } قال: لـم يكن لـيرجع منهم راجع، حرام علـيهم ذلك.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا عيسى بن فرقد، قال: ثنا جابر الـجعفـي، قال: سألت أبـا جعفر عن الرجعة، فقرأ هذه الآية: { وَحَرَامٌ عَلـى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ }.

فكأن أبـا جعفر وجه تأويـل ذلك إلـى أنه: وحرام علـى أهل قرية أمتناهم أن يرجعوا إلـى الدنـيا. والقول الذي قاله عكرِمة فـي ذلك أولـى عندي بـالصواب وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن تفريق الناس دينهم الذي بُعث به إليه الرسل، ثم أخبر عن صنـيعه بـمن عمل بـما دعته إلـيه رسله من الإيـمان به والعمل بطاعته، ثم أتبع ذلك قوله: { وَحَرامٌ عَلـى قَرْيَةٍ أهْلَكْناها أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } فلأن يكون ذلك خبراً عن صنيعه بـمن أبى إجابة رسله وعمل بمعصيته وكفر به، أحرى، لـيكون بيانا عن حال القرية الأخرى التـي لم تعمل الصالحات وكفرت به.

فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: حرام علـى أهل قرية أهلكناهم بطبعنا علـى قلوبهم وختـمنا علـى أسماعهم وأبصارهم، إذ صدّوا عن سبـيـلنا وكفروا بآياتنا، أن يتوبوا ويراجعوا الإيـمان بنا واتبـاع أمرنا والعمل بطاعتنا. وإذ كان ذلك تأويـل قوله الله: «وَحِرْمٌ» وعَزْم، علـى ما قال سعيد، لـم تكن «لا» فـي قوله: { أنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ } صلة، بل تكون بـمعنى النفـي، ويكون معنى الكلام: وعزم منا علـى قرية أهلكناها أن لا يرجعوا عن كفرهم. وكذلك إذا كان معنى قوله: «وَحَرَمٌ» نوجبه. وقد زعم بعضهم أنها فـي هذا الـموضع صلة، فإن معنى الكلام: وحرام علـى قرية أهلكناها أن يرجعوا، وأهل التأويـل الذين ذكرناهم كانوا أعلـم بـمعنى ذلك منه

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:20
والصواب من القول فـي ذلك ما قاله الذين قالوا: عنـي بذلك يأجوج ومأجوج، وأن قوله: { وَهُمْ } كناية عن أسمائهم، للـخبر الذي:

حدثنا به ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن مـحمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر، عن قتادة الأنصاري، ثم الظفري، عن مـحمود بن لبـيد أخي بنـي عبد الأشهل، عن أبـي سعيد الـخدريّ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " يُفْتَـحُ يأْجُوجُ ومَأْجُوجَ يَخْرُجُونَ عَلـى النَّاسِ كمَا قالَ اللَّهُ مِنْ كُلّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ فَـيُغَشُّونَ الأرضَ "

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:30
واختلف فـي قراءة ذلك، فقرأته قرّاء الأمصار: { حَصَبُ جَهَنَّـمَ } بـالصاد، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الـحجة علـيه.

ورُوي عن علـيّ وعائشة أنهما كانا يقرآن ذلك: «حَطَبُ جَهَنَّـمَ» بـالطاء. ورُوي عن ابن عبـاس أنه قرأه: «حَضَبُ» بـالضاد.

حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا إبراهيـم بن مـحمد، عن عثمان بن عبد الله، عن عكرمة، عن ابن عبـاس، أنه قرأها كذلك.

وكأن ابن عبـاس إن كان قرأ ذلك كذلك، أراد أنهم الذين تُسجر بهم جهنـم ويوقد بهم فـيها النار وذلك أن كل ما هيجت به النار وأوقدت به، فهو عند العرب حضب لها. فإذا كان الصواب من القراءة فـي ذلك ما ذكرنا، وكان الـمعروف من معنى الـحصب عند العرب: الرمي، من قولهم: حصبت الرجل: إذا رميته، كما قال جلّ ثناؤه: إنَّا أرْسَلْنا عَلَـيْهِمْ حاصِبـا كان الأولـى بتأويـل ذلك قول من قال: معناه أنهم تقذف جهنـم بهم ويرمى بهم فـيها. وقد ذكر أن الـحصب فـي لغة أهل الـيـمين: الـحطب، فإن يكن ذلك كذلك فهو أيضا وجه صحيح. وأما ما قلنا من أن معناه الرمي فإنه فـي لغة أهل نـجد. وأما قوله: { أنْتُـمْ لَهَا وَارِدُونَ } فإن معناه: أنتـم علـيها أيها الناس أو إلـيها واردون، يقول: داخـلون. وقد بـيَّنت معنى الورود فـيـما مضى قبل بـما أغنـي عن إعادته فـي هذا الـموضع.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:33
وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب قول من قال: عنـي بقوله: { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْـحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ } ما كان من معبود كان الـمشركون يعبدونه والـمعبود لله مطيع وعابدوه بعبـادتهم إياه بـالله كفَّـار لأن قوله تعالـى ذكره: { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْـحُسْنَى } ابتداء كلام مـحقق لأمر كان ينكره قوم، علـى نـحو الذي ذكرنا فـي الـخبر عن ابن عباس، فكأن الـمشركين قالوا لنبيّ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم:
{ إنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّـمَ }
ما الأمر كما تقول، لأنا نعبد الـملائكة، ويعبد آخرون الـمسيح وعُزَيراً. فقال عزّ وجلّ ردّاً علـيهم قولهم: بل ذلك كذلك، ولـيس الذين سبقت لهم منا الـحسنى هم عنها مبعدون، لأنهم غير معنـيـين بقولنا:
{ إنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّـمَ }
فأما قول الذين قالوا ذلك استثناء من قوله:
{ إنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّـمَ }
فقول لا معنى له لأن الاستثناء إنـما هو إخراج الـمستثنى من الـمستثنى منه، ولا شكّ أن الذين سبقت لهم منا الـحسنى إنـما هم إما ملائكة وإما إنس أو جانّ، وكلّ هؤلاء إذا ذكرتها العرب فإن أكثر ما تذكرها بمن لا بما، والله تعالـى ذكره إنـما ذكر الـمعبودين الذين أخبر أنهم حَصَب جهنـم بما، قال:
{ إنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّـمَ }
إنـما أريد به ما كانوا يعبدونه من الأصنام والآلهة من الـحجارة والـخشب، لا من كان من الـملائكة والإنس. فإذا كان ذلك كذلك لـما وصفنا، فقوله: { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الـحُسْنَى } جواب من الله للقائلـين ما ذكرنا من الـمشركين مبتدأ. وأما الـحُسنى فإنها الفُعلـى من الـحسن، وإنـما عنـي بها السعادة السابقة من الله لهم. كما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { إنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الـحُسْنَى } قال: الـحسنى: السعادة. وقال: سبقت السعادة لأهلها من الله، وسبق الشقاء لأهله من الله.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:36
فإن قال قائل: فكيف لا يسمعون حسيسها، وقد علـمت ما رُوي من أن جهنـم يُؤْتَـي بها يوم القـيامة فتزفر زفرة لا يبقـى ملك مقرّب ولا نبـيّ مرسل إلا جثا علـى ركبتـيه خوفـا منها؟ قـيـل: إن الـحال التـي لا يسمعون فـيها حسيسها هي غير تلك الـحال، بل هي الـحال التـي:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِـيـما اشْتَهَتْ أنْفُسُهُمْ خالِدُونَ } يقول: لا يسمع أهل الـجنة حسيس النار إذا نزلوا منزلهم من الـجنة.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:37
حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الـحسن: { لا يَحْزُنهُمُ الفَزَعُ الأكْبَرُ } قال: انصراف العبد حين يُؤْمر به إلى النار.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: ذلك عند النفخة الآخرة وذلك أن من لـم يحزنه ذلك الفزع الأكبر وأمن منه، فهو مـما بعدَه أحْرَى أن لا يفزَع، وأن من أفزعه ذلك فغير مأمون علـيه الفزع مـما بعده.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:40
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مجاهد، قوله: { يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيّ السِّجِلِّ لِلْكِتابِ } قال: السجل: الصحيفة.

وأولى الأقوال في ذلك عندنا بـالصواب قول من قال: السجلّ فـي هذا الـموضع الصحيفة لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب، ولا يعرف لنبينا صلى الله عليه وسلم كاتب كان اسمه السجلّ، ولا فـي الملائكة مَلك ذلك اسمه.

فإن قال قائل: وكيف تَطْوي الصحيفة بالكتاب إن كان السجلّ صحيفة؟ قيل: ليس المعنى كذلك، وإنما معناه: يوم نطوي السماء كطيّ السجلّ علـى ما فـيه من الكتاب ثم جعل نطوِي مصدرا، فقـيـل: { كَطَيّ السِّجِلّ لِلْكِتابِ } واللام فـي قوله للكتاب بـمعنى علـى....

وقرأ ذلك أبو جعفر: { يَوْم تُطْوَي السَّماءُ } بـالتاء وضمها، علـى وجه ما لـم يُسمّ فـاعله.

والصواب من القراءة فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار، بـالنون، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه وشذوذ ما خالفه. وأما السِّجلّ فإنه فـي قراءة جميعهم بتشديد اللام. وأما الكتاب، فإن قرّاء أهل الـمدينة وبعض أهل الكوفة والبصرة قرءوه بـالتوحيد: «كطيّ السجلّ للكتاب»، وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: { للْكُتُبِ } علـى الـجماع.

وأولى القراءتين عندنا فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأه علـى التوحيد للكتاب لما ذكرنا من معناه، فإِن الـمراد منه: كطيّ السجلّ علـى ما فـيه مكتوب. فلا وجه إذ كان ذلك معناه لـجميع الكتب إلا وجه نتبعه من معروف كلام العرب، ..

كمَا بَدَأْنا أوَّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ } فـالكاف التـي فـي قوله: { كمَا } من صلة { نعيده } ، تقدّمت قبلها ومعنى الكلام: نعيد الـخـلق عُراة حُفـاة غُرْلاً يوم القـيامة، كما بدأناهم أوّل مرّة فـي حال خـلقناهم فـي بطون أمهَاتهم، علـى اختلاف من أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك.

وبـالذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل، وبه الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك اخترت القول به علـى غيره. ذكر من قال ذلك والأثر الذي جاء فـيه:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { أوَّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ } قال: حُفاة عُراة غُرْلاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جريج، عن مـجاهد قوله: { أوَّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُهُ } قال: حُفـاة غُلْفـاً. قال ابن جُرَيج أخبرنـي إبراهيـم بن ميسرة، أنه سمع مـجاهداً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحدى نسائه: " يَأْتُونَهُ حُفاةً عُرَاةً غُلْفـاً " فـاسْتَترَتْ بِكُمِّ دِرْعِها، وَقالَتْ وَاسَوأتاهُ قال ابن جُرَيج: أخبرت أنها عائشة قالت: يا نبـيّ الله، لا يحتشمُ الناس بعضهم بعضا؟ قال:
{ لكُلّ امُرِىءٍ يَوْمِئِذٍ شأْنٌ يُغْنِـيهِ }


حدثناابن بشار، قال: ثنا يحيى بن سعيد، قال: ثنا سفيان، قال: ثني المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبـاس، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: " يُحْشَرُ النَّاسُ حُفاةً عُرَاةً غُرْلاً، فَأوَّلَ مَنْ يُكْسَى إبراهِيمُ " ثم قرأ: { كمَا بَدأْنا أوَّلَ خَـلْقٍ نُعِيدُه وَعْدا عَلَـيْنا إنَّا كُنَّا فـاعِلِـينَ }.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:49
وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب فـي ذلك ما قاله سعيد بن جُبـير ومـجاهد ومن قال بقولهما فـي ذلك، من أن معناه: ولقد كتبنا فـي الكتب من بعد أمّ الكتاب الذي كتب الله كل ما هو كائن فـيه قبل خـلق السموات والأرض. وذلك أن الزبور هو الكتاب، يقال منه: زبرت الكتاب وذَبرته: إذا كتبته، وأن كلّ كتاب أنزله الله إلـى نبـيّ من أنبـيائه، فهو ذِكْر. فإذ كان ذلك كذلك، فإن فـي إدخاله الألف واللام فـي الذكر، الدلالة البـينة أنه معنـيّ به ذكر بعينه معلوم عند الـمخاطبـين بـالآية، ولو كان ذلك غير أمّ الكتاب التـي ذكرنا لـم تكن التوراة بأولـى من أن تكون الـمعنـية بذلك من صحف إبراهيـم، فقد كان قبل زَبور داود.

فتأويل الكلام إذن، إذ كان ذلك كما وصفنا: ولقد قضينا، فأثبتنا قضاءنا فـي الكتب من بعد أمّ الكتاب، أن الأرض يرثها عبادي الصالحون يعني بذلك: أن أرض الجنة يرثها عبـادي العاملون بطاعته المنتهون إلـى أمره ونهيه من عبـاده، دون العاملـين بمعصيته منهم المؤثرين طاعة الشيطان على طاعته. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن عبد الله الهلالـي، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: ثنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى القَتَّات، عن مـجاهد، عن ابن عبـاس، قوله: { أنَّ الأرْضَ يَرِثُها عِبـادِيَ الصَّالِـحُونَ } قال: أرض الـجنة.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:50
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَما أرْسَلْناكَ إلاَّ رَحْمَةً للْعَالَـمِينَ } قال: العالـمون: من آمن به وصدّقه. قال:
{ وَإنْ أدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إلـى حِينِ }
قال: فهو لهؤلاء فتنة ولهؤلاء رحمة، وقد جاء الأمر مـجملاً رحمة للعالـمين. والعالَـمون ههنا: من آمن به وصدّقه وأطاعه.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب القول الذي رُوي عن ابن عبـاس، وهو أن الله أرسل نبـيه مـحمداً صلى الله عليه وسلم رحمة لـجميع العالـم، مؤمنهم وكافرهم. فأما مؤمنهم فإن الله هداه به، وأدخـله بـالإيـمان به وبـالعمل بـما جاء من عند الله الـجنة. وأما كافرهم فإنه دفع به عنه عاجل البلاء الذي كان ينزل بـالأمـم الـمكذّبة رسلها من قبله.

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 05:57
سورة الحج

واختلف أهل العلـم فـي وقت كون الزلزلة التـي وصفها جلّ ثناؤه بـالشدّة، فقال بعضهم: هي كائنة فـي الدنـيا قبل يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفـيان، عن الأعمش، عن إبراهيـم، عن علقمة، فـي قوله: { إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ } قال: قبل الساعة.


وهذا القول الذي ذكرناه عن علقمة والشعبـيّ ومن ذكرنا ذلك عنه قولٌ، لولا مـجيء الصحاح من الأخبـار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلافه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعلـم بـمعانـي وحي الله وتنزيـله. والصواب من القول فـي ذلك ما صحّ به الـخبر عنه. ذكر الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بـما ذكرنا:

حدثنـي أحمد بن الـمقدام، قال: ثنا الـمعتـمر بن سلـيـمان، قال: سمعت أبـي يحدّث عن قتادة، عن صاحب له حدّثه، عن عمران بن حُصين، قال: »بـينـما رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي بعض مغازيه وقد فـاوت السَّير بأصحابه، إذ نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية: { يا أيُّها النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيـمٌ». قال: فحَثُّوا الـمطيّ، حتـى كانوا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " هَلْ تَدْرُونَ أيُّ يَوْمٍ ذَلكَ؟ " قالوا: الله ورسوله أعلـم. قال: " ذلكَ يَوْمَ يُنادَى آدَمُ، يُنادِيهِ رَبُّهُ: ابْعَثْ بَعْثَ النارِ، مِنْ كُلّ ألْفٍ تِسْعَ مِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إلـى النَّارِ " قال: فأبلس القوم، فما وضح منهم ضاحك، فقال النبـيّ صلى الله عليه وسلم: " ألا اعْمَلُوا وأبْشِرُوا، فإنَّ مَعَكُمْ خَـلِـيقَتَـيْنِ ما كانَتا فِـي قَوْمٍ إلاَّ كَثَرَتاهُ، فَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنـي آدَمَ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ بَنـي إبْلِـيسَ وَيأْجُوجَ وَمأْجُوجَ " قال: " أبْشِرُوا، ما أنْتُـمْ فِـي النَّاسِ إلاَّ كالشَّامَةِ فِـي جَنْبِ البَعِيرِ، أو كالرّقْمة فـي جَناحِ الدَّابَة " ...

اسامة محمد خيري
18-02-2017, 06:04
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: الـمخـلقة الـمصورة خـلقا تامًّا، وغير مخـلقة: السِّقط قبل تـمام خـلقه لأن الـمخـلقة وغير الـمخـلقة من نعت الـمضغة والنطفة بعد مصيرها مضغة، لـم يبق لها حتـى تصير خـلقا سويًّا إلا التصوير وذلك هو الـمراد بقوله: { مُخَـلَّقَةٍ وغَيرِ مُخَـلَّقَةٍ } خـلقاً سويًّا، وغير مخـلقة بأن تلقـيه الأم مضغة ولا تصوّر ولا ينفخ فيها الروح...

وقرأت قراء الأمصار: { وَرَبَتْ } بـمعنى: الربو، الذي هو النـماء والزيادة. وكان أبو جعفر القارىء يقرأ ذلك: «وَرَبأَتْ» بالهمز.

حُدثت عن الفراء، عن أبـي عبد الله التـميـمي عنه.

وذلك غلط، لأنه لا وجه للرب ههنا، وإنـما يقال ربأ بـالهمز بـمعنى: حرس من الربـيئة، ولا معنى للـحراسة فـي هذا الـموضع. والصحيح من القراءة ما عليه قراء الأمصار.

ملحوظة

ابو جعفر من القراء العشرة ولايجوز رد قراءته

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 04:54
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { ثانِـيَ عِطْفِهِ عَنْ سَبِـيـلِ الله } قال: لاوياً رأسه، معرضاً مولـياً، لا يريد أن يسمع ما قـيـل له. وقرأ:
{ وَإذَا قِـيـلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ ورأيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ وَإذَا تُتْلَـى عَلَـيْهِ آياتُنا وَلَّـى مُسْتَكْبِراً }
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، قوله: { ثانِـيَ عِطْفِهِ } قال: يعرض عن الـحقّ.

قال أبو جعفر: وهذه الأقوال الثلاثة متقاربـات الـمعنى وذلك أن من كان ذا استكبـار فمن شأنه الإعراضُ عما هو مستكبر عنه ولَـيُّ عنقه عنه والإعراض.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله وصف هذا الـمخاصم فـي الله بغير علـم أنه من كبره إذا دُعي إلـى الله أعرض عن داعيه لوى عنقه عنه ولـم يسمع ما يقال له استكبـاراً....

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 04:58
يقول تعالى ذكره: يدعو هذا الـمنقلب علـى وجهه من إن أصابته فتنة آلهة لضرّها فـي الآخرة له، أقرب وأسرع إلـيه من نفعها. وذكر أن ابن مسعود كان يقرؤه: «يدعو مَنْ ضَرّه أقرب من نفعه».

واختلف أهل العربـية فـي موضع «مَنْ»، فكان بعض نـحوِّيـي البصرة يقول: موضعه نصب بـ «يدعو»، ويقول: معناه: يدعو لآلهة ضرّها أقرب من نفعها، ويقول: هو شاذّ لأنه لـم يوجد فـي الكلام: يدعو لزيداً. وكان بعض نـحويِّـي الكوفة يقول: اللام من صلة «ما» بعد «مَنْ» كأن معنى الكلام عنده: يدعو من لَضَرّه أقرب من نفعه وحُكي عن العرب سماعاً منها: عندي لَـمَا غيرُه خير منه، بـمعنى: عندي ما لغيره خير منه وأعطيتك لـما غيرُه خير منه، بـمعنى: ما لغيره خير منه. وقال: جائز فـي كلّ ما لـم يتبـين فـيه الإعراب الاعتراض بـاللام دون الاسم.

وقال آخرون منهم: جائز أن يكون معنى ذلك: هو الضلال البعيد يدعو فـيكون «يدعو» صلة «الضلال البعيد»، وتضمر فـي «يدعو» الهاء ثم تستأنف الكلام بـاللام، فتقول لـمن ضرّه أقرب من نفعه: لبئس الـمولـى كقولك فـي الكلام فـي مذهب الـجزاء: لَـمَا فَعَلْتَ لَهُو خَيْر لك. فعلـى هذا القول «من» فـي موضع رفع بـالهاء فـي قوله «ضَرُّه»، لأن «مَنْ» إذا كانت جزاء فإنـما يعربها ما بعدها، واللام الثانـية فـي «لبئس الـمولـى» جواب اللام الأولـى. وهذا القول الآخر علـى مذهب العربـية أصحّ، والأوّل إلـى مذهب أهل التأويـل أقرب.

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 05:09
حدثنـي يعقوب، قال: ثنا ابن علـية، قال: أخبرنا أبو رجاء، قال: سُئل عكرِمة عن قوله: { فَلْـيَـمْدُدْ بِسَبَبٍ إلـى السَّماءِ } قال: سماء البـيت. { ثُمَّ لْـيَثقْطَعْ } قال: يختنق..

وأولـى ذلك بـالصواب عندي فـي تأويـل ذلك قول من قال: الهاء من ذكر نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم ودينه وذلك أن الله تعالـى ذكره ذكر قوماً يعبدونه علـى حرف وأنهم يطمئنون بـالدين إن أصابوا خيرا فـي عبـادتهم إياه وأنهم يرتدّون عن دينهم لشدّة تصيبهم فـيها، ثم أتبع ذلك هذه الآية فمعلوم أنه إنـما أتبعه إياها توبـيخاً لهم علـى ارتدادهم عن الدين أو علـى شكهم فـيه نفـاقهم، استبطاء منهم السعة فـي العيش أو السبوغ فـي الرزق. وإذا كان الواجب أن يكون ذلك عقـيب الـخبر عن نفـاقهم، فمعنى الكلام إذن إذ كان ذلك كذلك: من كان يحسب أن لن يرزق الله مـحمداً صلى الله عليه وسلم وأمته فـي الدنـيا فـيوسع علـيهم من فضله فـيها، ويرزقهم فـي الآخرة من سَنـيّ عطاياه وكرامته، استبطاء منه فعل الله ذلك به وبهم، فلـيـمدد بحبل إلـى سماء فوقه: إما سقـف بـيت، أو غيره مـما يعلق به السبب من فوقه، ثم يختنق إذا اغتاظ من بعض ما قضى الله فـاستعجل انكشاف ذلك عنه، فلـينظر هل يذهبنّ كيده اختناقه كذلك ما يغيظ؟ فإن لـم يذهب ذلك غيظه، حتـى يأتـي الله بـالفرج من عنده فـيذهبه، فكذلك استعجاله نصر الله مـحمداً ودينه لن يُؤَخِّر ما قضى الله له من ذلك عن ميقاته ولا يعجَّل قبل حينه. وقد ذكر أن هذه الآية نزلت فـي أسد وغطفـان، تبـاطئوا عن الإسلام، وقالوا: نـخاف أن لا يُنصر مـحمد صلى الله عليه وسلم فـينقطع الذي بـيننا وبـين حلفـائنا من الـيهود فلا يـميروننا ولا يُرَوُّوننا فقال الله تبـارك وتعالـى لهم: من استعجل من الله نصر مـحمد، فلـيـمدد بسبب إلـى السماء فلـيختنق فلـينظر استعجاله بذلك فـي نفسه هل هو مُذْهِبٌ غيظه؟ فكذلك استعجاله من الله نصر مـحمد غير مقدّم نصره قبل حينه....

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 05:15
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد: { وكَثِـيرٌ حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ } وهو يسجد مع ظله.

فعلـى هذا التأويـل الذي ذكرناه عن مـجاهد، وقع قوله: { وكَثِـيرٌ حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ } بـالعطف علـى قوله: { وكَثِـيرٌ مِنَ النَّاسِ } ويكون داخلاً فـي عداد من وصفه الله بـالسجود له، ويكون قوله: { حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ } من صلة «كثـير»، ولو كان «الكثـير» الثانـي مـمن لـم يدخـل فـي عداد من وصفه بـالسجود كان مرفوعا بـالعائد من ذكره فـي قوله: حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ وكان معنى الكلام حينئذٍ: وكثـير أبى السجود، لأن قوله: { حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ } يدلّ علـى معصية الله وإبـائه السجود، فـاستـحقّ بذلك العذاب.

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 05:21
وقال آخرون: الـخصمان اللذان ذكرهما الله في هذه الآية: الـجنة والنار. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو تـميـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، عن عكرِمة: { هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِـي رَبِّهِمْ } قال: هما الـجنة والنار اختصمتا، فقالت النار: خـلقنـي الله لعقوبته وقالت الـجنة: خـلقنـي الله لرحمته فقد قصّ الله علـيك من خبرهما ما تسمع.

وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب وأشبهها بتأويـل الآية، قول من قال: عُنـي بـالـخصمين جميع الكفـار من أيّ أصناف الكفر كانوا وجميع الـمؤمنـين. وإنـما قلت ذلك أولـى بـالصواب، لأنه تعالـى ذكره ذكر قبل ذلك صنفـين من خـلقه: أحدهما أهل طاعة له بـالسجود له، والآخر: أهل معصية له، قد حقّ علـيه العذاب، فقال:
{ ألَـمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِـي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِـي الأرْضِ والشَّمْسُ والقَمَرُ }
ثم قال:
{ وكَثِـيرٌ مِنَ النَّاسِ وكَثِـيرٌ حَقَّ عَلَـيْهِ العَذَابُ }
ثم أتبع ذلك صفة الصنفين كليهما وما هو فـاعل بهما، فقال: { فالذين كَفرُوا قُطِّعتْ لهُمْ ثـيابٌ منْ نارٍ } وقال الله:
{ إنَّ اللَّهَ يُدْخِـلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعمِلُوا الصَّالِـحاتِ جَنَّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهارُ }
فكان بـيِّناً بذلك أن ما بـين ذلك خبر عنهما.

فإن قال قائل: فما أنت قائل فـيـما رُوي عن أبـي ذرّ فـي قوله: إنَّ ذَلكَ نزل فـي الذين بـارزوا يوم بدر؟ قـيـل: ذلك إن شاء الله كما رُوي عنه ولكن الآية قد تنزل بسبب من الأسبـاب، ثم تكون عامة فـي كل ما كان نظير ذلك السبب.


وهذه من تلك، وذلك أن الذين تبـارزوا إنـما كان أحد الفريقـين أهل شرك وكفر بـالله، والآخر أهل إيـمان بـالله وطاعة له، فكل كافر فـي حكم فريق الشرك منهما فـي أنه لأهل الإيـمان خصم، وكذلك كل مؤمن فـي حكم فريق الإيـمان منهما فـي أنه لأهل الشرك خصم.

فتأويـل الكلام: هذان خصمان اختصموا فـي دين ربهم، واختصامهم فـي ذلك معاداة كل فريق منهما الفريق الآخر ومـحاربته إياه علـى دينه...


وكان بعضهم يزعم أن قوله: { ولَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } من الـمؤخَّر الذي معناه التقديـم، ويقول: وجه الكلام: فـالذين كفروا قطعت لهم ثـياب من نار ولهم مقامع من حديد يصبّ من فوق رؤسهم الـحميـم ويقول: إنـما وجب أن يكون ذلك كذلك، لأن الـملك يضربه بـالـمقمع من الـحديد حتـى يثقب رأسه، ثم يصبّ فـيه الـحميـم الذي انتهى حرّه فـيقطع بطنه. والـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا، يدلّ علـى خلاف ما قال هذا القائل وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أن الـحميـم إذا صبّ علـى رؤسهم نفذ الـجمـجمة حتـى يخـلص إلـى أجوافهم، وبذلك جاء تأويـل أهل التأويـل، ولو كانت الـمقامع قد تثقب رؤوسهم قبل صبّ الـحميـم علـيها، لـم يكن لقوله صلى الله عليه وسلم:


" إنَّ الـحَميـمَ يَنْفُذُ الـجُمْـجُمَةَ " معنى ولكن الأمر فـي ذلك بخلاف ما قال هذا القائل..

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 05:41
سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ والبـادِ } يقول: معتدل فـي الواجب علـيه من تعظيـم حرمة الـمسجد الـحرام، وقضاء نسكه به، والنزول فـيه حيث شاء العاكف فـيه، وهو الـمقـيـم به والبـاد: وهو الـمنتاب إلـيه من غيره....

وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي ذلك لأن الله تعالـى ذكره ذكر فـي أوّل الآية صدّ من كفر به من أراد من الـمؤمنـين قضاء نسكه فـي الـحرم عن الـمسجد الـحرام، فقال: { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللَّهِ وَالـمَسْجِدِ الـحَرَامِ } ثم ذكر جلّ ثناؤه صفة الـمسجد الـحرام، فقال: { الَّذِي جَعَلْناهُ للنَّاسِ } فأخبر جلّ ثناؤه أنه جعله للناس كلهم، فـالكافرون به يـمنعون من أراده من الـمؤمنـين به عنه. ثم قال: { سَوَاءً العاكِفُ فِـيهِ وَالبْـادِ } فكان معلوماً أن خبره عن استواء العاكف فـيه والبـاد، إنـما هو فـي الـمعنى الذي ابتدأ الله الـخبر عن الكفـار أنهم صدّوا عنه الـمؤمنـين به وذلك لا شكّ طوافهم وقضاء مناسكهم به والـمقام، لا الـخبر عن ملكهم إياه وغير ملكهم. وقـيـل: { إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِـيـلِ اللَّهِ } فعطف ب «يصدّون» وهو مستقبل علـى «كفروا» وهو ماض، لأن الصدّ بـمعنى الصفة لهم والدوام. وإذا كان ذلك معنى الكلام، لـم يكن إلا بلفظ الاسم أو الاستقبـال، ولا يكون بلفظ الـماضي. وإذا كان ذلك كذلك، فمعنى الكلام: إن الذين كفروا من صفتهم الصدّ عن سبـيـل الله، وذلك نظير قول الله: { الَّذِين آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوُبهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ }. وأما قوله: { سَوَاءٌ العاكِفُ فِـيهِ } فإن قرّاء الأمصار علـى رفع «سواءٌ» ب «العاكف، و«العاكف» به، وإعمال «جعلناه» فـي الهاء الـمتصلة به، واللام التـي فـي قوله «للناس»، ثم استأنف الكلام ب «سواءٌ» وكذلك تفعل العرب ب «سواء» إذا جاءت بعد حرف قد تـمّ الكلام به، فتقول: مررت برجل سواء عنده الـخير والشرّ، وقد يجوز فـي ذلك الـخفض. وإنـما يختار الرفع فـي ذلك لأن «سواء» فـي مذهب واحد عندهم، فكأنهم قالوا: مررت برجل واحدٍ عنده الـخير والشرّ. وأما من خفضه فإنه يوجهه إلـى معتدل عنده الـخير والشرّ، ومن قال ذلك فـي سواء فـاستأنف به ورفع لـم يقله فـي «معتدل»، لأن «معتدل» فعل مصرّح، وسواء مصدر فـاخراجهم إياه إلـى الفعل كاخراجهم حسب فـي قولهم: مررت برجل حسبك من رجل إلـى الفعل. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه قرأه: { سواءً } نصبـا علـى إعمال «جعلناه» فـيه، وذلك وإن كان له وجه فـي العربـية، فقراءة لا أستـجيز القراءة بها لإجماع الـحجة من القرّاء علـى خلافه.

...

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال التـي ذكرناها فـي تأويـل ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن مسعود وابن عبـاس، من أنه معنـيّ بـالظلـم فـي هذا الـموضع كلّ معصية لله وذلك أن الله عمّ بقوله: { وَمَنْ يُرِدْ فِـيهِ بإلـحْادٍ بِظُلْـمٍ } ولـم يخصص به ظلـم دون ظلـم فـي خبر ولا عقل، فهو علـى عمومه. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: ومن يرد فـي الـمسجد الـحرام بأن يـميـل بظلـم، فـيعصى الله فـيه، نذقه يوم القـيامة من عذاب موجع له. وقد ذُكر عن بعض القرّاء أنه كان يقرأ ذلك: «وَمَنْ يَرِدْ فِـيهِ» بفتـح الـياء، بـمعنى: ومن يَرِدْه بإلـحاد من وَرَدْت الـمكان أَرِدْه. وذلك قراءة لا تـجوز القراءة عندي بها لـخلافها ما علـيه الـحجة من القرّاء مـجمعة مع بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أنَّ «يَرِدْ» فعل واقع، يقال منه: هو يَرِد مكان كذا أو بلدة كذا غداً، ولا يقال: يَرِدُ فـي مكان كذا. وقد زعم بعض أهل الـمعرفة بكلام العرب أن طَيِّئا تقول: رغبت فـيك، تريد: رغبت بك، وذكر أن بعضهم أنشده بـيتاً:
وأرْغَبُ فِـيها عَنْ لَقِـيطٍ وَرَهْطِهِ وَلَكِنَّنِـي عَنْ سِنْبِسٍ لَسْتُ أرْغَبُ
بـمعنى: وأرغب بها. فإن كان ذلك صحيحاً كما ذكرنا، فإنه يجوز فـي الكلام، فأما القراءة به غير جائزة لِـما وصفت.

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 05:55
حدثنا أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، عن سفـيان، عن جابر، عن أبـي جعفر: { لِـيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ } قال: العفو.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي أبو تُـمَيـلة، عن أبـي حمزة، عن جابر، قال: قال مـحمد بن علـيّ: مغفرة.

وأولـى الأقوال بـالصواب قول من قال: عنـي بذلك: لـيشهدوا منافع لهم من العمل الذي يرضي الله والتـجارة وذلك أن الله عمّ منافع لهم جميع ما يَشْهَد له الـموسم ويأتـي له مكة أيام الـموسم من منافع الدنـيا والآخرة، ولـم يخصص من ذلك شيئاً من منافعهم بخبر ولا عقل، فذلك علـى العموم فـي الـمنافع التـي وصفت...

قال أبو جعفر: ولكا هذه الأقوال التـي ذكرناها عمن ذكرناها عنه فـي قوله: البَـيْتِ العَتِـيقِ وجه صحيح، غير أن الذي قاله ابن زيد أغلب معانـيه علـيه فـي الظاهر. غير أن الذي رُوي عن ابن الزبـير أولـى بـالصحة، إن كان ما:

حدثنـي به مـحمد بن سهل البخاري، قال: ثنا عبد الله بن صالـح، قال: أخبرنـي اللـيث، عن عبد الرحمن بن خالد بن مسافر، عن الزهريّ، عن مـحمد بن عروة، عن عبد الله بن الزبـير، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّمَا سُمّيَ البَيْتُ العَتِيقُ لأنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ مِنَ الـجَبـابِرَةِ فَلَـمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ قَطُّ صحيحاً "

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال الزهريّ: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " إنَّـمَا سُمّيَ البَـيْتُ العَتِـيقُ لأَنَّ اللَّهَ أعْتَقَهُ " ثم ذكر مثله....

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 06:09
فإن قال قائل: وهل من الأوثان ما لـيس برجس حتـى قـيـل: فـاجتنبوا الرجس منها؟ قيل: كلها رجس. ولـيس الـمعنى ما ذهبت إليه فـي ذلك، وإنـما معنى الكلام: فـاجتنبوا الرجس الذي يكون من الأوثان أي عبـادتها، فـالذي أمر جلّ ثناؤه بقوله: { فاجْتَنِبُوا الرّجْسَ } منها اتقاء عبادتها، وتلك العبادة هي الرجس علـى ما قاله ابن عبـاس ومن ذكرنا قوله قبل.

قال السمين

قوله: { مِنَ ظ±لأَوْثَانِ } في " مِنْ " ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنها لبيانِ الجنسِ، وهو مشهورُ قول المُعْرِبين، ويَتَقَدَّرُ بقولك: الرِّجْسُ الذي هو الأوثان. وقد تقدَّم أنَّ شرطَ كونِها بيانيةً ذلك. وتجيءُ مواضعُ كثيرةٌ لا يتأتَّىظ° فيها ذلك ولا بعضُه. والثاني: أنَّها لابتداءِ الغايةِ. وقد خَلَط أبو البقاء القولين فجَعَلَهما قولاً واحداً فقال: " ومِنْ لبيانِ الجنسٍ أي: اجْتَنِبوا الرجسَ من هذا القبيل، وهو بمعنى ابتداء الغاية ههنا " يعني أنه في المعنى يَؤُول إلى ذلِك، ولا يَؤُول إليه البتةَ. الثالث: أنها للتبعيض. وقد غَلَّط ابنُ عطية القائلَ بكونِها للتبعيضِ، فقال: " ومَنْ قال: إن " مِنْ " للتبعيض قَلَبَ معنى الآيةِ فأفسده " وقد يُمْكِنُ التبعيضُ فيها: بأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عبادة الأوثانِ. وبه قال ابنُ عباس وابنُ جريج، فكأنه قال: فاجْتَنِبوا من الأوثانِ الرِّجسَ وهو العبادةُ؛ لأنَّ المُحَرَّمَ من الأوثان إنما هو العبادةُ, ألا ترىظ° أنه قد يُتَصَوَّرُ استعمالُ الوثَنِ في بناءٍ وغيرِه ممَّا لم يُحَرِِّمِ الشرعُ استعمالَه، وللوَثَنِ جهاتٌ منها عبادتُها، وهي بعض جهاتِها. قاله الشيخ. وهو تأويلٌ بعيدٌ.

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 06:14
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ } قال: الشعائر: الـجمار، والصفـا والـمروة من شعائر الله، والـمَشْعَر الـحرام والـمزدلفة، قال: والشعائر تدخـل فـي الـحرم، هي شعائر، وهي حرم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن يقال: إن الله تعالـى ذكره أخبر أن تعظيـم شعائره، وهي ما جعله أعلاماً لـخـلقه فـيـما تعبّدهم به من مناسك حجهم، من الأماكن التـي أمرهم بأداء ما افترض علـيهم منها عندها والأعمال التـي ألزمهم عملها فـي حجهم: من تقوى قلوبهم لـم يخصص من ذلك شيئا، فتعظيـم كلّ ذلك من تقوى القلوب، كما قال جلّ ثناؤه وحقّ علـى عبـاده الـمؤمنـين به تعظيـم جميع ذلك. وقال: { إنَّها مِنْ تَقْوَى القُلُوبِ } وأنَّث ولم يقل: «فإنه»، لأنه أريد بذلك. فإن تلك التعظيـمة مع اجتناب الرجس من الأوثان من تقوى القلوب، كما قال جلّ ثناؤه:
{ إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيـمٌ }
وعنـي بقوله: { فإنَّها مِنْ تَقْوَى القُلوبِ } فإنها من وجل القلوب من خشية الله، وحقـيقة معرفتها بعظمته وإخلاص توحيده....

قال أبو جعفر: وقد دللنا قبل علـى أن قول الله تعالـى ذكره: { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ } معنـيٌّ به: كلّ ما كان من عمل أو مكان جعله الله علـماً لـمناسك حجّ خـلقه، إذ لـم يخصص من ذلك جلّ ثناؤه شيئاً فـي خبر ولا عقل. وإذ كان ذلك كذلك فمعلوم أن معنى قوله: { لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمًّى } فـي هذه الشعائر منافع إلـى أجل مسمى، فما كان من هذه الشعائر بدناً وهدياً، فمنافعها لكم من حين تـملكون إلـى أن أوجبتـموها هدايا وبدناً، وما كان منها أماكن ينسك لله عندها، فمنافعها التـجارة لله عندها والعمل بـما أمر به إلـى الشخوص عنها، وما كان منها أوقاتاً بأن يُطاع الله فـيها بعمل أعمال الـحجّ وبطلب الـمعاش فـيها بـالتـجارة، إلـى أن يطاف بـالبـيت فـي بعض، أو يوافـى الـحرم فـي بعض ويخرج عن الـحرم فـي بعض.

وقال اختلف الذين ذكرنا اختلافهم فـي تأويـل قوله: { لَكُمْ فِـيها مَنافِعُ إلـى أجَلٍ مُسَمًّى } فـي تأويـل قوله: { ثُمَّ مَـحِلُّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ } فقال الذين قالوا عنـي بـالشعائر فـي هذا الـموضع البُدْن: معنى ذلك ثم مـحل البدن إلـى أن تبلغ مكة، وهي التـي بها البـيت العتـيق. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: أخبرنا هشيـم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء: { ثُمَّ مَـحِلُّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ } إلـى مكة.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { ثُمَّ مَـحِلُّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ } يعنـي مـحل البدن حين تسمى إلـى البـيت العتـيق.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جرَيج، عن مـجاهد، قال: { ثُمَّ مَـحِلُّها } حين تسمى هدياً { إلـى البـيت العتـيق } ، قال: الكعبة أعتقها من الـجبـابرة.

فوجه هؤلاء تأويـل ذلك إلـى ثَمَّ منـحر البدن والهدايا التـي أوجبتـموها إلـى أرض الـحرم.

وقالوا: عنـي بـالبـيت العتـيق أرض الـحرم كلها. وقالوا: وذلك نظير قوله: { فَلا يَقْرَبُوا الـمَسْجِدَ الـحَرَامَ } والـمراد: الـحرم كله.

وقال آخرون: معنى ذلك: ثم مـحلكم أيها الناس من مناسك حجكم إلـى البـيت العتـيق أن تطوفوا به يوم النـحر بعد قضائكم ما أوجبه الله علـيكم فـي حجكم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا يزيد بن هارون، قال: أخبرنا داود بن أبـي هند، عن مـحمد بن أبـي موسى: { ثُمَّ مَـحِلُّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ } قال: مـحلّ هذه الشعائر كلها الطواف بـالبـيت.

وقال آخرون: معنى ذلك: ثم مـحلّ منافع أيام الـحجّ إلـى البـيت العتـيق بـانقضائها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { ثُمَّ مَـحِلُّها إلـى البَـيْتِ العَتِـيقِ } حين تنقضي تلك الأيام، أيام الـحجّ إلـى البـيت العتـيق.

وأولـى هذه الأقوال عندي بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ثم مـحلّ الشعائر التـي لكم فـيها منافع إلـى أجل مسمى إلـى البـيت العتـيق، فما كان من ذلك هدياً أو بدناً فبـموافـاته الـحرم فـي الـحرم، وما كان من نُسُك فـالطواف بـالبـيت.

اسامة محمد خيري
19-02-2017, 06:31
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { فـاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَـيْها صَوَافَّ } بمعنى مصطفة، واحدها: صافة، وقد صفت بـين أيديها. ورُوي عن الـحسن ومـجاهد وزيد بن أسلـم وجماعة أُخر معهم، أنهم قرءوا ذلك: «صَوَافِـيَ» بـالـياء منصوبة، بـمعنى: خالصة لله لا شريك له فـيها صافـية له. وقرأ بعضهم ذلك: «صَوَافٍ» بإسقاط الـياء وتنوين الـحرف، علـى مثال: عوارٍ وعوادٍ. ورُوي عن ابن مسعود أنه قرأه: «صَوَافِنٌ» بـمعنى: مُعْقلة.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأه بتشديد الفـاء ونصبها، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه بـالـمعنى الذي ذكرناه لـمن قرأه كذلك....

وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: عنـي بـالقانع: السائل لأنه لو كان الـمعنـيّ بـالقانع فـي هذا الـموضع الـمكتفـي بـما عنده والـمستغنـي به، لقـيـل: وأطعموا القانع والسائل، ولـم يقل: وأطعموا القانع والـمعترّ. وفـي إتبـاع ذلك قوله: والـمعترّ الدلـيـل الواضح علـى أن القانع معنـيّ به السائل، من قولهم: قنع فلان إلـى فلان، بـمعنى سأله وخضع إلـيه، فهو يقنع قنوعاً ومنه قول لبـيد:
وأعْطانِي المَوْلى عَلى حِينَ فَقْرِهِ إذَا قالَ أبْـصِرْ خَـلَّتِـي وَقُنُوعـي
وأما القانع الذي هو بـمعنى الـمكتفـي، فإنه من قَنِعْت به بكسر النون أقنع قناعة وقنعاً وقنعاناً. وأما الـمعترّ: فإنه الذي يأتـيك معترّاً بك لتعطيه وتطعمه.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 09:52
وأولى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه لولا دفـاعه الناس بعضهم ببعض، لهُدم ما ذكر، من دفعه تعالـى ذكره بعضَهم ببعض، كفِّه الـمشركين بـالـمسلـمين عن ذلك ومنه كفه ببعضهم التظالـم، كالسلطان الذي كفّ به رعيته عن التظالم بينهم ومنه كفُّه لـمن أجاز شهادته بـينهم ببعضهم عن الذهاب بحقّ من له قِبله حق، ونـحو ذلك. وكلّ ذلك دفع منه الناس بعضهم عن بعض، لولا ذلك لتظالـموا، فهدم القاهرون صوامع الـمقهورين وبـيَعهم وما سمّى جلّ ثناؤه. ولـم يضع الله تعالـى دلالة فـي عقل علـى أنه عنـي من ذلك بعضاً دون بعض، ولا جاء بأن ذلك كذلك خبر يجب التسلـيـم له، فذلك علـى الظاهر والعموم علـى ما قد بـيَّنته قبل لعموم ظاهر ذلك جميع ما ذكرنا...

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { لَهُدّمَتْ }. فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة: «لَهُدِمَتْ» خفـيفة. وقرأته عامة قرّاء أهل الكوفة والبصرة: { لَهُدّمَتْ } بـالتشديد بـمعنى تكرير الهدم فـيها مرّة بعد مرّة. والتشديد فـي ذلك أعجب القراءتـين إلـيّ. لأن ذلك من أفعال أهل الكفر بذلك...

وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: لهدمت صوامع الرهبـان وبِـيعَ النصارى، وصلوات الـيهود، وهي كنائسهم، ومساجد الـمسلـمين التـي يذكر فـيها اسم الله كثـيراً.

وإنـما قلنا هذا القول أولـى بتأويـل ذلك لأن ذلك هو الـمعروف فـي كلام العرب الـمستفـيض فـيهم، وما خالفه من القول وإن كان له وجه فغير مستعمل فـيـما وجهه إلـيه مَنْ وجهه إلـيه.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 09:58
حدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عُبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: { وَقَصْرٍ مَشِيدٍ } يقول: طويـل.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: عنـي بـالـمشيد الـمـجصَّص، وذلك أن الشيِّد فـي كلام العرب هو الـجصّ بعينه ومنه قول الراجز:
كحَبَّةِ الـمَاءِ بـينَ الطيّ والشِّيدِ
فـالـمشيد: إنـما هو مفعول من الشِّيد ومنه قول امرىء القـيس:
وتَـيْـماءَ لَـمْ يَتْرُكْ بِها جِذْعَ نَـخْـلَةٍ وَلا أُطُما إلاَّ مَشِيدا بِجَنْدَلِ
يعنـي بذلك: إلا بـالبناء بـالشيد والـجندل. وقد يجوز أن يكون معنـيًّا بـالـمشيد: الـمرفوع بناؤه بـالشِّيدِ، فـيكون الذين قالوا: عنـي بـالـمشيد الطويـل نَـحَوْا بذلك إلـى هذا التأويـل ومنه قول عديّ بن زيد:
شادَهُ مَرْمَرا وَجَلَّلَهُ كِلْ ساً فللطَّيْرِ فِـي ذُرَاهُ وُكُورُ
وقد تأوّله بعض أهل العلـم بلغات العرب بـمعنى الـمزين بـالشيد من شدته أشيده: إذا زيَّنته به، وذلك شبـيه بـمعنى من قال مُـجَصَّص.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 10:07
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يوماً من الثقل وما يخاف كألف سنة.

والقول الثانـي عندي أشبه بـالـحقّ فـي ذلك وذلك أن الله تعالـى ذكره أخبر عن استعجال الـمشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم بـالعذاب، ثم أخبر عن مبلغ قدر الـيوم عنده، ثم أتبع ذلك قوله:
{ وكأيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أمْلَـيْتُ لَهَا وَهِيَ ظالِـمَةٌ }
فأخبر عن إملائه أهل القرية الظالـمة وتركه معاجلتهم بـالعذاب، فبـين بذلك أنه عنى بقوله: { وَإنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كألْفِ سَنَةٍ مِـمَّا تَعُدُّونَ } نفـي العجلة عن نفسه ووصفها بـالأناة والانتظار. وإذ كان ذلك كذلك، كان تأويـل الكلام: وإن يوما من الآيام التـي عند الله يوم القـيامة، يوم واحد كألف سنة من عددكم، ولـيس ذلك عنده ببعيد وهو عندكم بعيد فلذلك لا يعجل بعقوبة من أراد عقوبته حتـى يبلغ غاية مدّته....

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء، متقاربتا الـمعنى وذلك أن من عجز عن آيات الله فقد عاجز الله، ومن معاجزة الله التعجيز عن آيات الله والعمل بـمعاصيه وخلاف أمره. وكان من صفة القوم الذين أنزل الله هذه الآيات فـيهم أنهم كانوا يبطئون الناس عن الإيـمان بـالله واتبـاع رسوله ويغالبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحسبون أنهم يُعْجزونه ويغلبونه، وقد ضمن الله له نصره علـيهم، فكان ذلك معاجزتهم الله. فإذ كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب الصواب فـي ذلك.

وأما الـمعاجزة فإنها الـمفـاعلة من العجز، ومعناه: مغالبة اثنـين أحدهما صاحبه أيهما يعجزه فـيغلبه الآخر ويقهره.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 10:15
حُدثت عن الـحسين بن الفرج، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { إلاَّ إذَا تَـمَنَّى } يعنـي بـالتـمنـي: التلاوة والقراءة.

وهذا القول أشبه بتأويـل الكلام، بدلالة قوله: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقـي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ } علـى ذلك لأن الآيات التـي أخبر الله جلّ ثناؤه أنه يحكمها، لا شك أنها آيات تنزيـله، فمعلوم أن الذي ألقـي فـيه الشيطان هو ما أخبر الله تعالـى ذكره أنه نسخ ذلك منه وأبطله ثم أحكمه بنسخه ذلك منه.

فتأويـل الكلام إذن: وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبـيّ إلا إذا تلا كتاب الله، وقرأ، أو حدّث وتكلـم، وألقـى الشيطان فـي كتاب الله الذي تلاه وقرأه أو فـي حديثه الذي حدث وتكلـم. { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } يقول: تعالـى فـيذهب الله ما يـلقـي الشيطان من ذلك علـى لسان نبـيه ويبطله. كما:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: { فَـيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } فـيبطل الله ما ألقـى الشيطان.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 10:26
يقول تعالـى ذكره: ولا يزال الذين كفرا بـالله فـي شكّ.

ثم اختلف أهل التأويـل فـي الهاء التـي فـي قوله: «منه» من ذكر ما هي؟ فقال بعضهم: هي من ذكر قول النبـيّ صلى الله عليه وسلم: " تلك الغرانـيق العُلَـى، وإن شفـاعتهن لترتـجى " ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مـحمد، قال: ثنا شعبة، عن أبـي بشر، عن سعيد بن جُبـير: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ } من قوله: " تلك الغرانـيق العلـى، وإن شفـاعتهن ترتـجى "

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ } قال: مـما جاءك به إبلـيس لا يخرج من قلوبهم زادهم ضلالة.

وقال آخرون: بل هي من ذكر سجود النبـيّ صلى الله عليه وسلم فـي النـجم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا أبو بشر، عن سعيد بن جُبـير: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ } قال: فـي مِرْية من سجودك.

وقال آخرون: بل هي من ذكر القرآن. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: { وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ } قال: من القرآن.

وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك بـالصواب، قول من قال: هي كناية من ذكر القرآن الذي أحكم الله آياته وذلك أن ذلك من ذكر قوله:
{ وَلِـيَعْلَـمَ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ أنَّهُ الْـحَقُّ مِنْ رَبِّكَ }
أقرب منه من ذكر قوله:
{ فَـيَنُسَخُ اللَّهُ ما يُـلْقـي الشَّيْطانُ }
والهاء من قوله «أنه» من ذكر القرآن، فإلـحاق الهاء فـي قوله: { فِـي مِرْيَةٍ مِنْهُ } بـالهاء من قوله: { أنَّهُ الـحَقُّ مِنْ رَبِّكَ } أولـى من إلـحاقها ب «ما» التـي فـي قوله: { ما يُـلْقِـي الشَّيْطانُ } مع بُعد ما بـينهما....

حدثنا الـحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله: { عَذَابُ يَوْمٍ عَقِـيـمٍ } قال: هو يوم بدر. عن أبـيّ بن كعب.

وهذا القول الثانـي أولـى بتأويـل الآية لأنه لا وجه لأن يقال: لا يزالون فـي مرية منه حتـى تأتـيهم الساعة بغتة، أو تأتـيهم الساعة وذلك أن الساعة هي يوم القـيامة، فإن كان الـيوم العقـيـم أيضا هو يوم القـيامة فإنـما معناه ما قلنا من تكرير ذكر الساعة مرّتـين بـاختلاف الألفـاظ، وذلك ما لا معنى له. فإذ كان ذلك كذلك، فأولـى التأويـلـين به أصحهما معنى وأشبههما بـالـمعروف فـي الـخطاب، وهو ما ذكرناه من معناه.

فتأويـل الكلام إذن: ولا يزال الذين كفروا فـي مرية منه، حتـى تأتـيهم الساعة بغتة فـيصيروا إلـى العذاب الدائم، أو يأتـيهم عذاب يوم عقـيـم له فلا ينظروا فـيه إلـى اللـيـل ولا يؤخروا فـيه إلـى الـمساء، لكنهم يقتلون قبل الـمساء.

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 11:39
وقال آخرون: عنـي به ذبح يذبحونه ودم يهريقونه. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أبو كريب، قال: ثنا ابن يـمان، قال: ثنا ابن جُرَيج، عن مـجاهد، فـي قوله: { لِكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ } قال: إراقة الدم بـمكة.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { هُمْ ناسِكُوهُ } قال: إهراق دماء الهدي.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة: { مَنْسَكاً } قال: ذبحاً وحجّاً.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: عنـي بذلك إراقة الدم أيام النـحر بـمِنى لأن الـمناسك التـي كان الـمشركون جادلوا فـيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت إراقة الدم فـي هذه الأيام، علـى أنهم قد كانوا جادلوه فـي إراقة الدماء التـي هي دماء ذبـائح الأنعام بـما قد أخبر الله عنهم فـي سورة الأنعام. غير أن تلك لـم تكن مناسك، فأما التـي هي مناسك فإنـما هي هدايا أو ضحايا ولذلك قلنا: عنـي بـالـمنسك فـي هذا الـموضع الذبح الذي هو بـالصفة التـي وصفنا

اسامة محمد خيري
20-02-2017, 11:46
يقول تعالـى ذكره: ألـم تعلـم يا مـحمد أن الله يعلـم كلّ ما فـي السموات السبع والأرضين السبع، لا يخفـى علـيه من ذلك شيء، وهو حاكم بـين خـلقه يوم القـيامة، علـى علـم منه بجميع ما عملوه فـي الدنـيا، فمـجازي الـمـحسن منهم بإحسانه والـمسيء بإساءته. { إنَّ ذَلِكَ فـي كِتَابٍ } يقول تعالـى ذكره: إن علـمه بذلك فـي كتاب، وهو أمّ الكتاب الذي كتب فـيه ربنا جلّ ثناؤه قبل أن يخـلق خـلقه ما هو كائن إلـى يوم القـيامة. { إنَّ ذلكَ عَلـى اللَّهِ يَسِيرٌ }. كما:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا ميسر بن إسماعيـل الـحلبـيّ، عن الأوزاعيّ، عن عبدة بن أبـي لُبـابة، قال: علـم الله ما هو خالق وما الـخـلق عاملون، ثم كتبه، ثم قال لنبـيه: { ألَـمْ تَعْلَـمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السَّماءِ والأرْضِ إنَّ ذَلِكَ فِـي كِتابٍ إنَّ ذَلِكَ عَلـى اللَّهِ يَسِيرٌ }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي ميسر، عن أرطاة بن الـمنذر، قال: سمعت ضَمْرة بن حبـيب يقول: إن الله كان علـى عرشه علـى الـماء، وخـلق السموات والأرض بـالـحقّ، وخـلق القلـم فكتب به ما هو كائن من خـلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبح الله ومـجّده ألف عام، قبل أن يبدأ شيئاً من الـخـلق.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي معتـمر بن سلـيـمان، عن أبـيه، عن سيار، عن ابن عبـاس، أنه سأل كعب الأحبـار عن أمّ الكتاب، فقال: علـم الله ما هو خالق وما خـلقه عاملون، فقال لعلـمه: كُنْ كتابـاً.

وكان ابن جُرَيج يقول فـي قوله: { إنَّ ذَلَكَ فِـي كِتابٍ } ما:

حدثنا به القاسم، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: { إنَّ ذَلِكَ فِـي كِتابٍ } قال: قوله:
{ اللَّهُ يَحْكُم بَـيْنَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ فِـيـما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتِلَفُونَ }


وإنـما اخترنا القول الذي قلنا فـي ذلك، لأن قوله: { إنَّ ذلكَ } إلـى قوله: { ألَـمْ تَعْلَـمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السَّمآءِ والأرْضِ } أقرب منه إلـى قوله:
{ اللَّهُ يَحْكُمُ بَـيْنَكُمْ يَوْمَ القِـيامَةِ فِـيـما كُنْتُـمْ فِـيهِ تَـخْتَلِفُونَ }
، فكان إلـحاق ذلك بـما هو أقرب إلـيه أولـى منه بـما بعد.

وقوله: { إنَّ ذَلِكَ عَلـى اللَّهِ يَسِيرٌ } اختلف فـي ذلك، فقال بعضهم: معناه: إن الحكم بـين الـمختلفـين فـي الدنيا يوم القـيامة علـى الله يسير. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: { إنَّ ذَلِكَ عَلـى الله يَسِيرٌ } قال: حكمه يوم القـيامة، ثم قال بـين ذلك: { ألَـمْ تَعْلَـمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السَّماءِ وَالأرضِ إنَّ ذلكَ فـي كتابٍ }.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن كتاب القلـم الذي أمره الله أن يكتب فـي اللوح الـمـحفوظ ما هو كائن علـى الله يسير يعنـي هين. وهذا القول الثانـي أولـى بتأويـل ذلك، وذلك أن قوله: { إنَّ ذلكَ عَلـى اللَّهَ يَسِيرٌ }... إلـى قوله: { ألَـمْ تَعْلَـمْ أنَّ اللَّهَ يَعْلَـمُ ما فِـي السَّماءِ والأرْضِ } بـينهما فإلـحاقه بـما هو أقرب أولـى ما وجد للكلام، وهو كذلك مخرج فـي التأويـل صحيح.

اسامة محمد خيري
21-02-2017, 05:04
وكان بعضهم يقول: معنى ذلك: { ضَعُفَ الطَّالِبُ } من بنـي آدم إلـى الصنـم حاجته، { والـمَطْلُوبُ } إلـيه الصنـم أن يعطي سائله من بنـي آدم ما سأله، يقول: ضعف عن ذلك وعجز.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا ما ذكرته عن ابن عبـاس من أن معناه: وعجز الطالب وهو الآلهة أن تستنقذ من الذبـاب ما سلبها إياه، وهو الطيب وما أشبهه والـمطلوب: الذبـاب.

وإنـما قلت هذا القول أولـى بتأويـل ذلك، لأن ذلك فـي سياق الـخبر عن الآلهة والذبـاب فأن يكون ذلك خبراً عما هو به متصل أشبه من أن يكون خبراً عما هو عنه منقطع. وإنـما أخبر جلّ ثناؤه عن الآلهة بـما أخبر به عنها فـي هذه الآية من ضعفها ومهانتها، تقريعاً منه بذلك عَبَدتها من مشركي قريش، يقول تعالـى ذكره: كيف يجعل مثل فـي العبـادة ويشرك فـيها معي ما لا قدرة له علـى خـلق ذبـاب، وإن أخذ له الذبـاب فسلبه شيئاً علـيه لـم يقدر أن يـمتنع منه ولا ينتصر، وأنا الـخالق ما فـي السموات والأرض ومالكٌ جميع ذلك، والـمـحيـي من أردت والـمـميت ما أردت ومن أردت. إن فـاعل ذلك لا شكّ أنه فـي غاية الـجهل.

اسامة محمد خيري
21-02-2017, 05:09
حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول، فـي قوله: { هُوَ سَمَّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ مِنْ قَبْلُ } يقول: الله سماكم الـمسلـمين.

وقال آخرون: بل معنا: إبراهيـم سماكم الـمسلـمين وقالوا هو كناية من ذكر إبراهيـم صلى الله عليه وسلم: ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد { هُوَ سَمَّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ } قال: ألا ترى قول إبراهيـم
{ وَاجْعَلْنا مُسْلِـمِينَ لَكَ وَمِنْ ذُرّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِـمَةً لَكَ }
قال: هذا قول إبراهيـم { هُوَ سَمَّاكُمُ الـمُسْلِـمِينَ } ولـم يذكر الله بـالإسلام والإيـمان غير هذه الأمة، ذُكرت بـالإيـمان والإسلام جميعاً، ولـم نسمع بأمة ذكرت إلا بـالإيـمان.

ولا وجه لـما قال ابن زيد من ذلك لأنه معلوم أن إبراهيـم لـم يسمّ أمة مـحمد مسلـمين فـي القرآن، لأن القرآن أنزل من بعده بدهر طويـل، وقد قال الله تعالـى ذكره: { هُوَ سَمَّاكُمُ الـمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفـي هَذَا } ولكن الذي سمانا مسلـمين من قبل نزول القرآن وفـي القرآن الله الذي لـم يزل ولا يزال. وأما قوله: { مِنْ قَبْلُ } فإن معناه: من قبل نزول هذا القرآن فـي الكتب التـي نزلت قبله. { وفـي هَذَا } يقول: { وَفِـي هَذَا الكِتابِ }.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { هُوَ سَمَّاكُمُ الـمُسْلِـمينَ مِن قَبْلُ } وفـي هذا القرآن.

اسامة محمد خيري
21-02-2017, 05:17
سورة المؤمنون

يقول تعالـى ذكره: { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } أسللناه منه، فـالسلالة هي الـمستلة من كلّ تربة ولذلك كان آدم خـلق من تربة أخذت من أديـم الأرض.

وبنحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل علـى اختلاف منهم فـي الـمعنـيّ بـالإنسان فـي هذا الـموضع، فقال بعضهم: عنـي به آدم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة: { مِنْ طِينٍ } قال: استلّ آدم من الطين.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، عن معمر، عن قَتادة، فـي قوله: { مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } قال: استلّ آدم من طين، وخُـلقت ذرّيته من ماء مهين.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولقد خـلقنا ولد آدم، وهو الإنسان الذي ذكر فـي هذا الـموضع، من سلالة، وهي النطفة التـي استُلَّت من ظهر الفحل من طين، وهو آدم الذي خُـلق من طين. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمنهال بن عمرو، عن أبـي يحيى، عن ابن عبـاس: { مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ } قال: صفوة الـماء.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد فـي قول الله: { مِنْ سُلالَةٍ } من منـيّ آدم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: ولقد خـلقنا ابن آدم من سُلالة آدم، وهي صفة مائة وآدم هو الطين، لأنه خُـلق منه.

وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويـلـين بـالآية، لدلالة قوله: { ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِـي قَرَارٍ مَكِينٍ } علـى أن ذلك كذلك لأنه معلوم أنه لـم يَصِرْ فـي قرار مكين إلاَّ بعد خـلقه فـي صلب الفحل، ومن بعد تـحوّله من صلبه صار فـي قرار مكين والعرب تسمي ولد الرجل ونطفته: سلـيـله وسلالته، لأنهما مسلولان منه ومن السُّلالة قول بعضهم:
حَمَلَتْ بِهِ عَضْبَ الأدِيـمِ غَضَنْفَرا سُلالَةَ فَرْجٍ كانَ غيرَ حَصِينِ
وقول الآخر:
وَهَلْ كُنْتُ إلاَّ مُهْرَةً عَرَبِـيَّةً سُلالَةَ أفْرَاسٍ تَـجَلَّلَها بَغْلُ
فمن قال: سلالة جمعها سلالات، وربـما جمعوها سلائل، ولـيس بـالكثـير، لأن السلائل جمع للسلـيـل ومنه قول بعضهم:
إذا أُنْتِـجَتْ مِنْها الـمَهارَى تَشابَهَتْ عَلـى القَوْدِ إلاَّ بـالأُنُوفِ سَلائلُهْ
وقول الراجز:
يَقْذِفْنَ فِـي أسْلابِها بـالسَّلائِل

اسامة محمد خيري
21-02-2017, 05:24
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَـلْقاً آخَرَ } قال: حين استوى شبـابه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مـجاهد: حين استوى به الشبـاب.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بذلك نفخ الروح فـيه وذلك أنه بنفخ الروح فـيه يتـحوّل خـلقاً آخر إنساناً، وكان قبل ذلك بـالأحوال التـي وصفه الله أنه كان بها، من نطفة وعلقة ومضغة وعظم وبنفخ الروح فـيه، يتـحوّل عن تلك الـمعانـي كلها إلـى معنى الإنسانـية، كما تـحوّل أبوه آدم بنفخ الروح فـي الطينة التـي خـلق منها إنساناً وخـلقاً آخر غير الطين الذي خـلق منه.

...

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا حكام، عن عنبسة، عن لـيث، عن مـجاهد: { فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ } قال: يصنعون ويصنع الله، والله خير الصانعين.

وقال آخرون: إنـما قـيـل: { فَتَبارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ } لأن عيسى ابن مريـم كان يخـلق، فأخبر جلّ ثناؤه عن نفسه أنه يخـلق أحسن مـما كان يخـلق. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج، فـي قوله: { فَتَبـارَكَ اللّهُ أحْسَنُ الـخالِقِـينَ } قال: عيسى ابن مريـم يخـلق.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول مـجاهد، لأن العرب تسمي كل صانع خالقاً ومنه قول زهير:
وَلأَنْتَ تَفْرِي ما خَـلَقْتَ وَبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْـلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي
ويروى:
وَلأَنْتَ تَـخْـلُقُ ما فَريْتَ وَبَعْ ضُ القَوْمِ يَخْـلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي

اسامة محمد خيري
21-02-2017, 05:33
والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن سيناء اسم أضيف إلـيه الطور يعرف به، كما قـيـل جبلاً طيِّىء، فأضيفـا إلـى طيىء، ولو كان القول فـي ذلك كما قال من قال معناه جبل مبـارك، أو كما قال من قال معناه حسن، لكان «الطور» منوّنا، وكان قوله «سيناء» من نعته.

علـى أن سيناء بـمعنى: مبـارك وحسن، غير معروف فـي كلام العرب فـيجعل ذلك من نعت الـجبل، ولكن القول فـي ذلك إن شاء الله كما قال ابن عبـاس، من أنه جبل عرف بذلك، وأنه الـجبل الذي نُودي منه موسى صلى الله عليه وسلم، وهو مع ذلك مبـارك، لا أن معنى سيناء معنى مبـارك.

وقوله: { تَنْبُتُ بـالدُّهْنِ } اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { تَنْبُتُ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { تَنْبُتُ } بفتـح التاء، بـمعنى: تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن، وقرأه بعض قرّاء البصرة: «تُنْبِتُ» بضم التاء، بـمعنى: تنبت الدهن: تـخرجه. وذكر أنها فـي قراءة عبد الله: «تُـخْرِجُ الدُّهْنَ» وقالوا: البـاء فـي هذا الـموضع زائدة، كما قـيـل: أخذت ثوبه وأخدته بثوبه وكما قال الراجز:
نَـحْنُ بَنُو جَعْدَةَ أرْبـابُ الفَلَـجْ نَضْرِبُ بـالْبِـيضِ وَنَرْجُو بـالفَرَجْ
بـمعنى: ونرجو الفرج. والقول عندي فـي ذلك أنهما لغتان: نبت، وأنبت ومن أنبت قول زهير:
رأيْتَ ذَوِي الـحاجاتِ حَوْلَ بُـيُوتهِمْ قَطِينا لَهُمْ حتـى إذَا أنْبَتَ البَقْلُ
ويروى: «نبت»، وهو كقوله: فأَسْرِ بأهْلِكَ و «فـاسْرِ». غير أن ذلك وإن كان كذلك، فإن القراءة التـي لا أختار غيرها فـي ذلك قراءة من قرأ: { تَنْبُتُ } بفتـح التاء، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها. ومعنى ذلك: تنبت هذه الشجرة بثمر الدهن. كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { تَنْبُتُ بـالدُّهْنِ } قال: بثمره.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 05:13
وأولـى هذه الأقوال بتأويـل ذلك: أنها مكان مرتفع ذو استواء وماء ظاهر ولـيس كذلك صفة الرملة، لأن الرملة لا ماء بها مُعِين، والله تعالـى ذكره وصف هذه الربوة بأنها ذات قرار ومَعِين.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال جماعة من أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وآوَيْناهُما إلـى رَبْوَةٍ } قال: الربوة: الـمستوية.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { إلـى رَبْوَةٍ } قال: مستوية.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.

وقوله: { ذَات قَرَارٍ وَمَعِينٍ } يقول تعالـى ذكره: من صفة الربوة التـي آوينا إلـيها مريـم وابنها عيسى، أنها أرض منبسطة وساحة وذات ماء ظاهر لغير البـاطن جارٍ.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس: { وَمَعِينٍ } قال: الـمَعِين: الـماء الـجاري، وهو النهر الذي قال الله:
{ قَدْ جَعَلَ رَبُّكَ تَـحْتَكِ سَرِيًّا }


حدثنـي مـحمد بن عمارة الأسديّ، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى، عن مـجاهد، فـي قوله: { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعينٍ } قال: الـمَعِين: الـماء....

وقال آخرون: عُنـي بـالقرار الثمار. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة: { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } هي ذات ثمار، وهي بـيت الـمقدس.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، مثله.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله قَتادة فـي معنى: { ذَاتِ قَرَارٍ } وإن لـم يكن أراد بقوله: إنها إنـما وصفت بأنها ذات قرار، لـما فـيها من الثمار، ومن أجل ذلك يستقرّ فـيها ساكنوها، فلا وجه له نعرفه. وأما { مَعِينٍ } فإنه مفعول من عِنْته فأنا أعينه، وهو معين وقد يجوز أن يكون فعيلاً من مَعَن يـمعن، فهو معين من الـماعون ومنه قول عَبـيد بن الأبرص:
وَاهِيَةٌ أوْ مَعِينٌ مُـمْعِنٌ أوْ هَضْبَةٌ دُونَها لُهُوبُ

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 06:44
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { وَإنَّ هَذِهِ أمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحدَةً } ، فقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة: «وأنَّ» بـالفتـح، بـمعنى: إنـي بـما تعملون علـيـم، وأن هذه أمتكم أمة واحدة. فعلـى هذا التأويـل «أنّ» فـي موضع خفض، عطف بها علـى «ما» من قوله: { بِـما تَعْمَلُونَ } ، وقد يحتـمل أن تكون فـي موضع نصب إذا قرىء ذلك كذلك، ويكون معنى الكلام حينئذٍ: واعلـموا أن هذه، ويكون نصبها بفعل مضمر. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين بـالكسر: { وَإنَّ } هذه علـى الاستئناف. والكسر فـي ذلك عندي علـى الابتداء هو الصواب، لأن الـخبر من الله عن قـيـله لعيسى: { يا أيُّها الرُسُلُ } مبتدأ، فقوله: { وَإنَّ هَذِهِ } مردود علـيه عطفـاً به علـيه فكان معنى الكلام: وقلنا لعيسى: يا أيها الرسل كلوا من الطيبـات، وقلنا: وإن هذه أمتكم أمة واحدة. وقـيـل: إن الأمة الذي فـي هذا الـموضع: الدِّين والـملة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، فـي قوله: { وَإنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أُمَّةً وَاحِدَةً } قال: الـملة والدين.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 06:51
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { زُبُراً } فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والعراق: { زُبُراً } بـمعنى جمع الزَّبور. فتأويـل الكلام علـى قراءة هؤلاء: فتفرّق القوم الذين أمرهم الله من أمة الرسول عيسى بـالاجتـماع علـى الدين الواحد والـملة الواحدة، دينهم الذي أمرهم الله بلزومه { زُبُراً } كُتُبـاً، فدان كل فريق منهم بكتاب غير الكتاب الذين دان به الفريق الآخر، كالـيهود الذين زعموا أنهم دانوا بحكم التوراة وكذّبوا بحكم الإنـجيـل والقرآن، وكالنصارى الذين دانوا بـالإنـجيـل بزعمهم وكذّبوا بحكم الفرقان. ذكر من تأوّل ذلك كذلك:

حدثنا مـحمد بن عبد الأعلـى، قال: ثنا مـحمد بن ثور، عن معمر، عن قَتادة { زُبُراً } قال: كُتُبـاً.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، مثله.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { بَـيْنَهُمْ زُبُراً } قال: كُتُب الله فرّقوها قطعاً.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد: { فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبُراً } قال مـجاهد: كُتُبهم فرّقوها قطعاً.

وقال آخرون من أهل هذه القراءة: إنـما معنى الكلام: فتفرّقوا دينهم بـينهم كُتُبـاً أحدثوها يحتـجّون فـيها لـمذاهبهم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حَزْبٍ بِـمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } قال: هذا ما اختلفوا فـيه من الأديان والكتب، كلّ معجبون برأيهم، لـيس أهل هواء إلاَّ وهم معجبون برأيهم وهواهم وصاحبهم الذي اخترق ذلك لهم.

وقرأ ذلك عامة قرّاء الشام: «فَتَقَطَّعُوا أمْرَهُمْ بَـيْنَهُمْ زُبَراً» بضم الزاء وفتـح البـاء، بـمعنى: فتفرّقوا أمرهم بـينهم قِطَعا كزُبَر الـحديد، وذلك القِطَع منها، واحدتها زُبْرة، من قول الله:
{ آتُونِـي زُبَرَ الـحَدِيد }
فصار بعضهم يهوداً وبعضهم نصارى.

والقراءة التـي نـختار فـي ذلك: قراءة من قرأه بضم الزاء والبـاء، لإجماع أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك علـى أنه مراد به الكتب، فذلك يبـين عن صحة ما اخترنا فـي ذلك، لأن الزُّبُر هي الكتب، يقال منه: زَبَرْت الكتاب: إذ كتبته.

فتأويـل الكلام: فتفرّق الذين أمرهم الله بلزوم دينه من الأمـم دينهم بـينهم كتبـاً، كما بـيَّنا قبل.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 07:04
وقوله: { وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } كان بعضهم يقول: معناه: سبقت لهم من الله السعادة، فذلك سبوقهم الـخيرات التـي يعملونها. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { وَهُمْ لَها سَابِقُونَ } يقول: سبقت لهم السعادة.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَهُمْ لَهَا سابِقُونَ } ، فتلك الـخيرات.

وكان بعضهم يتأوّل ذلك بـمعنى: وهم إلـيها سابقون. وتأوّله آخرون: وهم من أجلها سابقون.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب القول الذي قاله ابن عبـاس، من أنه سبقت لهم من الله السعادة قبل مسارعتهم فـي الـخيرات، ولـما سبق لهم من ذلك سارعوا فـيها.

وإنـما قلت ذلك أولـى التأويـلـين بـالكلام لأن ذلك أظهر معنـيـيه، وأنه لا حاجة بنا إذا وجهنا تأويـل الكلام إلـى ذلك، إلـى تـحويـل معنى «اللام» التـي فـي قوله: { وَهُمْ لَهَا } إلـى غير معناها الأغلب علـيها.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 07:18
وقوله: { تَهْجُرُونَ } اختلفت القرّاء فـي قراءته، فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { تَهْجُرُونَ } بفتـح التاء وضم الـجيـم. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان من الـمعنى: أحدهما أن يكون عنى أنه وصفهم بـالإعراض عن القرآن أو البـيت، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضه. والآخر: أن يكون عنى أنهم يقولون شيئاً من القول كما يهجُر الرجل فـي منامه، وذلك إذا هَذَى فكأنه وصفهم بأنهم يقولون فـي القرآن ما لا معنى له من القول، وذلك أن يقولوا فـيه بـاطلاً من القول الذي لا يضرّه. وقد جاء بكلا القولـين التأويـل من أهل التأويـل. ذكر من قال: كانوا يُعْرِضون عن ذكر الله والـحقّ ويهجُرونه:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { تَهْجُرُونَ } قال: يهجُرون ذكر الله والـحقّ.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، عن السديّ، عن أبـي صالـح، فـي قوله: { سامراً تَهْجُرُونَ } قال: السبّ.

ذكر من قال: كانوا يقولون البـاطل والسيّىء من القول فـي القرآن:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا يحيى، قال: ثنا سفـيان، عن حصين، عن سعيد بن جُبـير: { تَهْجرُونَ } قال: يهجُرون فـي البـاطل.

قال: ثنا يحيى، عن سفـيان، عن حصين، عن سعيد بن جبـير: { سامِراً تَهْجُرُونَ } قال: يسمرون بـاللـيـل يخوضون فـي البـاطل.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { تَهْجُرُونَ } قال: بـالقول السيىء فـي القرآن.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { تهْجُرُونَ } قال: الهَذَيان الذي يتكلـم بـما لا يريد، ولا يعقل كالـمريض الذي يتكلـم بـما لا يدري. قال: كان أبـيّ يقرؤها: { سامِراً تَهْجُرُونَ }.

وقرأ ذلك آخرون: «سامرا تُهْجِرُونَ» بضم التاء وكسر الـجيـم. ومـمن قرأ ذلك كذلك من قرّاء الأمصار نافع بن أبـي نعيـم، بـمعنى: يُفْحِشون فـي الـمنطق، ويقولون الـخَنَا، من قولهم: أهجر الرجل: إذا أفحش فـي القول. وذكر أنهم كانوا يسُبُّون رسول الله صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس: «تُهْجِرُونَ» قال: تقولون هُجْراً.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا عبد الـمؤمن، عن أبـي نَهِيك، عن عكرِمة، أنه قرأ: «سامِراً تَهْجِرُونَ»: أي تسبّون.

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا هوذة، قال: ثنا عون، عن الـحسن، فـي قوله: «سامِراً تُهْجِرُونَ» رسولـي.

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قَتادة، قال: قال الـحسن: «تُهْجِرُونَ» رسول الله صلى الله عليه وسلم.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، عن معمر، عن قتادة: «تُهْجِرُونَ» يقول: يقولون سوءا.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرّزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال الـحسن: «تُهْجِرُونَ» كتاب الله ورسوله.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: «تُهْجِرُونَ»يقول: يقولون الـمنكر والـخَنَا من القول، كذلك هَجْر القول.

وأولـى القراءتـين بـالصواب فـي ذلك عندنا القراءة التـي علـيها قرّاء الأمصار، وهي فتـح التاء وضم الـجيـم، لإجماع الـحجة من القرّاء.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 07:29
يقول تعالـى ذكره: ولو عمل الربّ تعالـى ذكره بـما يهوَى هؤلاء الـمشركون وأجرى التدبـير علـى مشيئتهم وإرادتهم وترك الـحقّ الذي هم له كارهون، لفسدت السموات والأرض ومن فـيهنّ وذلك أنهم لا يعرفون عواقب الأمور والصحيحَ من التدبـير والفـاسد. فلو كانت الأمور جارية علـى مشيئتهم وأهوائهم مع إيثار أكثرهم البـاطل علـى الـحقّ، لـم تقرّ السموات والأرض ومن فـيهنّ من خـلق الله، لأن ذلك قام بـالـحقّ.

وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا مـحمد بن الـمثنى، قال: ثنا عبد الصمد، قال: ثنا شعبة، قال: ثنا السديّ، عن أبـي صالـح: { وَلَوِ اتَّبَعَ الـحَقُّ أهْوَاءَهُمْ } قال: الله.

قال: ثنا أبو معاوية، عن إسماعيـل بن أبـي خالد، عن أبـي صالـح: { وَلَوِ اتَّبَعَ الـحَقُّ أهْوَاءَهُمْ } قال: الـحقّ: هو الله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: { وَلَوِ اتَّبَعَ الـحَقُّ أهْوَاءَهُمْ } قال: الـحقّ: الله.

اسامة محمد خيري
22-02-2017, 07:35
اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: حتـى إذا فتـحنا علـيهم بـاب القتال فقتلوا يوم بدر.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي إسحاق بن شاهين، قال: ثنا خالد بن عبد الله، عن داود بن أبـي هند، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس، فـي قوله: { حتـى إذَا فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قد مضى، كان يوم بدر.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنـي عبد الأعلـى، قال: ثنا داود، عن علـيّ بن أبـي طلـحة، عن ابن عبـاس مثله.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج: { حتـى إذَا فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال: يوم بدر.

وقال آخرون: معناه: حتـى إذا فتـحنا علـيهم بـاب الـمـجاعة والضرّ، وهو البـاب ذو العذاب الشديد.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { حتـى إذَا فَتَـحْنا عَلَـيْهِمْ بـابـا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ } قال: لكفـار قريش الـجوع، وما قبلها من القصة لهم أيضا.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، بنـحوه، إلاَّ أنه قال: وما قبلها أيضا.

وهذا القول الذي قاله مـجاهد: أولـى بتأويـل الآية، لصحة الـخبر الذي ذكرناه قبل عن ابن عبـاس، أن هذه الآية نزلت علـى رسول الله صلى الله عليه وسلم فـي قصة الـمـجاعة التـي أصابت قريشاً بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم علـيهم، وأمر ثمامة بن أثال وذلك لا شكّ أنه كان بعد وقعة بدر.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 04:55
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { سُخْرِيَّا } فقرأه بعض قرّاء الـحجاز وبعض أهل البصرة والكوفة: { فـاتَّـخَذْتُـمُوهُمْ سِخْرِيًّا } بكسر السين، ويتأوّلون فـي كسرها أن معنى ذلك الهزء، ويقولون: إنها إذا ضُمت فمعنى الكملة: السُّخْرة والاستعبـاد. فمعنى الكلام علـى مذهب هؤلاء: فـاتـخذهم أهل الإيـمان بـي فـي الدنـيا هُزُؤًا ولعبـاً، تهزءون بهم، حتـى أنسوكم ذكري. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والكوفة: «فـاتَّـخذْتُـموهُمْ سُخْرِيًّا بضم السين، وقالوا: معنى الكلـمة فـي الضمّ والكسر واحد. وحكى بعضهم عن العرب سماعاً لِـجِّيّ ولُـجِّىّ، ودِريّ، ودُرِّيّ، منسوب إلـى الدرّ، وكذلك كِرسيّ وكُرسيّ وقالوا ذلك من قـيـلهم كذلك: نظير قولهم فـي جمع العصا: العِصِيّ بكسر العين، والعُصّي بضمها قالوا: وإنـما اخترنا الضمّ فـي السَّخريّ، لأنه أفصح اللغتـين.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مشهورتان ولغتان معروفتان بـمعنى واحد، قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء ذلك فمصيب. ولـيس يُعْرف من فرق بـين معنى ذلك إذا كسرت السين وإذا ضمت، لـما ذكرت من الرواية عمن سمع من العرب ما حَكَيت عنه.

ذكر الرواية به عن بعض من فرَّق فـي ذلك بـين معناه مكسورة سينه ومضمومة:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: { فـاتَّـخَذْتُـمُوهُمْ سِخْرِيًّا } قال: هما مختلفتان: سِخريًّا، وسُخريًّا، يقول الله:
{ وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِـيَتَّـخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سِخْرِيًّا }
قال: هذا سِخريًّا: يُسَخِّرونهم، والآخرون: الذين يستهزئون بهم هم «سُخريًّا»، فتلك «سِخريًّا» يُسَخرونهم عندك، فسخَّرك: رفعك فوقه والآخرون: استهزءوا بأهل الإسلام هي «سُخريّا» يَسْخَرون منهم، فهما مختلفتان. وقرأ قول الله:
{ كُلَّـما مَرَّ عَلَـيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فإنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كمَا تَسْخَرُونَ }
وقال: يسخرون منهم كما سخر قوم نوح بنوح، «اتـخذوهم سُخريًّا»: اتـخذوهم هُزُؤًا، لـم يزالوا يستهزئون بهم..

اختلفت القرّاء فـي قراءة: «إنَّهُمْ» فقرأته عامة قرّاء أهل الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة: { أنَّهُمْ } ، بفتـح الألف من «أَنهم» بـمعنى: جزيتهم هذا. ف«أنّ» فـي قراءة هؤلاء: فـي موضع نصب بوقوع قوله: «جزيتهم» علـيها، لأن معنى الكلام عندهم: إنـي جزيتهم الـيوم الفوز بـالـجنة. وقد يحتـمل النصب من وجه آخر، وهو أن يكون موجَّها معناه إلـى: إنـي جزيتهم الـيوم بـما صبروا، لأنهم هم الفـائزون بـما صبروا فـي الدنـيا علـى ما لَقُوا فـي ذات الله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «إنّـي» بكسر الألف منها، بـمعنى الابتداء، وقالوا: ذلك ابتداء من الله مدحهم.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ بكسر الألف، لأن قوله: «جزيتهم»، قد عمل فـي الهاء والـميـم، والـجزاء إنـما يعمل فـي منصوبـين، وإذا عمل فـي الهاء والـميـم لـم يكن له العمل فـي «أن» فـيصير عاملاً فـي ثلاثة إلا أن يُنْوَى به التكرير، فـيكون نصب «أَنَّ» حينئذٍ بفعل مضمر لا بقوله: «جزيتهم»، وإن هي نصبت بإضمار لام لـم يكن له أيضا كبـير معنى لأن جزاء الله عبـاده الـمؤمنـين بـالـجنة، إنـما هو علـى ما سَلَف من صالـح أعمالهم فـي الدنـيا وجزاؤه إياهم وذلك فـي الآخرة هو الفوز، فلا معنى لأن يَشْرُط لهم الفوز بـالأعمال ثم يخبر أنهم إنـما فـازوا لأنهم هم الفـائزون.

فتأويـل الكلام إذ كان الصواب من القراءة ما ذكرنا: إنـي جزيتهم الـيوم الـجنة بـما صبروا فـي الدنـيا علـى أذاكم بها، فـي أنهم الـيوم هم الفـائزون بـالنعيـم الدائم والكرامة البـاقـية أبدا، بـما عملوا من صالـحات الأعمال فـي الدنـيا ولقوا فـي طلب رضاي من الـمكاره فـيها.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 05:00
اختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { كَمْ لَبِثْتُـمْ فِـي الأرْضِ عَدَدَ سِنِـينَ } ، وفـي قوله: { لَبِثْنا يَوماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة علـى وجه الـخبر: { قالَ كَمْ لَبِثْتُـمْ } ، وكذلك قوله:
{ قالَ إنْ لَبِثْتُـمْ }
ووجَّه هؤلاء تأويـل الكلام إلـى أن الله قال لهؤلاء الأشقـياء من أهل النار وهم فـي النار: { كَمْ لَبِثْتُـمْ فِـي الأرْضِ عَدَدَ سِنِـينَ } وأنهم أجابوا الله فقالوا: { لَبِثْنا يَوْماً أوْ بَعْضَ يَوْمٍ } ، فنسي الأشقـياء، لعظيـم ما هم فـيه من البلاء والعذاب، مدة مكثهم التـي كانت فـي الدنـيا، وقَصُر عندهم أمد مكثهم الذي كان فـيها، لـما حلّ بهم من نقمة الله، حتـى حسبوا أنهم لـم يكونوا مكثوا فـيها إلا يوماً أو بعض يوم، ولعلّ بعضهم كان قد مكث فـيها الزمان الطويـل والسنـين الكثـيرة.

وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة علـى وجه الأمر لهم بـالقول، كأنه قال لهم قولوا كم لبثتـم فـي الأرض؟ وأخرج الكلام مُخْرج الأمر للواحد والـمعنـيّ به الـجماعة، إذ كان مفهوما معناه. وإنـما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة لأن ذلك فـي مصاحفهم: «قُلْ» بغير ألف، وفـي غر مصاحفهم بـالألف.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ ذلك: { قالَ كَمْ لَبِثْتُـمْ } علـى وجه الـخبر، لأن وجه الكلام لو كان ذلك أمرا، أن يكون «قُولوا» علـى وجه الـخطاب للـجمع لأن الـخطاب فـيـما قبل ذلك وبعده جرى لـجماعة أهل النار، فـالذي هو أولـى أن يكون كذلك قوله: «قولوا» لو كان الكلام جاء علـى وجه الأمر، وإن كان الآخر جائزاً، أعنـي التوحيد، لـما بـيَّنت من العلة لقارىء ذلك كذلك، وجاء الكلام بـالتوحيد فـي قراءة جميع القرّاء، كان معلوماً أن قراءة ذلك علـى وجه الـخبر عن الواحد أشبه، إذْ كان ذلك هو الفصيح الـمعروف من كلام العرب. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: قال الله كم لبثتـم فـي الدنـيا من عدد سنـين؟ قالوا مـجيبـين له: لبثنا فـيها يوماً أو بعض يوم فـاسأل العادّين، لأنا لا ندري، قد نسينا ذلك..

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه: { فـاسأَلِ العادّينَ } وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنـين وغير ذلك. وجائز أن يكونوا الـملائكة، وجائز أن يكونوا بنـي آدم وغيرهم، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها فغير جائز توجيه معنى ذلك إلـى بعض العادّين دون بعض.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 05:12
سورة النور

قال: ثنا مـحمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، قال: يُحَدّ القاذف والشارب وعلـيهما ثـيابهما. وأما الزانـي فتـخـلع ثـيابه. وتلا هذه الآية: { وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رأفَةٌ فِـي دِينِ اللّهِ } فقلت لـحماد: أهذا فـي الـحكم؟ قال: فـي الـحكم والـجلد.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهريّ، قال: يجتهد فـي حدّ الزانـي والفرية، ويخفف فـي حدّ الشرب. وقال قَتادة: يخفف فـي الشراب، ويجتهد فـي الزانـي.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معنى ذلك: ولا تأخذكم بهما رأفة فـي إقامة حدّ الله علـيهما الذي افترض علـيكم إقامته علـيهما.

وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويـلـين بـالصواب، لدلالة قول الله بعده: «فـي دين الله»، يعنـي فـي طاعة الله التـي أمركم بها. ومعلوم أن دين الله الذي أمر به فـي الزانـيـين: إقامة الـحدّ علـيهما، علـى ما أمر من جلد كل واحد منهما مئة جلدة، مع أن الشدّة فـي الضرب لا حدّ لها يوقـف علـيه، وكلّ ضرب أوجع فهو شديد، ولـيس للذي يوجع فـي الشدّة حدّ لا زيادة فـيه فـيؤمر به وغير جائز وصفه جلّ ثناؤه بأنه أمر بـما لا سبـيـل للـمأموربه إلـى معرفته.

وإذا كان ذلك كذلك، فـالذي للـمأمورين إلـى معرفته السبـيـل هو عدد الـجَلد علـى ما أمر به، وذلك هو إقامة الـحد علـى ما قلنا. وللعرب فـي الرأفة لغتان: الرأفة بتسكين الهمزة، والرآفة بـمدّها، كالسأمة والسآمة، والكأْبة والكآبة. وكأنّ الرأفة الـمرّة الواحدة، والرآفة الـمصدر، كما قـيـل: ضَؤُل ضآلة مثل فَعُل فعالة، وقَبُح قبـاحة....

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: أقلّ ما ينبغي حضور ذلك من عدد الـمسلـمين: الواحد فصاعداً وذلك أن الله عمّ بقوله: { وَلْـيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ } والطائفة: قد تقع عند العرب علـى الواحد فصاعداً. فإذا كان ذلك كذلك، ولـم يكن الله تعالـى ذكره وضع دلالة علـى أن مراده من ذلك خاصّ من العدد، كان معلوماً أن حضور ما وقع علـيه أدنى اسم الطائفة ذلك الـمـحضر مخرج مقـيـم الـحدّ مـما أمره الله به بقوله: { وَلَـيَشْهَدْ عَذَابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ }. غير أنـي وإن كان الأمر علـى ما وصفت، أستـحبّ أن لا يقصر بعدد من يحضر ذلك الـموضع عن أربعة أنفس عدد من تقبل شهادته علـى الزنا لأن ذلك إذا كان كذلك فلا خلاف بـين الـجمع أنه قد أدّى الـمقـيـم الـحدّ ما علـيه فـي ذلك، وهم فـيـما دون ذلك مختلفون.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 05:44
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى، قال: ذكر عند سعيد بن الـمسيب: { الزّانِـي لا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِـيَةً أوْ مُشْرِكَةً } قال: فسمعته يقول: إنها قد نسختها التـي بعدها. ثم قرأها سعيد، قال: يقول الله: { الزَّانِـي لا يَنْكِحُ إلاَّ زَانِـيَةً أوْ مُشْرِكَةً } ثم يقول الله:
{ وأنْكِحُوا الأيامَى مِنْكُمْ }
فهنّ من أيامى الـمسلـمين.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: عُنـي بـالنكاح فـي هذا الـموضع الوطء، وأن الآية نزلت فـي البغايا الـمشركات ذوات الرايات وذلك لقـيام الـحجة علـى أن الزانـية من الـمسلـمات حرام علـى كلّ مشرك، وأن الزانـي من الـمسلـمين حرام علـيه كلّ مشركة من عَبَدة الأوثان. فمعلوم إذ كان ذلك كذلك أنه لـم يُعْنَ بـالآية أن الزانـي من الـمؤمنـين لا يعقد عقد نكاح علـى عفـيفة من الـمسلـمات ولا ينكح إلاَّ بزانـية أو مشركة. وإذ كان ذلك كذلك، فبـين أن معنى الآية: الزانـي لا يزنـي إلاَّ بزانـية لا تستـحلّ الزنا أو بـمشركة تستـحلّه.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 05:55
حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن الـحسن:
{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَداً }
قال: كان يقول: لا تقبل شهادة القاذف أبدا، إنـما توبته فـيـما بـينه وبـين الله. وكان شريح يقول: لا تُقبل شهادته.

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله:
{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَداً }
، ثم قال: فَمَنْ تابَ وأصْلَـحَ فشهادته فـي كتاب الله تقبل.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا: أن الاستثناء من الـمعنـيـين جميعاً، أعنـي من قوله:
{ وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَداً }
، ومن قوله:
{ وأُولَئِكَ هُمُ الفـاسِقُونَ }
وذلك أنه لا خلاف بـين الـجميع أن ذلك كذلك إذا لـم يحدّ فـي القذف حتـى تاب، إما بأن يرفع إلـى السلطان بعفو الـمقذوفة عنه، وإما بأن ماتت قبل الـمطالبة بحدّها ولـم يكن لها طالب يطلب بحدّها. فإذ كان ذلك كذلك وحدثت منه توبة صحت له بها العدالة.

فإذ كان من الـجميع إجماعا، ولـم يكن الله تعالـى ذكره شرط فـي كتابه أن لا تقبل شهادته أبدا بعد الـحدّ فـي رميه، بل نهى عن قبول شهادته فـي الـحال التـي أوجب علـيه فـيها الـحدّ وسماه فـيها فـاسقا، كان معلوما بذلك أنّ إقامة الـحدّ علـيه فـي رميه، لا تـحدث فـي شهادته مع التوبة من ذنبه، ما لـم يكن حادثا فـيها قبل إقامته علـيه، بل توبته بعد إقامة الـحدّ علـيه من ذنبه أحرى أن تكون شهادته معها أجوز منها قبل إقامته علـيه لأن الـحدّ يزيد الـمـحدود علـيه تطهيرا من جُرمه الذي استـحقّ علـيه الـحدّ.

فإن قال قائل: فهل يجوز أن يكون الاستثناء من قوله:
{ فـاجْلِدُوهُمْ ثَمانِـينَ جَلْدَةً }
فتكون التوبة مُسقطة عنه الـحدّ، كما كانت لشهادته عندك قبل الـحدّ وبعده مـجيزة ولاسم الفسق عنه مزيـلة؟ قـيـل: ذلك غير جائز عندنا وذلك أن الـحدّ حقّ عندنا للـمقذوفة كالقصاص الذي يجب لها من جناية يجنـيها علـيها مـما فـيه القصاص.
....

واختلف أهل العلـم فـي صفة توبة القاذف التـي تقبل معها شهادته، فقال بعضهم: هو إكذابه نفسه فـيه. وقد ذكرنا بعض قائلـي ذلك فـيـما مضى قبل، ونـحن نذكر بعض ما حضرنا ذكره مـما لـم نذكره قبل.

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن لـيث، عن طاوس، قال: توبة القاذف أن يكذّب نفسه.

حدثنـي يعقوب بن إبراهيـم، قال: ثنا هشيـم، قال: أخبرنا حصين، قال: رأيت رجلاً ضُرب حدًّا فـي قذف بـالـمدينة، فلـما فرغ من ضربه تناول ثوبه، ثم قال: أستغفر الله وأتوب إلـيه من قذف الـمـحصنات قال: فلقـيت أبـا الزناد، فذكرت ذلك له، قال: فقال: إن الأمر عندنا هاهنا أنه إذا قال ذلك حين يفرغ من ضربه ولـم نعلـم منه إلاَّ خيراً قُبلت شهادته.

حُدثت عن الـحسين، قال: سمعت أبـا معاذ يقول: أخبرنا عبـيد، قال: سمعت الضحاك يقول فـي قوله: { وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أبَدا وأُولَئِكَ هُمُ الفَـاسِقُونَ إلاَّ الَّذِينَ تابُوا... }. الآية، قال: من اعترف وأقرّ علـى نفسه علانـية أنه قال البهتان وتاب إلـى الله توبة نصوحا والنصوح: أن لايعودوا، وإقراره واعترافه عند الـحدّ حين يؤخذ بـالـجلد فقد تاب والله غفور رحيـم.

وقال آخرون: توبته من ذلك صلاح حاله وندمه علـى ما فرط منه من ذلك والاستغفـار منه وتركه العود فـي مثل ذلك من الـجُرم. وذلك قول جماعة من التابعين وغيرهم، وقد ذكرنا بعض قائلـيه فـيـما مضى، وهو قول مالك بن أنس.

وهذا القول أولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب لأن الله تعالـى ذكره جعل توبة كل ذي ذنب من أهل الإيـمان تركه العود منه، والندم علـى ما سلف منه، واستغفـار ربه منه، فـيـما كان من ذنب بـين العبد وبـينه دون ما كان من حقوق عبـاده ومظالـمهم بـينهم. والقاذف إذا أُقـيـم علـيه فـيه الـحدّ أو عُفـي عنه فلـم يبق علـيه إلاَّ توبته من جرمه بـينه وبـين ربه، فسبـيـل توبته منه سبـيـل توبته من سائر أجرامه. فإذا كان الصحيح فـي ذلك من القول ما وصفنا، فتأويـل الكلام: وأولئك هم الفـاسقون، إلاَّ الذين تابوا من جُرمهم الذي اجترموه بقذفهم الـمـحصنات من بعد اجترامهموه، { فإنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيـمٌ } يقول: ساتر علـى ذنوبهم بعفوه لهم عنها، رحيـم بهم بعد التوبة أن يعذّبهم علـيها، فـاقبلوا شهادتهم ولا تسموهم فَسَقة، بل سموهم بأسمائهم التـي هي لهم فـي حال توبتهم.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 06:14
وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: الذي تولـى كِبْره من عصبة الإفك، كان عبد الله بن أبـيّ، وذلك أنه لا خلاف بـين أهل العلـم بـالسير، أن الذي بدأ بذكر الإفك، وكان يجمع أهله ويحدثهم، عبدُ الله بن أُبـيّ ابن سَلُول، وفعله ذلك علـى ما وصفت كان تولـيه كِبْر ذلك الأمر....

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 06:43
ويعنـي بقوله: { تَلَقَّوْنَهُ } تتلقون الإفك الذي جاءت به العصبة من أهل الإفك، فتقبلونه، ويرويه بعضكم عن بعض يقال: تلقـيَّت هذا الكلام عن فلان، بـمعنى أخذته منه وقـيـل ذلك لأن الرجل منهم فـيـما ذُكر يَـلْقـى آخر فـيقول: أَوَ مَا بلغك كذا وكذا عن عائشة؟ لـيُشِيع علـيها بذلك الفـاحشة. وذكر أنها فـي قراءة أُبـيّ: «إذْ تَتَلقَّوْنَهُ» بتاءين، وعلـيها قَرَأَهُ الأمصار، غير أنهم قرءوها: { تَلَقَّوْنَهُ } بتاء واحدة، لأنها كذلك فـي مصاحفهم. وقد رُوِي عن عائشة فـي ذلك، ما:

حدثنـي به مـحمد بن عبد الله بن عبد الـحكَم، قال: ثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة زوج النبـيّ صلى الله عليه وسلم، أنها كانت تقرأ هذه الآية: «إذْ تَلِقُوْنَهُ بألْسِنَتِكُمْ» تقول: إنـما هو وَلْق الكذب، وتقول: إنـما كانوا يَـلِقُون الكذب. قال ابن أبـي ملـيكة: وهي أعلـم بـما فـيها أنزلت.

قال نافع: وسمعت بعض العرب يقول: اللَّـيْق: الكذب.

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا يحيى بن واضح، قال: ثنا نافع بن عمر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر الـجَمَـحِيّ، عن ابن أبـي ملـيكة، عن عائشة، أنها كانت تقرأ: «إذْ تَلِقُونَهُ بألْسِنَتُكُمْ» وهي أعلـم بذلك وفـيها أنزلت، قال ابن أبـي ملـيكة: هو من وَلْق الكذب.

قال أبو جعفر: وكأن عائشة وَجَّهت معنى ذلك بقراءتها «تلِقُونَهُ» بكسر اللام وتـخفـيف القاف، إلـى: إذ تستـمرّون فـي كذبكم علـيها وإفككها بألسنتكم، كما يقال: وَلَق فلان فـي السير فهو يَـلِق: إذا استـمرّ فـيه وكما قال الراجز:
إنَّ الـجُلَـيْدَ زَلِقٌ وَزُمَلِقْ جاءتْ بِهِ عَنْسٌ مِنَ الشَّأَمِ تَلِقْمُ
جَوَّعُ البَطْنِ كِلابِـيُّ الـخُـلُقْ
وقد رُوي عن العرب فـي الوَلْق: الكذب: الأَلْق، والإِلق: بفتـح الألف وكسرها، ويقال فـي فعلت منه: أَلِقْتُ، فأنا أَلِقُ وقال بعضهم:
مَنْ لِـيَ بـالـمُزَرَّرِ الـيَلامِقِ صاحِبِ أدْهانٍ وألْقٍ آلِقِ
والقراءة التـي لا أستـجيز غيرها: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ } علـى ما ذكرت من قراءة الأمصار، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيها.

وبنـحو الذي قلنا من التأويـل فـي ذلك قال أهل التأويـل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ بألْسِنَتِكُمْ } قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعا، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { إذْ تَلَقَّوْنَهُ } قال: تَرْوُونه بعضُكم عن بعض.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 07:03
يقول تعالـى ذكره: ولا يحلف بـالله ذوو الفضل منكم، يعنـي ذوي التفضل والسَّعة يقول: وذوو الـجِدَة.

واختلف القرّاء فـي قراءة قوله: { وَلا يأْتَلِ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { وَلا يَأْتَلِ } بـمعنى: يفتعل من الأَلِـيَّة، وهي القسم بـالله سوى أبـي جعفر وزيد بن أسلـم، فإنه ذُكِر عنهما أنهما قرآ ذلك: «وَلا يَتأَلَّ» بـمعنى: يتفعَّل، من الأَلِـية.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندي قراءة من قرأ: { ولا يأَتَل } بـمعنى يفتعل من الأَلِـية وذلك أن ذلك فـي خطّ الـمصحف كذلك، والقراءة الأخرى مخالفة خطّ الـمصحف، فـاتبـاع الـمصحف مع قراءة جماعة القرّاء وصحّة الـمقروء به أولـى من خلاف ذلك كله. وإنـما عُنِـي بذلك أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه فـي حلفه بـالله لا ينفق علـى مِسْطَح،

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 07:08
وأولـى هذه الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية فـي شأن عائشة، والـحكم بها عامّ فـي كلّ من كان بـالصفة التـي وصفه الله بها فـيها.

وإنـما قلنا ذلك أولـى تأويلاته بـالصواب، لأن الله عمّ بقوله: { إنَّ الَّذِينَ يَرمُونَ الـمُـحْصَناتِ الغافِلاتِ الـمُؤْمِناتِ } كلّ مـحصنة غافلة مؤمنة رماها رام بـالفـاحشة، من غير أن يحضّ بذلك بعضاً دون بعض، فكلّ رام مـحصنة بـالصفة التـي ذكر الله جلّ ثناؤه فـي هذه الآية فملعون فـي الدنـيا والآخرة وله عذاب عظيـم، إلا أن يتوب من ذنبه ذلك قبل وفـاته، فإن الله دلّ بـاستثنائه بقوله:
{ إلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلكَ وأصْلَـحُوا }
علـى أن ذلك حكم رامي كل مـحصنة بأيّ صفة كانت الـمـحصنة الـمؤمنة الـمرمية، وعلـى أن قوله: { لُعِنُوا فـي الدُّنـيْا والآخِرَةِ، وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيـمٌ } معناه: لهم ذلك إن هلكوا ولـم يتوبوا.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 07:19
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { الـحَقَّ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار: { دِينَهُمُ الـحَقَّ } نصبـاً علـى النعت للدين، كأنه قال: يوفـيهم الله أعمالهم حقًّا. ثم أدخـل فـي الـحقّ الألف واللام، فنصب بـما نصب به الدين. وذُكر عن مـجاهد أنه قرأ ذلك: «يُوَفِّـيهِمُ اللّهُ دِينَهُمُ الـحَقُّ» برفع «الـحقّ» علـى أنه من نعت الله.

حدثنا بذلك أحمد بن يوسف، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا يزيد، عن جرير بن حازم، عن حميد، عن مـجاهد، أنه قرأها «الـحقُّ» بـالرفع. قال جرير: وقرأتها فـي مصحف أُبـيّ بن كعب { يُوَفِّـيهِمُ اللّهُ الـحَقُّ دِينَهُمْ }.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار، وهو نصب «الـحقّ» علـى إتبـاعه إعراب «الدين» لإجماع الـحجة علـيه.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 07:21
وأولـى هذه الأقوال فـي تأويـل الآية قول من قال: عَنَى بـالـخبـيثات: الـخبـيثات من القول وذلك قبـيحه وسيئه للـخبـيثـين من الرجال والنساء، والـخبـيثون من الناس للـخبـيثات من القول هم بها أولـى، لأنهم أهلها. والطيبـات من القول وذلك حسنه وجميـله للطيبـين من الناس، والطيبون من الناس للطيبـات من القول لأنهم أهلها وأحقّ بها.

وإنـما قلنا هذا القول أولـى بتأويـل الآية، لأن الآيات قبل ذلك إنـما جاءت بتوبـيخ الله للقائلـين فـي عائشة الإفك، والرامين الـمـحصنات الغافلات الـمؤمنات، وإخبـارهم ما خَصَّهم به علـى إفكهم، فكان ختـم الـخبر عن أولـى الفريقـين بـالإفك من الرامي والـمرمي به أشبه من الـخبر عن غيرهم.

اسامة محمد خيري
23-02-2017, 07:25
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن الاستئناس: الاستفعال من الأنس، وهو أن يستأذن أهل البـيت فـي الدخول علـيهم، مخبراً بذلك من فـيه، وهل فـيه أحد؟ ولـيؤذنهم أنه داخـل علـيهم، فلـيأنس إلـى إذنهم له فـي ذلك، ويأنسوا إلـى استئذانه إياهم. وقد حُكِي عن العرب سماعاً: اذهب فـاستأنس، هل ترى أحداً فـي الدار؟ بـمعنى: انظر هل ترى فـيها أحداً؟

فتأويـل الكلام إذن، إذا كان ذلك معناه: يا أيها الذين آمنوا لا تدخـلوا بـيوتاً غير بـيوتكم حتـى تسلـموا وتستأذنوا، وذلك أن يقول أحدكم: السلام علـيكم، أدخـل؟ وهو من الـمقدم الذي معناه التأخير، إنـما هو: حتـى تسلـموا وتستأذنوا، كما ذكرنا من الرواية عن ابن عبـاس.

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 04:51
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله عمّ بقوله: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُـلوا بُـيُوتاً غيرَ مَسْكُونَةِ فِـيها مَتاعٌ لَكُمْ } كلَّ بـيت لا ساكن به لنا فـيه متاع ندخـله بغير إذن لأن الإذن إنـما يكون لـيؤْنَس الـمأذون علـيه قبل الدخول، أو لـيأذن للداخـل إن كان له مالكاً أو كان فـيه ساكناً. فأما إن كان لا مالك له، فـيحتاج إلـى إذنه لدخوله ولا ساكن فـيه، فـيحتاج الداخـل إلـى إيناسه والتسلـيـم علـيه، لئلا يهجُم علـى ما لا يحبّ رؤيته منه، فلا معنى للاستئذان فـيه. فإذا كان ذلك، فلا وجه لتـخصيص بعض ذلك دون بعض، فكلّ بـيت لا مالك له ولا ساكن من بـيت مبنـيّ ببعض الطرق للـمارّة والسابلة لـيأووا إلـيه، أو بـيت خراب قد بـاد أهله ولا ساكن فـيه، حيث كان ذلك، فإن لـمن أراد دخوله أن يدخـل بغير استئذان، لـمتاع له يؤويه إلـيه أو للاستـمتاع به لقضاء حقه من بول أو غائط أو غير ذلك. وأما بـيوت التـجار، فإنه لـيس لأحد دخولها إلا بإذن أربـابها وسكانها.

فإن ظنّ ظانّ أن التاجر إذا فتـح دكانه وقعد للناس فقد أذِن لـمن أراد الدخول علـيه فـي دخوله، فإن الأمر فـي ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أنه لـيس لأحد دخول ملك غيره بغير ضرورة ألـجأته إلـيه أو بغير سبب أبـاح له دخوله إلا بإذن ربه، لا سيـما إذا كان فـيه متاع فإن كان التاجر قد عُرِف منه أن فتـحه حانوته إذن منه لـمن أراد دخوله فـي الدخول، فذلك بعدُ راجع إلـى ما قلنا من أنه لـم يدخـله من دخـله إلا بإذنه. وإذا كان ذلك كذلك، لـم يكن من معنى قوله: { لَـيْسَ عَلَـيْكُمْ جُناحٌ أنْ تَدْخُـلُوا بُـيُوتاً غيرَ مَسْكُونَةٍ فِـيها مَتاعٌ لَكُمْ } فـي شيء، وذلك أن التـي وضع الله عنا الـجُناح فـي دخولها بغير إذن من البـيوت، هي ما لـم يكن مسكوناً، إذ حانوت التاجر لا سبـيـل إلـى دخوله إلا بإذنه وهو مع ذلك مسكون، فتبـين أنه مـما عَنَى الله من هذه الآية بـمعزل.

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 04:57
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، وعبد الأعلـى، عن سعيد، عن قَتادة، عن الـحسن، فـي قوله: { وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها } قال: الوجه والثـياب.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب: قول من قال: عُنِـي بذلك الوجهُ والكفـان، يدخـل فـي ذلك إذا كان كذلك: الكحل، والـخاتـم، والسِّوار، والـخِضاب.

وإنـما قلنا ذلك أولـى الأقوال فـي ذلك بـالتأويـل، لإجماع الـجميع علـى أن علـى كلّ مصلّ أن يستر عورته فـي صلاته، وأن للـمرأة أن تكشف وجهها وكفـيها فـي صلاتها، وأن علـيها أن تستر ما عدا ذلك من بدنها إلا ما رُوي عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه أبـاح لها أن تبديَه من ذراعها إلـى قدر النصف. فإذ كان ذلك من جميعهم إجماعاً، كان معلوماً بذلك أن لها أن تبدي من بدنها ما لـم يكن عورة كما ذلك للرجال لأن ما لـم يكن عورة فغير حرام إظهاره. وإذا كان لها إظهار ذلك، كان معلوماً أنه مـما استثناه الله تعالـى ذكره بقوله: { إلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها } ، لأن كل ذلك ظاهر منها....

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:04
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: واجب علـى سيد العبد أن يكاتبه إذا علـم فـيه خيرا وسأله العبد الكتابة وذلك أن ظاهر قوله: { فَكاتِبُوهُمْ } ظاهر أمر، وأمر الله فرضٌ الانتهاء إلـيه، ما لـم يكن دلـيـلٌ من كتاب أو سنة علـى أنه ندب، لـما قد بـيَّنا من العلة فـي كتابنا الـمسمى «البـيان عن أصول الأحكام»....

حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنـي مـحمد بن عمرو الـيافعيّ، عن ابن جُرَيج، أن عطاء بن أبـي رَبـاح، كان يقول: ما نراه إلاَّ الـمال، يعنـي قوله: { إنْ عَلِـمْتُـمْ فِـيهِمْ خَيْراً } قال: ثم تلا:
{ كُتِبَ عَلَـيْكُمْ إذَا حَضَرَ أحَدَكُمُ الـمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْراً }


وأولـى هذه الأقوال فـي معنى ذلك عندي قول من قال: معناه: فكاتبوهم إن علـمتـم فـيهم قوّة علـى الاحتراف والاكتساب ووفـاء بـما أوجب علـى نفسه وألزمها وصدق لهجة. وذلك أن هذه الـمعانـي هي الأسبـاب التـي بـمولـى العبد الـحاجةُ إلـيها إذا كاتب عبده مـما يكون فـي العبد فأما الـمال وإن كان من الـخير، فإنه لا يكون فـي العبد وإنـما يكون عنده أو له لا فـيه، والله إنـما أوجب علـينا مكاتبة العبد إذا علـمنا فـيه خيراً لا إذا علـمنا عنده أو له، فلذلك لـم نقل: إن الـخير فـي هذا الـموضع معنـيّ به الـمال.....

وأولـى القولـين بـالصواب فـي ذلك عندي القول الثانـي، وهو قول من قال: عَنَى به إيتاءَهم سهمهم من الصدقة الـمفروضة.

وإنـما قلنا ذلك أولـى القولـين لأن قوله: { وآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللّهِ الَّذِي آتاكُمْ } أمر من الله تعالـى ذكره بإيتاء الـمكاتَبِـين من ماله الذي آتـى أهل الأموال، وأمر الله فرض علـى عبـاده الانتهاءُ إلـيه، ما لـم يخبرهم أن مراده الندْب، لـما قد بـيَّنا فـي غير موضع من كتابنا. فإذ كان ذلك كذلك، ولـم يكن أخبرنا فـي كتابه ولا علـى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم أنه نَدْب، ففرض واجب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الـحجة قد قامت أن لا حقَّ لأحد فـي مال أحد غيره من الـمسلـمين إلاَّ ما أوجبه الله لأهل سُهمان الصدقة فـي أموال الأغنـياء منهم، وكانت الكتابة التـي يقتضيها سيد الـمكاتَب من مكاتَبِه مالاً من مال سيد الـمكاتَب فـيفـاد أن الـحقّ الذي أوجب الله له علـى الـمؤمنـين أن يؤتوه من أموالهم هو ما فُرِض علـى الأغنـياء فـي أموالهم له من الصدقة الـمفروضة، إذ كان لا حقّ فـي أموالهم لأحد سواها....

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:10
واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة وبعض الكوفـيـين والبصريـين: «مُبَـيَّناتٍ» بفتـح الـياء: بـمعنى مفصَّلات، وأن الله فصَّلَهن وبـيَّنَهنّ لعبـاده، فهنّ مفصَّلات مبـيَّنات. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: { مُبَـيِّناتٍ } بكسر الـياء، بـمعنى أن الآيات هن تبـين الـحقّ والصواب للناس وتهديهم إلـى الـحقّ.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أنهما قراءتان معروفتان، وقد قرأ بكل واحدة منهما علـماء من القرّاء، متقاربتا الـمعنى. وذلك أن الله إذ فصّلها وبـيَّنها صارت مبـيِّنة بنفسها الـحقّ لـمن التـمسه من قِبَلها، وإذا بـيَّنت ذلك لـمن التـمسه من قَبِلها فـيبـين الله ذلك فـيها. فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب فـي قراءته الصواب.

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:20
يعنـي تعالـى ذكره بقوله: { اللّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ } هادي من فـي السموات والأرض، فهم بنوره إلـى الـحقّ يهتدون وبهداه من حيرة الضلالة يعتصمون.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم فـيه نـحو الذي قلنا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا عبد الله، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { اللّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ } يقول: الله سبحانه هادي أهل السموات والأرض.

حدثنـي سلـيـمان بن عمر بن خَـلْدة الرَّقـي، قال: ثنا وهب بن راشد، عن فرقد، عن أنس بن مالك، قال: إن إلهي يقول: نوري هُداي.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: الله مدبِّر السموات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال مـجاهد وابن عبـاس فـي قوله: { اللّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ } يدبِّر الأمر فـيهما: نـجومَهما وشمسَهما وقمرَهما.

وقال آخرون: بل عنى بذلك النور الضياء. وقالوا: معنى ذلك: ضياء السموات والأرض.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي عبد الأعلـى بن واصل، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: ثنا أبو جعفر الرازيّ، عن الربـيع ابن أَنَس، عن أبـي العالـية، عن أُبـيّ بن كعب، فـي قول الله: { اللّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرْضِ } قال: فبدأ بنور نفسه، فذكره، ثم ذكر نور الـمؤمن.

وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك لأنه عَقِـيب قوله:
{ وَلَقَدْ أنْزَلْنا إلَـيْكُمْ آياتٍ مُبَـيِّناتٍ، وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْـمُتَّقِـينَ }
فكان ذلك بأن يكون خبراً عن موقع يقع تنزيـله من خـلقه ومن مدح ما ابتدأ بذكر مدحه، أولـى وأشبه، ما لـم يأت ما يدلّ علـى انقضاء الـخبر عنه من غيره. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: ولقد أنزلنا إلـيكم أَيُّها الناس آيات مبـينات الـحق من البـاطل
{ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَـلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً للْـمُتَّقِـينَ }
فهديناكم بها، وبـيَّنا لكم معالـم دينكم بها، لأنـي هادي أهل السموات وأهل الأرض. وترك وصل الكلام بـاللام، وابتدأ الـخبر عن هداية خـلقه ابتداء، وفـيه الـمعنى الذي ذكَرْتُ، استغناء بدلالة الكلام علـيه من ذكره. ثم ابتدأ فـي الـخبر عن مثل هدايته خـلقه بـالآيات الـمبـينات التـي أنزلها إلـيهم، فقال: { مَثَلُ نُورِهِ كمِشْكاةٍ فِـيها مِصْبـاحٌ } يقول: مثل ما أنار من الـحقّ بهذا التنزيـل فـي بـيانه كمشكاة.
...

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: ذلك مثل ضربه الله للقرآن فـي قلب أهل الإيـمان به، فقال: مَثَلُ نور الله الذي أنار به لعبـاده سبـيـل الرشاد، الذي أنزله إلـيهم فآمنوا به وصدّقوا بـما فـيه، فـي قلوب الـمؤمنـين، مثل مِشكاة، وهي عمود القنديـل الذي فـيه الفتـيـلة وذلك هو نظير الكَوّة التـي تكون فـي الـحيطان التـي لا منفذ لها.

وإنـما جعل ذلك العمود مِشكاة، لأنه غير نافذ، وهو أجوف مفتوح الأعلـى، فهو كالكَوّة التـي فـي الـحائط التـي لا تنفذ. ثم قال: { فِـيها مِصْبـاحٌ } وهو السراج، وجعل السراج وهو الـمصبـاح مثلاً لـما فـي قلب الـمؤمن من القرآن والآيات الـمبـينات. ثم قال: { الـمِصْبـاحُ فِـي زُجاجَةٍ } يعنـي أن السراج الذي فـي الـمِشكاة فـي القنديـل، وهو الزجاجة، وذلك مثل للقرآن، يقول: القرآن الذي فـي قلب الـمؤمن الذي أنار الله قلبه فـي صدره. ثم مثل الصدر فـي خـلوصه من الكفر بـالله والشكّ فـيه واستنارته بنور القرآن واستضاءته بآيات ربه الـمبـينات ومواعظه فـيها، بـالكوكب الدرّيّ، فقال: { الزُّجَاجَةُ } وذلك صدر الـمؤمن الذي فـيه قلبه { كأنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيّ }....

والذي هو أولـى القراءات عندي فـي ذلك بـالصواب قراءة من قرأ: { دُرّىّ } بضمّ داله وترك همزه، علـى النسبة إلـى الدرّ، لأن أهل التأويـل بتأويـل ذلك جاءوا. وقد ذكرنا أقوالهم فـي ذلك قبل، ففـي ذلك مُكْتفًـى عن الاستشهاد علـى صحتها بغيره. فتأويـل الكلام: الزجاجة: وهي صدر الـمؤمن، { كأنها }: يعنـي كأن الزجاجة، وذلك مثل لصدر الـمؤمن، { كَوْكَب }: يقول: فـي صفـائها وضيائها وحسنها. وإنـما يصف صدره بـالنقاء من كلّ ريب وشكّ فـي أسبـاب الإيـمان بـالله وبعده من دنس الـمعاصي، كالكوكب الذي يُشبه الدرّ فـي الصفـاء والضياء والـحسن...

وقرأه بعض عامة قرّاء الـمدنـيـين: { يُوقَدُ } بـالـياء، وتـخفـيف القاف، ورفع الدال بـمعنى: يُوقِدُ الـمصبـاح مُوْقِدُه من شجرة، ثم لـم يُسَمّ فـاعله. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة: «تُوقَدُ» بضم التاء وتـخفـيف القاف ورفع الدال، بـمعنى: يُوقِدُ الزجاجةُ مُوقِدُها من شجرة مبـاركة لـما لـم يسمّ فـاعله، فقـيـل تُوقَد. وقرأه بعض أهل مكة: «تَوَقَّدُ» بفتـح التاء، وتشديد القاف، وضم الدال بـمعنى: تَتَوَقَّد الزجاجة من شجرة، ثم أسقطت إحدى التاءين اكتفـاء بـالبـاقـية من الذاهبة.

وهذه القراءات متقاربـات الـمعانـي وإن اختلفت الألفـاظ بها وذلك أن الزجاجة إذا وُصِفت بـالتوقد أو بأنها تَوَقَّد، فمعلوم معنى ذلك، فإن الـمراد به تَوَقَّدَ فـيها الـمصبـاح أو يُوقَد فـيها الـمصبـاح، ولكن وجَّهوا الـخبر إلـى أن وصفها بذلك أقرب فـي الكلام منها وفهم السامعين معناه والـمراد منه. فإذا كان ذلك كذلك فبأيّ القراءات قرأ القارئ فمصيب، غير أن أعجب القراءات إلـيّ أن أقرأ بها فـي ذلك: «تَوَقَّدَ» بفتـح التاء، وتشديد القاف، وفتـح الدال، بـمعنى: وصف الـمصبـاح بـالتوقد لأن التوقد والاتقاد لا شكّ أنهما من صفته، دون الزجاجة. فمعنى الكلام إذن: كمشكاة فـيها مصبـاح، الـمصبـاح من دهن شجرة مبـاركة، زيتونة، لا شرقـية ولا غربـية....

وأولـى هذه الأقوال بتأويـل ذلك قول من قال: إنها شرقـية غربـية وقال: ومعنى الكلام: لـيست شرقـية تطلع علـيها الشمس بـالعشيّ دون الغداة، ولكن الشمس تشرق علـيها وتغرب، فهي شرقـية غربـية.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـمعنى الكلام، لأن الله إنـما وصف الزيت الذي يُوقَد علـى هذا الـمصبـاح بـالصفـاء والـجودة، فإذا كان شجره شرقـيًّا غربـيًّا كان زيته لا شكّ أجود وأصفـى وأضوأ....

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:26
وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك، لدلالة قوله: { يُسَبِّحُ لَهُ فِـيها بـالغُدُوّ والآصَالِ رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِـجارَةٌ وَلا بَـيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللّهِ } علـى أنها بـيوت بنـيت للصلاة فلذلك قلنا هي الـمساجد....

وأولى القولين فـي ذلك عندي بـالصواب القول الذي قاله مـجاهد، وهو أن معناه: أذن الله أن ترفع بناء، كما قال جلّ ثناؤهِ:
{ وَإذْ يَرْفَعُ إبْرَاهِيـمُ القَوَاعِدَ مِنَ البَـيْتِ }
وذلك أن ذلك هو الأغلب من معنى الرفع فـي البـيوت والأبنـية....

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:33
فإن قال لنا قائل: وكيف قـيـل: لـم يكد يراها، مع شدّة هذه الظلـمة التـي وصف، وقد علـمت أن قول القائل: لـم أكد أرى فلانا، إنـما هو إثبـات منه لنفسه رؤيته بعد جهد وشدّة، ومن دون الظلـمات التـي وصف فـي هذه الآية ما لا يرى الناظر يده إذا أخرجها فـيه، فكيف فـيها؟ قـيـل: فـي ذلك أقوال نذكرها، ثم نـخبر بـالصواب من ذلك. أحدها: أن يكون معنى الكلام: إذا أخرج يده رائياً لها لـم يكد يراها أي لـم يعرف من أين يراها فيكون من المقدم الذي معناه التأخير ويكون تأويل الكلام على ذلك إذ خرج يده لم يقرب إن يراها. والثانـي: أن يكون معناه: إذا أخرج يده لـم يرها، ويكون قوله: { لَـمْ يَكَدْ } فـي دخوله فـي الكلام، نظير دخول الظنّ فـيـما هو يقـين من الكلام، كقوله:
{ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَـحِيصٍ }
ونـحو ذلك. والثالث: أن يكون قد رآها بعد بطء وجهد، كما يقول القائل لآخر: ما كدت أراك من الظلـمة، وقد رآه، ولكن بعد إياس وشدة. وهذا القول الثالث أظهر معانـي الكلـمة من جهة ما تستعمل العرب «أكاد» فـي كلامها. والقول الآخر الذي قلنا إنه يتوجه إلـى أنه بـمعنى لـم يرها، قول أوضح من جهة التفسير، وهو أخفـى معانـيه. وإنـما حسُنَ ذلك فـي هذا الـموضع، أعني أن يقول: لـم يكد يراها مع شدة الظلمة التي ذكر لأن ذلك مَثَل لا خبر عن كائن كان. { وَمَنْ لَـمْ يَجْعَلِ اللّهُ لَهُ نُوراً } يقول: من من لـم يرزقه الله إيـماناً وهدى من الضلالة ومعرفة بكتابه، { فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ } يقول: فما له من إيـمان وهدى ومعرفة بكتابه.

اسامة محمد خيري
24-02-2017, 05:37
ويتوجه قوله: { كُلٌّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ } لوجوه: أحدها: أن تكون الهاء التـي فـي قوله: { صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ } من ذكر «كلّ»، فـيكون تأويـل الكلام: كل مصلّ ومسبح منهم قد علـم الله صلاته وتسبـيحه، ويكون «الكلّ» حينئذٍ مرتفعاً بـالعائد من ذكره فـي قوله: { كُلٌّ قَدْ عَلِـمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِـيحَهُ } ، وهو الهاء التـي فـي الصلاة.

والوجه الآخر: أن تكون الهاء فـي الصلاة والتسبـيح أيضاً ل«الكلّ»، ويكون «الكلّ» مرتفعاً بـالعائد من ذكره علـيه فـي: { عَلِـمَ } ، ويكون: { عَلِـمَ } فعلاً ل«الكلّ»، فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: قد علـم كلّ مصلّ ومسبح منهم صلاة نفسه وتسبـيحه الذي كُلِّفه وأُلْزمه.

والوجه الآخر: أن تكون الهاء فـي الصلاة والتسبـيح من ذكر الله، والعلـم ل«الكل»، فـيكون تأويـل الكلام حينئذٍ: قد علـم كلّ مسبِّح ومُصَلّ صلاة الله التـي كلّفه إياها، وتسبـيحه. وأظهر هذه الـمعانـي الثلاثة علـى هذا الكلام الـمعنى الأوّل، وهو أن يكون الـمعنى: كلّ مصلّ منهم ومسبِّح، قد علـم الله صلاته وتسبـيحه.

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 04:50
واختلفوا أيضا فـي قراءة قوله: { وَلَـيُبَدِّلَنَّهُمْ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار سوى عاصم: { وَلَـيُبْدّلنَّهُمْ } بتشديد الدال، بـمعنى: ولـيغِّيرَنّ حالهم عما هي علـيه من الـخوف إلـى الأمن، والعرب تقول: قد بُدِّل فلان: إذا غيرت حاله ولـم يأت مكان فلان غيره، وكذلك كلّ مغير عن حاله فهو عندهم مبدَّل بـالتشديد. وربـما قـيـل بـالتـخفـيف، ولـيس بـالفصيح. فأما إذا جعل مكان الشيء الـمبدل غيره، فذلك بـالتـخفـيف: أَبْدلته فهو مُبْدَل. وذلك كقولهم: أُبدل هذا الثوب: أي جُعِل مكانه آخر غيره، وقد يقال بـالتشديد غير أن الفصيح من الكلام ما وصفت. وكان عاصم يقرؤه: «وَلَـيُبْدِلَنَّهُمْ» بتـخفـيف الدال.

والصواب من القراءة فـي ذلك: التشديد، علـى الـمعنى الذي وصفت قبلُ، لإجماع الـحجة من قرّاء الأمصار علـيه، وأن ذاك تغيـير حال الـخوف إلـى الأمن. وأرى عاصماً ذهب إلـى أن الأمن لـما كان خلاف الـخوف وجَّه الـمعنى إلـى أنه ذهب بحال الـخوف وجاء بحال الأمن، فخفَّف ذلك.

ومن الدلـيـل علـى ما قلنا من أن التـخفـيف إنـما هو ما كان فـي إبدال شيء مكان آخر، قول أبـي النـجم:
عَزْلُ الأمِيرِ للأَمَيرِ الـمُبْدَلِ..

واختلف أهل التأويـل فـي معنى الكفر الذي ذكره الله فـي قوله: { فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلكَ } فقال أبو العالـية ما ذكرنا عنه من أنه كفر بـالنعمة لا كفر بـالله. ورُوى عن حُذيفة فـي ذلك ما:

حدثنا به ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، عن حبـيب بن أبـي الشعثاء، قال: كنت جالساً مع حُذيفة وعبد الله بن مسعود، فقال حُذيفة: ذهب النفـاق، وإنـما كان النفـاق علـى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنـما هو الكفر بعد الإيـمان قال: فضحك عبد الله، فقال: لـم تقول ذلك؟ قال: علـمت ذلك، قال: { وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِـحاتِ لَـيَسْتَـخْـلِفَنَّهُمْ فِـي الأرْضِ }... حتـى بلغ آخرها.

حدثنا ابن الـمثنى، قال: ثنا ابن أبـي عديّ، قال: ثنا شعبة، عن أبـي الشَّعْثاء، قال: قعدت إلـى ابن مسعود وحُذيفة، فقال حذيفة: ذهب النِّفـاق فلا نفـاق، وإنـما هو الكفر بعد الإيـمان فقال عبد الله: تعلـم ما تقول؟ قال: فتلا هذه الآية: { إنَّـمَا كانَ قَوْلَ الـمُؤْمِنِـينَ }... حتـى بلغ: { فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسقُونَ } قال: فضحك عبد الله. قال: فلقـيت أبـا الشعثاء بعد ذلك بأيام، فقلت: من أيّ شيء ضحك عبد الله؟ قال: لا أدري، إن الرجل ربـما ضحك من الشيء الذي يُعْجبه وربـما ضحك من الشيء الذي لا يعجبه، فمن أيّ شيء ضحك؟ لا أدري.

والذي قاله أبو العالـية من التأويـل أشبه بتأويـل الآية، وذلك أن الله وعد الإنعام علـى هذه الأمة بـما أخبر فـي هذه الآية أنه منعم به علـيهم ثم قال عقـيب ذلك: فمن كفر هذه النعمة بعد ذلك { فَأُولَئِكَ هُمُ الفـاسِقُونَ }.

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 04:52
وقوله: { لا تَـحْسَبنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجزِينَ فِـي الأرْضِ } يقول تعالـى ذكره: لا تـحسبنّ يا مـحمد الذين كفروا بـالله معجزيه فـي الأرض إذا أراد إهلاكهم. { ومأْوَاهُم } بعد هلاكهم { النَّارُ وَلَبِئْسَ الـمَصِيرُ } الذي يصيرون إلـيه ذلك الـمأوى. وقد كان بعضهم يقول: «لا يحسبنّ الذين كفروا» بـالـياء. وهو مذهب ضعيف عند أهل العربـية وذلك أن «تـحسب» مـحتاج إلـى منصوبـين. وإذا قرىء «يَحْسَبنَّ» لـم يكن واقعاً إلاَّ علـى منصوب واحد، غير أنـي أحسب أن قائله بـالـياء ظنّ أنه قد عمل فـي «معجزين»، وأن منصوبه الثانـي فـي «الأرض»، وذلك لا معنى له إن كان ذلك قصد.

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 04:59
وأولـى القولـين فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: عُنـي به الذكور والإناث لأن الله عمّ بقوله: { الَّذِينَ مَلَكَتْ أيـمانُكُمْ } جميع أملاك أيـماننا، ولـم يخصص منهم ذكراً ولا أنثى فذلك علـى جميع من عمه ظاهر التنزيـل.

فتأويـل الكلام: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، لـيستأذنكم فـي الدخول علـيكم عبـيدُكم وإماؤكم، فلا يدخـلوا علـيكم إلاَّ بإذن منكم لهم....

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 05:11
وأشبه الأقوال التـي ذكرنا فـي تأويـل قوله: { لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ }... إلـى قوله: { أوْ صَدِيقكُمْ } القول الذي ذكرنا عن الزهريّ عن عبـيد الله بن عبد الله، وذلك أن أظهر معانـي قوله: { لَـيْسَ عَلـى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلـى الأعْرَجِ حَرَجٌ }: أنه لا حرج علـى هؤلاء الذين سُمُّوا فـي هذه الآية أن يأكلوا من بـيوت من ذكره الله فـيها، علـى ما أبـاح لهم من الأكل منها. فإذ كان ذلك أظهر معانـيه، فتوجيه معناه إلـى الأغلب الأعرف من معانـيه أولـى من توجيهه إلـى الأنكر منها. فإذ كان ذلك كذلك، كان ما خالف من التأويـل قول من قال: معناه: لـيس فـي الأعمى والأعرج حرج، أولـى بـالصواب. وكذلك أيضا الأغلب من تأويـل قوله: { وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ أنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُـيُوتكُمْ } أنه بـمعنى: ولا علـيكم أيها الناس. ثم جمع هؤلاء والزَّمْنَى الذين ذكرهم قبل فـي الـخطاب، فقال: أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم. وكذلك تفعل العرب إذا جمعت بـين خبر الغائب والـمخاطب، غلَّبت الـمخاطب فقالت: أنت وأخوك قمتـما، وأنت وزيد جلستـما، ولا تقول: أنت وأخوك جلسا، وكذلك قوله: { وَلا عَلـى أنْفُسِكُمْ } والـخبر عن الأعمى والأعرج والـمريض، غلَّب الـمخاطب، فقال: أن تأكلوا، ولـم يقل: أن يأكلوا.

فإن قال قائل: فهذا الأكل من بـيوتهم قد علـمناه كان لهم حلالاً إذ كان ملكاً لهم، أَوَ كانَ أيضاً حلالاً لهم الأكل من مال غيرهم؟ قـيـل له: لـيس الأمر فـي ذلك علـى ما توهمَّتَ ولكنه كما ذكرناه عن عبـيد الله بن عبد الله، أنهم كانوا إذا غابوا فـي مغازيهم وتـخـلف أهل الزمانة منهم، دفع الغازي مفتاح مسكنه إلـى الـمتـخـلف منهم، فأطلق له فـي الأكل مـما يخـلف فـي منزله من الطعام، فكان الـمتـخـلفون يتـخوّفون الأكل من ذلك وربه غائب، فأعلـمه الله أنه لا حرج علـيه فـي الأكل منه وأذِن لهم فـي أكله....

فإذ كان ذلك كذلك تبـين أن لا معنى لقول من قال: إنـما أنزلت هذه الآية من أجل كراهة الـمستتبع أكل طعام غير الـمستتبع لأن ذلك لو كان كما قال من قال ذلك: لقـيـل: لـيس علـيكم حرج أن تأكلوا من طعام غير من أضافكم، أو من طعام آبـاء من دعاكم، ولـم يقل: أن تأكلوا من بـيوتكم أو بـيوت آبـائكم. وكذلك لا وجه لقول من قال: معنى ذلك: لـيس علـى الأعمى حرج فـي التـخـلف عن الـجهاد فـي سبـيـل الله، لأن قوله: { أنْ تأْكُلوا } خبر «لـيس»، و«أنْ» فـي موضع نصب علـى أنها خبر لها، فهي متعلقة ب«لـيس»، فمعلوم بذلك أن معنى الكلام: لـيس علـى الأعمى حرج أن يأكل من بـيته، لا ما قاله الذين ذكرنا من أنه لا حرج علـيه فـي التـخـلف عن الـجهاد. فإذ كان الأمر فـي ذلك علـى ما وصفنا، تبـين أن معنى الكلام: لا ضِيقَ علـى الأعمى، ولا علـى الأعرج، ولا علـى الـمريض، ولا علـيكم أيها الناس، أن تأكلوا من بـيوت أنفسكم أو من بـيوت آبـائكم أو من بـيوت أمهاتكم أو من بـيوت إخوانكم أو من بـيوت أخواتكم أو من بـيوت أعمامكم أو من بـيوت عماتكم أو من بـيوت أخوالكم أو من بـيوت خالاتكم أو من البـيوت التـي ملكتـم مَفـاتـحها أو من بـيوت صديقكم، إذا أذنوا لكم فـي ذلك، عند مغيبهم ومشهدهم. ...

وقال آخرون: بل عُنِـي بذلك قوم كانوا لا يأكلون إذا نزل بهم ضيف إلا مع ضيفهم، فرخَّصَ لهم فـي أن يأكلوا كيف شاءوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أبو السائب، قال: ثنا حفص، عن عمران بن سلـيـمان، عن أبـي صالـح وعكرمة، قالا: كانت الأنصار إذا نزل بهم الضيف لا يأكلون حتـى يأكل الضيف معهم، فرُخِّص لهم، قال الله: { لا جُناحَ عَلَـيْكُمْ أنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أوْ أشْتاتاً }.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله وضع الـحَرَج عن الـمسلـمين أن يأكلوا جميعاً معاً إذا شاءوا، أو أشتاتاً متفرّقـين إذا أرادوا. وجائز أن يكون ذلك نزل بسبب من كان يتـخوّف من الأغنـياء الأكل مع الفقـير، وجائز أن يكون نزل بسبب القوم الذين ذكر أنهم كانوا لا يَطْعَمون وُحْداناً، وبسبب غير ذلك ولا خبر بشيء من ذلك يقطع العذر، ولا دلالة فـي ظاهر التنزيـل علـى حقـيقة شيء منه. والصواب التسلـيـم لـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل، والتوقـف فـيـما لـم يكن علـى صحته دلـيـل...

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال معناه: فإذا دخـلتـم بـيوتاً من بـيوت الـمسلـمين، فلـيسلـم بعضكم علـى بعض.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب لأن الله جلّ ثناؤه قال: { فإذَا دَخَـلْتُـمْ بُـيُوتاً } ولـم يخصُصْ من ذلك بـيتاً دون بـيت، وقال: { فَسَلِّـمُوا عَلـى أنْفُسِكُمْ } يعنـي: بعضكم علـى بعض. فكان معلوماً إذ لـم يخصص ذلك علـى بعض البـيوت دون بعض، أنه معنىّ به جميعها، مساجدها وغير مساجدها. ومعنى قوله: { فَسَلِّـموا عَلـى أنْفُسِكُمْ } نظير قوله:
{ وَلا تَقْتُلُوا أنْفُسَكُمْ }
وقوله: { تَـحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللّهِ } ونصب تـحية، بـمعنى: تُـحيُّون أنفسكم تـحية من عند الله السلام تـحية، فكأنه قال: فلـيحيّ بعضكم بعضاً تـحية من عند الله. وقد كان بعض أهل العربـية يقول: إنـما نصبت بـمعنى: أَمَرَكم بها تفعلونها تَـحيّة منه، ووصف جلّ ثناؤه هذه التـحية الـمبـاركة الطيبة لـما فـيها من الأجر الـجزيـل والثواب العظيـم....

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 05:16
وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب عندي التأويـل الذي قاله ابن عبـاس، وذلك أن الذي قَبْل قوله: { لا تَـجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَـيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } نهيٌ من الله الـمؤمنـين أن يأتوا من الانصراف عنه فـي الأمر الذي يجمع جميعهم ما يكرهه، والذي بعده وعيد للـمُنْصرفـين بغير إذنه عنه، فـالذي بـينهما بأن يكون تـحذيراً لهم سُخْطة أن يضطّره إلـى الدعاء علـيهم أشبه من أن يكون أمراً لهم بـما لـم يجر له ذكر من تعظيـمه وتوقـيره بـالقول والدعاء....

اسامة محمد خيري
25-02-2017, 05:24
سورة الفرقان

واختلف القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة وبعض الكوفـيـين: { يَأْكُلُ } بـالـياء، بـمعنى: يأكل منها الرسول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: «نَأْكُلُ مِنْها» بـالنون، بـمعنى: نأكل من الـجنة.

وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بـالـياء وذلك للـخبر الذي ذكرنا قبل بأن مسألة من سأل من الـمشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه هذه الـخلال لنفسه لا لهم فإذ كانت مسألتهم إياه ذلك كذلك، فغير جائز أن يقولوا له: سلْ لنفسك ذلك لنأكل نـحن.

وبعدُ، فإن فـي قوله تعالـى ذكره:
{ تَبَـارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِهَا الأنْهَارُ }
، دلـيلاً بـيِّناً علـى أنهم إنـما قالوا له: اطلب ذلك لنفسك، لتأكل أنت منه، لا نـحن....

قال أبو جعفر: والقول الذي ذكرناه عن مـجاهد فـي ذلك أشبه بتأويـل الآية، لأن الـمشركين إنـما استعظموا أن لا تكون له جنة يأكل منها وأن لا يُـلْقـى إلـيه كنز، واستنكروا أن يـمشي فـي الأسواق وهو لله رسول. فـالذي هو أولـى بوعد الله إياه أن يكون وعداً بـما هو خير ما كان عند الـمشركين عظيـماً، لا مـما كان منكراً عندهم. وعُنِـي بقوله: { جَنَّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ } بساتـين تـجري فـي أصول أشجارها الأنهار. كما:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { جَنَّاتٍ تَـجْرِي مِنْ تَـحْتِها الأنهَارُ } قال: حوائط.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 04:55
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتَّـخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياءَ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: { نَتَّـخِذَ } بفتـح النون سوى الـحسن ويزيد بن القَعقاع، فإنهما قرآه: «أنْ نُتَّـخَذَ» بضمّ النون. فذهب الذين فتـحوها إلـى الـمعنى الذي بـيَّنَّاه فـي تأويـله، من أن الـملائكة وعيسى ومن عُبد من دون الله من الـمؤمنـين هم الذين تبرّءوا أن يكون كان لهم ولـيّ غير الله تعالـى ذكره. وأما الذين قرءوا ذلك بضمّ النون، فإنهم وجهوا معنى الكلام إلـى أن الـمعبودين فـي الدنـيا إنـما تبرّءوا إلـى الله أن يكون كان لهم أن يُعْبدوا من دون الله جلّ ثناؤه، كما أخبر الله عن عيسى أنه قال إذا قـيـل
{ أأنْتَ قُلْتَ للنَّاسِ اتَّـخِذُونِـي وأُمِّيَ إلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لـي أنْ أقُولَ ما لَـيْسَ لـي بِحَقَ ما قُلْتُ لَهُمْ إلاَّ ما أمَرْتَنِـي بِهِ أنِ اعْبُدُوا اللّهَ رَبّـي وَرَبَّكُمْ }


قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندي بـالصواب قراءة من قرأه بفتـح النون، لعلل ثلاث: إحداهنّ إجماع من القرّاء علـيها. والثانـية: أن الله جلّ ثناؤه ذكر نظير هذه القصة فـي سورة سَبَأ، فقال:

{ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً }
ثم يقولُ للـملائكة أهؤلاءِ إياكُم كانُوا يَعْبُدون قالوا سُبْحَانك أنتَ وَلِـيُّنا من دُونِهِمْ، فأخبر عن الـملائكة أنهم إذا سُئلوا عن عبـادة من عبدهم تبرّءُوا إلـى الله من ولايتهم، فقالوا لربهم: أنت ولـيُّنا من دونهم، فذلك يوضّح عن صحة قراءة من قرأ ذلك: { ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أنْ نَتَّـخِذ مِنْ دُونِكَ مِنْ أوْلِـياء } بـمعنى: ما كان ينبغي لنا أن نتـخذهم من دونك أولـياء. والثالثة: أن العرب لا تدخـل «مِنْ» هذه التـي تدخـل فـي الـجحد إلاَّ فـي الأسماء، ولا تدخـلها فـي الأخبـار، لا يقولون: ما رأيت أخاك من رجل، وإنـما يقولون: ما رأيت من أحد، وما عندي من رجل وقد دخـلت هاهنا فـي الأولـياء وهي فـي موضع الـخبر، ولو لـم تكن فـيها «مِنْ»، كان وجها حسناً...

يقول تعالـى ذكره مخبراً عما هو قائل للـمشركين عند تبرّي من كانوا يعبدونه فـي الدنـيا من دون الله منهم: قد كذّبوكم أيها الكافرون من زعمتـم أنهم أضلوكم ودعوكم إلـى عبـادتهم { بـما تَقُولُونَ } يعنـي بقولكم، يقول: كذّبوكم بكذبكم.

وبنـحو الذي قلنا فـي تأويـل ذلك قال أهل التأويـل.

ذكر من قال ذلك: حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ } يقول الله للذين كانوا يعبدون عيسى وعُزيزا والـملائكة، يكذّبون الـمشركين.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد: { فَقَدْ كَذَّبوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ } قال: عيسى وعُزير والـملائكة، يكذّبون الـمشركين بقولهم.

وكان ابن زيد يقول فـي تأويـل ذلك، ما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعونَ صَرْفـاً وَلا نَصْراً } قال: كذّبوكم بـما تقولون بـما جاء من عند الله جاءت به الأنبـياء والـمؤمنون آمنوا به وكذب هؤلاء.

فوجه ابن زيد تأويـل قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } إلـى: فقد كذّبوكم أيها الـمؤمنون الـمكذّبون بـما جاءهم به مـحمد من عند الله بـما تقولون من الـحقّ، وهو أن يكون خبراً عن الذين كذّبوا الكافرين فـي زعمهم أنهم دعَوْهم إلـى الضلالة وأمروهم بها، علـى ما قاله مـجاهد من القول الذي ذكرنا عنه، أشبه وأولـى لأنه فـي سياق الـخبر عنهم....

قال ابن جُرَيج: لا يستطيعون صرف العذاب عنهم، ولا نصر أنفسهم.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـاً وَلا نَصْراً } قال: لا يستطيعون يصرفون عنهم العذاب الذي نزل بهم حين كُذّبوا، ولا أن ينتصروا. قال: وينادي منادٍ يوم القـيامة حين يجتـمع الـخلائق: ما لكم لا تناصرون؟ قال: من عبد من دون الله لا ينصر الـيوم من عبده، وقال العابدون من دون الله لا ينصره الـيوم إلهه الذي يعبد من دون الله، فقال الله تبـارك وتعالـى:
{ بَلْ هُمُ الـيَوْمَ مُسْتَسْلِـمُونَ }
وقرأ قول الله جلّ ثناؤه:
{ فإنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ }


ورُوي عن ابن مسعود فـي ذلك ما:

حدثنا به أحمد بن يونس، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا حجاج، عن هارون، قال: هي فـي حرف عبد الله بن مسعود: «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ لَكَ صَرْفـا.

« فإن تكن هذه الرواية عنه صحيحة، صحّ التأويـل الذي تأوّله ابن زيد فـي قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِـمَا تَقُولُونَ } ، ويصير قوله: { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ } خبراً عن الـمشركين أنهم كذّبوا الـمؤمنـين، ويكون تأويـل قوله حينئذٍ: { فَمَا يَسْتَطِيعُونَ صَرْفـاً وَلا نَصْراً } فما يستطيع يا مـحمد هؤلاء الكفـار لك صرفـاً عن الـحقّ الذي هداك الله له، ولا نصر أنفسهم، مـما بهم من البلاء الذي همّ فـيه، بتكذيبهم إياك.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:02
وقال آخرون: ذلك خبر من الله عن قـيـل الـمشركين إذا عاينوا الـملائكة. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنـي الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج { يَوْمَ يَرَوْنَ الـمَلائِكَةَ لا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ للْـمُـجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَـحْجُوراً } قال ابن جُرَيج: كانت العرب إذا كرهوا شيئاً قالوا: حجراً، فقالوا حين عاينوا الـملائكة. قال ابن جُرَيج: قال مـجاهد: { حِجْراً }: عوذاً، يستعيذون من الـملائكة.

قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك من أجل أن الـحِجْر هو الـحرام، فمعلوم أن الـملائكة هي التـي تـخبر أهل الكفر أن البُشرى علـيهم حرام. وأما الاستعاذة فإنها الاستـجارة، ولـيست بتـحريـم. ومعلوم أن الكفـار لا يقولون للـملائكة حرام علـيكم، فـيوجه الكلام إلـى أن ذلك خبر عن قـيـل الـمـجرمين للـملائكة.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:10
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الـخبر عن الـمشركين أنهم هجروا القرآن وأعرضوا عنه ولـم يسمعوا له. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قول الله: { وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبّ إنَّ قَوْمي اتَّـخَذُوا هَذَا القُرآنَ مَهْجُوراً لا يريدون أن يسمعوه، وإن دعوا إلـى الله قالوا لا. وقرأ: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنأَوْنَ عَنْهُ قال: ينهون عنه، ويبعدون عنه.

قال أبو جعفر: وهذا القول أولـى بتأويـل ذلك، وذلك أن الله أخبر عنهم قالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فـيه، وذلك هجرهم إياه.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:16
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، { وأصحَابَ الرَّسّ } قال: هي بئر كانت تسمى الرَّسّ.

حدثنـي مـحمد بن عمارة، قال: ثنا عبـيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيـل، عن أبـي يحيى عن مـجاهد فـي قوله: «وأصحَابَ الرُّسّ» قال: الرّسّ بئر كان علـيها قوم.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: هم قوم كانوا علـى بئر، وذلك أن الرّسّ فـي كلام العرب كلّ مـحفور مثل البئر والقبر ونـحو ذلك ومنه قول الشاعر:
سَبَقْتَ إلـى فَرَطٍ بـاهِلٍ تَنابِلَةً يَحْفُرُونَ الرِّساسا
يريد أنهم يحفرون الـمعادن، ولا أعلـم قوماً كانت لهم قصة بسبب حفرة، ذكرهم الله فـي كتابه إلا أصحاب الأخدود، فإن يكونوا هم الـمعنـيـين بقوله { وأصحَابَ الرَّسّ } فإنا سنذكر خبرهم إن شاء الله إذا انتهينا إلـى سورة البروج، وإن يكونوا غيرهم فلا نعرف لهم خبراً، إلا ما جاء من جملة الـخبر عنهم أنهم قوم رَسّوا نبـيهم فـي حفرة. إلا ما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن مـحمد بن كعب القرظي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أوَّلَ النَّاسِ يَدخـلُ الـجَنَّةَ يَوْمَ القِـيامَةِ العَبْدُ الأَسْوَدُ " ....

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:28
حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً } قال: ينشر فـيه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، مثله.

وإنـما اخترنا القول الذي اخترنا فـي تأويـل ذلك، لأنه عقـيب قوله { والنَّوْمَ سُبـاتاً } فـي اللـيـل. فإذ كان ذلك كذلك، فوصف النهار بأن فـيه الـيقظة والنشور من النوم أشبه إذ كان النوم أخا الـموت. والذي قاله مـجاهد غير بعيد من الصواب لأن الله أخبر أنه جعل النهار معاشاً، وفـيه الانتشار للـمعاش، ولكن النشور مصدر من قول القائل: نشر، فهو بـالنشر من الـموت والنوم أشبه، كما صحّت الرواية عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول إذا أصبح وقام من نومه: " الـحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أحْيانا بَعْدَما أماتَنا، وَإلَـيْهِ النُّشُورُ "....

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَـيْنَهُمْ لِـيَذَّكَّرُوا } قال: الـمطر مرّة ههنا، ومرّة ههنا.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:36
قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي معنى قوله { وجَعَلَ بَـيْنَهُما بَرْزخاً وحِجْراً مـحْجُوراً } دون القول الذي قاله من قال معناه: إنه جعل بـينهما حاجزاً من الأرض أو من الـيبس، لأن الله تعالـى ذكره أخبر فـي أوّل الآية أنه مرج البحرين، والـمرج: هو الـخـلط فـي كلام العرب علـى ما بـيَّنت قبل، فلو كان البرزخ الذي بـين العذب الفرات من البحرين، والـملـح الأجاج أرضاً أو يبساً لـم يكن هناك مرج للبحرين، وقد أخبر جلّ ثناؤه أنه مرجهما، وإنـما عرفنا قدرته بحجزه هذا الـملـح الأجاج عن إفساد هذا العذب الفرات، مع اختلاط كلّ واحد منهما بصاحبه. فأما إذا كان كلّ واحد منهما فـي حيز عن حيز صاحبه، فلـيس هناك مرج، ولا هناك من الأعجوبة ما ينبه علـيه أهل الـجهل به من الناس، ويذكرون به، وإن كان كلّ ما ابتدعه ربنا عجيبـاً، وفـيه أعظم العبر والـمواعظ والـحجج البوالغ.

اسامة محمد خيري
26-02-2017, 05:47
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبِّهِ ظَهِيراً } قال: علـى ربه عويناً. والظهير: العوين. وقرأ قول الله:
{ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهِيراً للكافِرينَ }
قال: لا تكونن لهم عويناً. وقرأ أيضاً قول الله:
{ وأنْزلَ الَّذِين ظاهَرُوهُمْ مِنْ أهْلِ الكِتابِ مِنْ صياصِيهِمْ }
قال: ظاهروهم: أعانوهم.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبِّهِ ظَهِيراً } يعنـي: أبـا الـحكم الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبـا جهل بن هشام.

وقد كان بعضهم يوجه معنى قوله { وكانَ الكافِرُ عَلـى رَبِّهِ ظَهِيراً } أي وكان الكافر علـى ربه هيناً من قول العرب: ظهرت به، فلـم ألتفت إلـيه، إذا جعله خـلف ظهره فلـم يـلتفت إلـيه، وكأنّ الظهير كان عنده فعيـل صرف من مفعول إلـيه من مظهور به، كأنه قـيـل: وكان الكافر مظهوراً به. والقول الذي قلناه هو وجه الكلام، والـمعنى الصحيح، لأن الله تعالـى ذكره أخبر عن عبـادة هؤلاء الكفـار من دونه، فأولـى الكلام أن يتبع ذلك ذمّه إياهم، وذمّ فعلهم دون الـخبر عن هوانهم علـى ربهم، ولِـما يجر لاستكبـارهم علـيه ذكر، فـيتبع بـالـخبر عن هوانهم علـيه.

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 04:49
وقوله: { فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيراً } يقول: فـاسأل يا مـحمد خبـيراً بـالرحمن، خبـيراً بخـلقه، فإنه خالق كلّ شيء، ولا يخفـى علـيه ما خـلق. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله { فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيراً } قال: يقول لـمـحمد صلى الله عليه وسلم: إذا أخبرتك شيئاً، فـاعلـم أنه كما أخبرتك، أنا الـخبـير والـخبـير فـي قوله: { فـاسأَلْ بِهِ خَبِـيراً } منصوب علـى الـحال من الهاء التـي فـي قوله به.

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 04:51
حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله { بُرُوجاً } قال: البروج: النـجوم.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: هي قصور فـي السماء، لأن ذلك فـي كلام العرب { وَلَوْ كُنْتُـمْ فِـي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } وقول الأخطل:
كأنَّهَا بُرْجُ رُوميّ يُشَيِّدُهُ بـانٍ بِحِصّ وآجُرَ وأحْجارِ
يعنـي بـالبرج: القصر....

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 05:01
حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مسلـم بن إبراهيـم، قال: ثنا كعب بن فروخ، قال: ثنا قتادة، عن مطرِّف بن عبد الله، قال: خير هذه الأمور أوساطها، والـحسنة بـين السيئتـين. فقلت لقتادة: ما الـحسنة بـين السيئتـين؟ فقال: { الَّذِينَ إذَا أنْفَقُوا لَـمْ يُسْرِفُوا وَلَـمْ يَقْتُرُوا... } الآية.

وقال آخرون: الإسرافُ هو أن تأكل مال غيرك بغير حقّ. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا سالـم بن سعيد، عن أبـي مَعْدان، قال: كنت عند عون بن عبد الله بن عتبة، فقال: لـيس الـمسرف من يأكل ماله، إنـما الـمسرف من يأكل مال غيره.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: الإسراف فـي النفقة الذي عناه الله فـي هذا الـموضع: ما جاوز الـحدّ الذي أبـاحه الله لعبـاده إلـى ما فوقه، والإقتار: ما قصر عما أمر الله به، والقوام: بـين ذلك.

وإنـما قلنا إن ذلك كذلك، لأن الـمسرف والـمقتر كذلك ولو كان الإسراف والإقتار فـي النفقة مرخصاً فـيهما ما كانا مذمومين، ولا كان الـمسرف ولا الـمقتر مذموماً، لأن ما أذن الله فـي فعله فغير مستـحقّ فـاعله الذمّ. فإن قال قائل: فهل لذلك من حدّ معروف تبـينه لنا؟ قـيـل: نعم، ذلك مفهوم فـي كلّ شيء من الـمطاعم والـمشارب والـملابس والصدقة وأعمال البرّ وغير ذلك، نكره تطويـل الكتاب بذكر كلّ نوع من ذلك مفصلاً، غير أن جملة ذلك هو ما بـيَّنا، وذلك نـحو أكل آكل من الطعام فوق الشبع ما يضعف بدنه، وينهك قواه، ويشغله عن طاعة ربه، وأداء فرائضه، فذلك من السرف، وأن يترك الأكل وله إلـيه سبـيـل حتـى يضعف ذلك جسمه، ويَنْهَك قواه، ويضعفه عن أداء فرائض ربه، فذلك من الإقتار، وبـين ذلك القَوام علـى هذا النـحو، كلّ ما جانس ما ذكرنا. فأما اتـخاذ الثوب للـجمال، يـلبسه عند اجتـماعه مع الناس، وحضوره الـمـحافل والـجمع والأعياد، دون ثوب مهنته، أو أكله من الطعام ما قوّاه علـى عبـادة ربه، مـما ارتفع عما قد يسدّ الـجوع، مـما هو دونه من الأغذية، غير أنه لا يعين البدن علـى القـيام لله بـالواجب معونته، فذلك خارج عن معنى الإسراف، بل ذلك من القَوام...

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 05:07
والصواب من القراءة عندنا فـيه: جزم الـحرفـين كلـيهما: يضاعفْ، ويخـلدْ، وذلك أنه تفسير للأثام لا فعل له، ولو كان فعلاً له كان الوجه فـيه الرفع، كما قال الشاعر:
مَتـى تأْتِهِ تَعْشُو إلـى ضَوْءِ نارِهِ تَـجِدْ خيرَ نارٍ عِنْدَها خَيْرُ مُوقِدِ
فرفع تعشو، لأنه فعل لقوله تأته، معناه: متـى تأته عاشياً....

وقال آخرون: بل معنى ذلك، فأولئك يبدّل الله سيئاتهم فـي الدنـيا حسنات لهم يوم القـيامة. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي أحمد بن عمرو البصريّ، قال: ثنا قريش بن أنس أبو أنس، قال: ثنـي صالـح بن رستـم، عن عطاء الـخراسانـي، عن سعيد بن الـمسيب { فَأُولَئِكَ يُبَدّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ } قال: تصير سيئاتهم حسنات لهم يوم القـيامة.

حدثنا الـحسن بن عرفة، قال: ثنا مـحمد بن حازم أبو معاوية، عن الأعمش، عن الـمعرور بن سويد، عن أبـي ذرّ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنّـي لأَعْرِفُ آخِرَ أهْلِ النَّارِ خُرُوجاً مِنَ النَّارِ، وآخِرَ أهْلِ النَّارِ دُخُولاً الـجَنَّةَ، قال: يُؤْتَـى بِرَجُلٍ يَوْمَ القِـيامَةِ، فَـيُقالُ: نَـحُّوا كِبـارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغارِها، قال: فَـيُقالُ لَهُ: عَمِلْتَ كَذَا وكَذَا، وَعملْتَ كَذَا وكَذَا، قال: فَـيَقُولُ: يا رَبّ لَقَدْ عَمِلْتُ أشْياءَ ما أرَاها هَا هُنا، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتـى بدت نواجذه، قال: فَـيُقالُ لَهُ: لَكَ مَكانَ كُلِّ سَيِّئَةِ حَسَنَةٌ "

قال أبو جعفر: وأولَـى التأويـلـين بـالصواب فـي ذلك تأويـل من تأوّله: فأولئك يبدّل الله سيئاتهم: أعمالهم فـي الشرك، حسنات فـي الإسلام، بنقلهم عما يسخطه الله من الأعمال إلـى ما يرضى


وإنـما قلنا ذلك أولـى بتأويـل الآية، لأن الأعمال السيئة قد كانت مضت علـى ما كانت علـيه من القُبح، وغير جائز تـحويـل عين قد مضت بصفة، إلـى خلاف ما كانت علـيه، إلا بتغيـيرها عما كانت علـيه من صفتها فـي حال أخرى، فـيجب إن فعل ذلك كذلك، أن يصير شرك الكافر الذي كان شركاً فـي الكفر بعينه إيـماناً يوم القـيامة بـالإسلام ومعاصيه كلها بأعيانها طاعة، وذلك ما لا يقوله ذو حجاً....

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 05:21
وقال آخرون: هو قول الكذب. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: { وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ } قال: الكذب.

قال أبو جعفر: وأصل الزُّور تـحسين الشيء، ووصفه بخلاف صفته، حتـى يخيَّـل إلـى من يسمعه أو يراه، أنه خلاف ما هو به، والشرك قد يدخـل فـي ذلك، لأنه مـحسَّن لأهله، حتـى قد ظنوا أنه حقّ، وهو بـاطل، ويدخـل فـيه الغناء، لأنه أيضاً مـما يحسنه ترجيع الصوت، حتـى يستـحلـي سامعُه سماعَه، والكذب أيضاً قد يدخـل فـيه، لتـحسين صاحبه إياه، حتـى يظنّ صاحبه أنه حقّ، فكل ذلك مـما يدخـل فـي معنى الزُّور.

فإذا كان ذلك كذلك، فأولـى الأقوال بـالصواب فـي تأويـله أن يقال: والذين لا يشهدون شيئاً من البـاطل، لا شركاً، ولا غناء، ولا كذبـاً ولا غيره، وكلّ ما لزمه اسم الزور، لأن الله عمّ فـي وصفه إياهم، أنهم لا يشهدون الزور، فلا ينبغي أن يُخَصّ من ذلك شيء إلا بحجة يجب التسلـيـم لها، من خبر أو عقل....

وقال آخرون: عُنى بـاللغو ها هنا: الـمعاصي كلها. ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الـحسن، فـي قوله: { وَإذَا مَرُّوا بـاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } قال: اللغو كله: الـمعاصي.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي، أن يقال: إن الله أخبر عن هؤلاء الـمؤمنـين الذين مدحهم بأنهم إذا مرّوا بـاللغو مرّوا كراما، واللغو فـي كلام العرب هو كل كلام أو فعل بـاطل لا حقـيقة له ولا أصل، أو ما يستقبح فسبّ الإنسان الإنسان بـالبـاطل الذي لا حقـيقة له من اللَّغو. وذكر النكاح بصريح اسمه مـما يُستقبح فـي بعض الأماكن، فهو من اللغو، وكذلك تعظيـم الـمشركين آلهتهم من البـاطل الذي لا حقـيقة لـما عظموه علـى نـحو ما عظموه، وسماع الغناء مـما هو مستقبح فـي أهل الدين، فكل ذلك يدخـل فـي معنى اللغو، فلا وجه إذ كان كل ذلك يـلزمه اسم اللغو، أن يقال: عُنـي به بعض ذلك دون بعض، إذ لـم يكن لـخصوص ذلك دلالة من خبر أو عقل. فإذا كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: وإذا مرّوا بـالبـاطل فسمعوه أو رأوه، مرّوا كراماً مرورهم كراماً فـي بعض ذلك بأن لا يسمعوه، وذلك كالغناء. وفـي بعض ذلك بأن يعرضوا عنه ويصفحوا، وذلك إذا أوذوا بإسماع القبـيح من القول. وفـي بعضه بأن يَنْهَوْا عن ذلك، وذلك بأن يروا من الـمنكر ما يغيَّر بـالقول فـيغيروه بـالقول. وفـي بعضه بأن يضاربوا علـيه بـالسيوف، وذلك بأن يروا قوماً يقطعون الطريق علـى قوم، فـيستصرخهم الـمراد ذلك منهم، فـيصرخونهم، وكلّ ذلك مرورهم كراماً. وقد:

حدثنـي ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا مـحمد بن مسلـم، عن إبراهيـم بن ميسرة، قال: مرّ ابن مسعود بلهو مسرعاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنْ أصْبَحَ ابْنُ مَسْعُودٍ لَكَرِيـماً "

وقـيـل: إن هذه الآية مكية. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفـيان، قال: سمعت السديّ يقول: { وَإذَا مَرُّوا بـاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً } قال: هي مكية، وإنـما عنى السديّ بقوله هذا إن شاء الله، أن الله نسخ ذلك بأمره الـمؤمنـين بقتال الـمشركين بقوله:
{ فَـاقْتُلُوا الـمُشْرِكينَ حَيْثُ وَجَدْتُـمُوهُمْ }
وأمرهم إذا مرّوا بـاللَّغو الذي هو شرك، أن يُقاتلوا أمراءه، وإذا مرّوا بـاللغو، الذي هو معصية لله أن يغيروه، ولـم يكونوا أمروا بذلك بـمكة، وهذا القول نظير تأويـلنا الذي تأوّلناه فـي ذلك.

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 05:25
وقال آخرون: بل معناه: واجعلنا للـمتقـين إماماً: نأتـمّ بهم، ويأتـمّ بنا من بعدنا. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن بشار، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا ابن عيـينة، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، فـي قوله: { وَاجْعَلْنا للْـمُتَّقِـين إماماً } قال: أئمة نقتدي بـمن قبلنا، ونكون أئمة لـمن بعدنا.

حدثنا الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيـينة، عن أبن أبـي نـجيح، عن مـجاهد { وَاجْعَلْنا للـمُتَّقِـينَ إماماً } قال: اجعلنا مؤتـمين بهم، مقتدين بهم.

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: واجعلنا للـمتقـين الذين يتقون معاصيك، ويخافون عقابك إماماً يأتـمون بنا فـي الـخيرات، لأنهم إنـما سألوا ربهم أن يجعلهم للـمتقـين أئمة، ولـم يسألوه أن يجعل الـمتقـين لهم إماماً، وقال { وَاجْعَلْنا للْـمُتَّقِـينَ إماماً } ولـم يقل أئمة. وقد قالوا: واجعلنا وهم جماعة، لأن الإمام مصدر من قول القائل: أمّ فلان فلاناً إماماً، كما يقال: قام فلان قـياماً، وصام يوم كذا صياماً. ومن جمع الإمام أئمة، جعل الإمام اسماً، كما يقال: أصحاب مـحمد إمام، وأئمة للناس. فمن وحَّد قال: يأتـمّ بهم الناس. وهذا القول الذي قلناه فـي ذلك قول بعض نـحويَّـي أهل الكوفة. وقال بعض أهل البصرة من أهل العربـية: الإمام فـي قوله: { للْـمُتَّقِـينَ إماماً } جماعة، كما تقول: كلهم عُدُول. قال: ويكون علـى الـحكاية، كما يقول القائل إذا قـيـل له: من أميركم: هؤلاء أميرنا. واستشهد لذلك بقول الشاعر:
يا عاذِلاتـي لا تُرِدْنَ مَلامَتِـي إنَّ العَوَاذلَ لَسْنَ لـي بأمِيرِ

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 06:02
يقول تعالـى ذكره: أولئك يجزون الغرفة بـما صبروا، خالدين فـي الغرفة، يعنـي أنهم ماكثون فـيها، لابثون إلـى غير أمد، حسنت تلك الغرفة قراراً لهم ومقاماً. يقول: وإقامة. وقوله: { قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربّـي } يقول جلّ ثناؤه لنبـيه: قل يا مـحمد لهؤلاء الذين أرسلت إلـيهم: أيّ شيء يَعُدّكم، وأيّ شيء يصنع بكم ربـي؟ يقال منه: عبأت به أعبأ عبئاً، وعبأت الطيب أعبؤه: إذا هيأته، كما قال الشاعر:
كأنَّ بِنَـحْرِهِ وبِـمَنْكِبَـيْهِ عَبِـيرا بـاتَ يَعْبَؤُهُ عَرُوسُ
يقول: يهيئه ويعمله يعبؤُه عبـا وعبوءاً، ومنه قولهم: عَبَّأت الـجيش بـالتشديد والتـخفـيف فأنا أعبئه: أُهَيِّئُهُ. والعِبءُ: الثقل. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله: { قُلْ ما يَعْبأُ بِكُمْ رَبّـي } يصنع لولا دعاؤكم.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّـي } قال: يعبأ: يفعل. وقوله: { لَوْلا دُعاؤُكُمْ } يقول: لولا عبـادة من يعبده منكم، وطاعة من يطيعه منكم. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { ما يَعْبَأُ بِكُمْ رَبّـي لَوْلا دُعاؤُكُمْ } يقول: لولا إيـمانكم، وأخبر الله الكفـار أنه لا حاجة له بهم إذ لـم يخـلقهم مؤمنـين، ولو كان له بهم حاجة لـحبب إلـيهم الإيـمان كما حبَّبه إلـى الـمؤمنـين.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { لَوْلا دُعاؤُكُمْ } قال: لولا دعاؤكم إياه لتعبدوه وتطيعوه

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 06:19
سورة الشعراء

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب وأشبهها بـما قال أهل التأويـل فـي ذلك أن تكون الأعناق هي أعناق الرجال، وأن يكون معنى الكلام: فظلت أعناقهم ذلـيـلة، للآية التـي ينزلها الله علـيهم من السماء، وأن يكون قوله «خاضعين» مذكراً، لأنه خبر عن الهاء والـميـم فـي الأعناق، فـيكون ذلك نظير قول جرير:
أرَى مَرَّ السِّنِـينَ أخَذْنَ مِنِّـي كمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ
وذلك أن قوله: مرّ، لو أسقط من الكلام، لأدى ما بقـي من الكلام عنه ولـم يفسد سقوطه معنى الكلام عما كان به قبل سقوطه، وكذلك لو أسقطت الأعناق من قوله: فظلت أعناقهم، لأدى ما بقـي من الكلام عنها، وذلك أن الرجال إذا ذلُّوا، فقد ذلت رقابهم، وإذا ذلت رقابهم فقد ذلوا.

فإن قـيـل فـي الكلام: فظلوا لها خاضعين، كان الكلام غير فـاسد، لسقوط الأعناق، ولا متغير معناه عما كان علـيه قبل سقوطها، فصرف الـخبر بـالـخضوع إلـى أصحاب الأعناق، وإن كان قد ابتدأ بذكر الأعناق لـما قد جرى به استعمال العرب فـي كلامهم، إذا كان الاسم الـمبتدأ به، وما أضيف إلـيه يؤدّي الـخبر كلّ واحد منهما عن الآخر....

وقوله: { وَإنَّ رَبِّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيـمُ } يقول: وإن ربك يا مـحمد لهو العزيز فـي نقمته، لا يـمتنع علـيه أحد أراد الانتقام منه. يقول تعالـى ذكره: وإنـي إن أحللت بهؤلاء الـمكذّبـين بك يا مـحمد، الـمعرِضين عما يأتـيهم من ذكر من عندي، عقوبتـي بتكذيبهم إياك، فلن يـمنعهم منـي مانع، لأنـي أنا العزيز الرحيـم، يعنـي أنه ذو الرحمة بـمن تاب من خـلقه من كفره ومعصيته، أن يعاقبه علـى ما سلف من جُرْمه بعد توبته. وكان ابن جُرَيج يقول فـي معنى ذلك، ما:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي الـحجاج، عن ابن جُرَيج قال: كلّ شيء فـي الشعراء من قوله «عَزِيزٌ رَحِيـمٌ» فهو ما أهلك مـمن مضى من الأمـم، يقول عزيز، حين انتقم من أعدائه، رحيـم بـالـمؤمنـين، حين أنـجاهم مـما أهلك به أعداءه.

قال أبو جعفر: وإنـما اخترنا القول الذي اخترناه فـي ذلك فـي هذا الـموضع، لأن قوله: { وَإنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيـمُ } عقـيب وعيد الله قوماً من أهل الشرك والتكذيب بـالبعث، لـم يكونوا أهلكوا، فـيوجه إلـى أنه خبر من الله عن فعله بهم وإهلاكه. ولعلّ ابن جُرَيج بقوله هذا أراد ما كان من ذلك عقـيب خبر الله عن إهلاكه من أهلك من الأمـم، وذلك إن شاء الله إذا كان عقـيب خبرهم كذلك.

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 06:38
وقوله: { وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنت من الكافرين بـالله علـى ديننا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسبـاط، عن السديّ { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التـي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ } يعنـي علـى ديننا هذا الذي تعيب.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنت من الكافرين نعمتنا علـيك. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ التـي فَعَلْتَ وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ } قال: ربـيناك فـينا ولـيداً، فهذا الذي كافأتنا أن قتلت منا نفساً، وكفرت نعمتنا

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس { وأنْتَ مِنَ الكافِرِينَ } يقول: كافراً للنعمة لأن فرعون لـم يكن يعلـم ما الكفر.

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي قاله ابن زيد أشبه بتأويـل الآية، لأن فرعون لـم يكن مقرّا لله بـالربوبـية وإنـما كان يزعم أنه هو الربّ، فغير جائز أن يقول لـموسى إن كان موسى كان عنده علـى دينه يوم قتل القتـيـل علـى ما قاله السديّ: فعلت الفعلة وأنت من الكافرين، الإيـمان عنده: هو دينه الذي كان علـيه موسى عنده، إلا أن يقول قائل: إنـما أراد: وأنت من الكافرين يومئذ يا موسى، علـى قولك الـيوم، فـيكون ذلك وجهاً يتوجه. فتأويـل الكلام إذن: وقتلت الذي قتلت منا وأنت من الكافرين نعمتنا علـيك، وإحساننا إلـيك فـي قتلك إياه. وقد قـيـل: معنى ذلك: وأنت الآن من الكافرين لنعمتـي علـيك، وتربـيتـي إياك.

اسامة محمد خيري
27-02-2017, 06:56
يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } يقول: يريد أن يخرج بنـي إسرائيـل من أرضكم إلـى الشأم بقهره إياكم بـالسحر. وإنـما قال: يريد أن يخرجكم فجعل الـخطاب للـملإ حوله من القبط، والـمعنـيّ به بنو إسرائيـل، لأن القبط كان قد استعبدوا بنـي إسرائيـل، واتـخذوهم خدماً لأنفسهم ومُهَّاناً، فلذلك قال لهم: { يُرِيدُ أنْ يُخْرِجَكُمْ } وهو يريد: أن يخرج خدمكم وعبـيدكم من أرض مصر إلـى الشأم.

وإنـما قلت معنى ذلك كذلك، لأن الله إنـما أرسل موسى إلـى فرعون يأمره بإرسال بنـي إسرائيـل معه، فقال له ولأخيه
{ فَأْتِـيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إنَّا رَسُولُ رَبّ العالَـمِينَ أنْ أرْسِلْ مَعَنا بَنـي إسْرائِيـلَ }...

يقول تعالـى ذكره: فجمع الـحاشرون الذين بعثهم فرعون بحشر السحرة { لِـميقاتِ يَوْم مَعْلُومٍ } يقول: لوقت واعد فرعون لـموسى الاجتـماع معه فـيه من يوم معلوم، وذلك يوم الزِّينة
{ وَأَنْ يُحْشرَ النَّاسُ ضُحَى }
وقـيـل للناس: هل أنتـم مـجتـمعون لتنظروا إلـى ما يفعل الفريقان، ولـمن تكون الغلبة، لـموسى أو للسحرة؟ فلعلنا نتبع السحرة. ومعنى لعلّ هنا: كي. يقول: كي نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبـين موسى. وإنـما قلت ذلك معناها، لأن قوم فرعون كانوا علـى دين فرعون، فغير معقول أن يقول من كان علـى دين: أنظر إلـى حجة من هو علـى خلافـي لعلـي أتبع دينـي، وإنـما يقال: أنظر إلـيها كي أزدادَ بصيرة بدينـي، فأقـيـم علـيه. وكذلك قال قوم فرعون، فإياها عنوا بقـيـلهم: لعلنا نتبع السحرة إن كانوا هم الغالبـين.

اسامة محمد خيري
28-02-2017, 04:50
وقوله { وَإنَّا لَـجِمِيعٌ حاذِرونَ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة { وَإنَّا لَـجِمِيعٌ حاذِرونَ } بـمعنى: أنهم معدون مؤدون ذوو أداة وقوّة وسلاح. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «وَإنَّا لَـجَمِيعٌ حَذِرُونَ» بغير ألف. وكان الفرّاء يقول: كأن الـحاذر الذي يحذرك الآن، وكأن الـحذر الـمخـلوق حذرا لا تلقاه إلا حذرا ومن الـحذر قول ابن أحمر:
هَلْ أُنْسَأَنْ يَوْما إلـى غَيْرِهِ إنّـي حَوَالِـيٌّ وآنّـي حَذِرْ
والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرّاء الأمصار متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء، فمصيب الصواب فـيه.

اسامة محمد خيري
28-02-2017, 04:55
{ وما كان أكثرهم مؤمنـين } يقول: وما كان أكثر قومك يا مـحمد مؤمنـين بـما أتاك الله من الـحقّ الـمبـين، فسابق فـي علـمي أنهم لا يؤمنون

اسامة محمد خيري
28-02-2017, 05:17
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا يحيى بن حسان، عن مسلـم، عن رجل، عن مـجاهد، قوله { مَصَانعَ لَعَلَّكُمْ تَـخْـلُدُونَ } قال: أبرجة الـحمام.

وقال آخرون: بل هي مآخذ للـماء.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي الـحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قَتادة، فـي قوله { مَصَانِعَ } قال: مآخذ للـماء.

قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الـمصانع جمع مصنعة، والعرب تسمي كل بناء مصنعة، وجائز أن يكون ذلك البناء كان قصورا وحصونا مشيدة، وجائز أن يكون كان مآخذ للـماء، ولا خبر يقطع العذر بأيّ ذلك كان، ولا هو مـما يُدرك من جهة العقل. فـالصواب أن يقال فـيه، ما قال الله: إنهم كانوا يتـخذون مصانع.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 04:44
وأولـى القراءتـين فـي ذلك بـالصواب: قراءة من قرأ { إنْ هَذَا إلاَّ خُـلُقُ الأوّلِـينَ } بضمّ الـخاء واللام، بـمعنى: إن هذا إلا عادة الأوّلـين ودينهم، كما قال ابن عبـاس، لأنهم إنـما عُوتبوا علـى البنـيان الذي كانوا يتـخذونه، وبطشهم بـالناس بطش الـجبـابرة، وقلة شكرهم ربهم فـيـما أنعم علـيهم، فأجابوا نبـيهم بأنهم يفعلون ما يفعلون من ذلك، احتذاءً منهم سنة من قبلهم من الأمـم، واقتفـاءً منهم آثارهم، فقالوا: ما هذا الذي نفعه إلا خُـلق الأوّلـين، يَعنون بـالـخُـلق: عادةَ الأوّلـين.

ويزيد ذلك بـيانا وتصحيحا لـما اخترنا من القراءة والتأويـل، قولهُم: { وَما نَـحْنُ بِـمُعَذَّبِـينَ } لأنهم لو كانوا لا يُقرّون بأن لهم ربـاً يقدر علـى تعذيبهم، ما قالوا { وَما نَـحْنُ بِـمَعَذَّبِـينَ } بل كانوا يقولون: إنْ هذا الذي جئتنا به يا هود إلا خـلق الأوّلـين، وما لنا من معذِّب يعذّبنا، ولكنهم كانوا مقرّين بـالصانع، ويعبدون الآلهة، علـى نـحو ما كان مشركو العرب يعبدونها، ويقولون
{ إنَّها تُقَرّبُنا إلـى اللَّهِ زُلْفَـى }
، فلذلك قالوا لهود وهم منكرون نبوّته:
{ سَوَاءٌ عَلَـيْنا أوَعَظْتَ أمْ لَـمْ تَكُنْ مِنَ الَواعِظِينَ }
ثم قالوا له: ما هذا الذي نفعله إلا عادة من قبلنا وأخلاقهم، وما الله معذّبنا علـيه، كما أخبرنا تعالـى ذكره عن الأمـم الـخالـية قبلنا، أنهم كانوا يقولون لرسلهم:
{ إنَّا وَجَدْنا آبـاءَنا عَلـى أُمَّةٍ وَإنَّا عَلـى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ }

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 04:48
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: الهضيـم: هو الـمتكسر من لـينه ورطوبته، وذلك من قولهم: هضم فلان حقه: إذا انتقصه وتـحيَّفه، فكذلك الهضم فـي الطلع، إنـما هو التنقص منه من رطوبته ولـينه إما بـمسّ الأيدي، وإما بركوب بعضه بعضاً، وأصله مفعول صرف إلـى فعيـل....

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن قراءة من قرأها { فـارِهِينَ } وقراءة من قرأ «فَرِهِينَ» قراءتان معروفتان، مستفـيضة القراءة بكل واحدة منهما فـي علـماء القرّاء، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. ومعنى قراءة من قرأ { فـارِهِينَ }: حاذقـين بنـحتها، متـخبرين لـمواضع نـحتها، كيسين، من الفراهة. ومعنى قراءة من قرأ «فَرِهِينَ»: مَرِحين أشرين. وقد يجوز أن يكون معنى فَـارِه وفَرِه واحدا، فـيكون فـاره مبنـيا علـى بنائه، وأصله من فعل يفعل، ويكون فره صفة، كما يقال: فلان حاذق بهذا الأمر وحَذِق. ومن الفـاره بـمعنى الـمرح قول الشاعر عديّ بن وادع العوفـي من الأزد:
لا أسْتَكِينُ إذا ما أزْمَةٌ أزَمَتْ وَلَنْ تَرَانِـي بِخَيْرٍ فـارِهَ الطَّلَبِ
أي مرح الطلب.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 04:52
حدثنـي مـحمد بن عبـيد، قال: ثنا موسى بن عمرو، عن أبـي صالـح، عن ابن عبـاس، فـي قوله { إنَّـمَا أنْتَ مِنَ الـمُسَحَّرِينَ } قال: من الـمخـلوقـين.

واختلف أهل الـمعرفة بكلام العرب فـي معنى ذلك، فكان بعض أهل البصرة يقول: كلّ من أكل من إنس أو دابة فهو مسحَّر، وذلك لأن له سَحْراً يَقْرِي ما أكل فـيه، واستشهد علـى ذلك بقول لَبـيد:
فإنْ تَسْأَلَـينا فِـيـمَ نَـحْنُ فإنَّنا عَصَافِـيرُ مِنْ هَذَا الأنامِ الـمُسَحَّرِ
وقال بعض نـحويِّـي الكوفـيـين نـحو هذا، غير أنه قال: أخذ من قولك: انتفخ سَحْرُك: أي أنك تأكل الطعام والشراب، فتُسَحَّر به وتُعَلَّل. وقال: معنى قول لبـيد: «من هذا الأنام الـمسحرَّ»: من هذا الأنام الـمعَّلل الـمخدوع. قال: ويُروى أن السِّحْر من ذلك، لأنه كالـخديعة.

والصواب من القول فـي ذلك عندي: القول الذي ذكرته عن ابن عبـاس، أن معناه: إنـما أنت من الـمخـلوقـين الذين يُعْلَّلون بـالطعام والشراب مثلنا، ولـيست ربـا ولا ملكا فنطيعَك، ونعلـم أنك صادق فـيـما تقول. والـمسحَّر: الـمفعل من السحرة، وهو الذي له سحرة.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 04:59
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { كَذَّبَ أصَحابُ الأَيْكَةِ الـمُرْسَلِـينَ } قال: الأيكة: الشجر، بعث الله شعيبـاً إلـى قومه من أهل مدين، وإلـى أهل البـادية، قال: وهم أصحاب لـيكة، ولـيكة والأيكة: واحد.]

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 05:06
واختلف القرّاء فـي قراءة قوله { نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ } فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة { نَزَلَ } بهِ مخففة { الرُّوحُ الأَمِينُ } رفعا بـمعنى: أن الروح الأمين هو الذي نزل بـالقرآن علـى مـحمد، وهو جبريـل. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة { نَزَّلَ } مشددة الزاي { الرُّوحَ الأَمِينَ } نصبـا، بـمعنى: أن ربّ العالـمين نزّل بـالقرآن الروح الأمين، وهو جبريـل علـيه السلام.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا أن يقال: إنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قرّاء الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب، وذلك أن الروح الأمين إذا نزل علـى مـحمد بـالقرآن، لـم ينزل به إلا بأمر الله إياه بـالنزول، ولن يجهل أن ذلك كذلك ذو إيـمان بـالله، وأن الله إذا أنزله به نزل. وبنـحو الذي قلنا فـي أن الـمعنـيّ بـالروح الأمين فـي هذا الـموضع جبريـل قال أهل التأويـل.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 05:09
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قوله: { كذَلكَ سَلَكْناهُ } قال: الكفر { فِـي قُلُوبِ الـمُـجْرِمِينَ }.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 05:16
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وتصرّفك فـي أحوالك كما كانت الأنبـياء من قبلك تفعله، والساجدون فـي قول قائل هذا القول: الأنبـياء. ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا ابن يـمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد، فـي قوله: { الَّذِي يَرَاكَ... } الآية، قال: كما كانت الأنبـياء من قبلك.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بتأويـله قول من قال تأويـله: ويرى تقلبك مع الساجدين فـي صلاتهم معك، حين تقوم معهم وتركع وتسجد، لأن ذلك هو الظاهر من معناه. فأما قول من وجَّهه إلـى أن معناه: وتقلبك فـي الناس، فإنه قول بعيد من الـمفهوم بظاهر التلاوة، وإن كان له وجه، لأنه وإن كان لا شيء إلا وظله يسجد لله، فإنه لـيس الـمفهوم من قول القائل: فلان مع الساجدين، أو فـي الساجدين، أنه مع الناس أو فـيهم، بل الـمفهوم بذلك أنه مع قوم سجود، السجودَ الـمعروف، وتوجيه معانـي كلام الله إلـى الأغلب أولـى من توجيهه إلـى الأنكر. وكذلك أيضاً فـي قول من قال: معناه: تتقلَّب فـي أبصار الساجدين، وإن كان له وجه، فلـيس ذلك الظاهر من معانـيه.

فتأويـل الكلام إذن: وتوكل علـى العزيز الرحيـم، الذي يراك حين تقوم إلـى صلاتك، ويرى تقلبك فـي الـمؤتـمين بك فـيها بـين قـيام وركوع وسجود وجلوس.

اسامة محمد خيري
01-03-2017, 05:28
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال فـيه ما قال الله جلّ ثناؤه: إن شعراء الـمشركين يتبعهم غواة الناس، ومردة الشياطين، وعصاة الـجنّ، وذلك أن الله عمّ بقوله: { وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ } فلـم يخصص بذلك بعض الغواة دون بعض، فذلك علـى جميع أصناف الغواة التـي دخـلت فـي عموم الآية....

وقال آخرون: بل ذلك فـي شعرهم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِـيراً } قال: ذكروا الله فـي شعرهم.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الذين استثناهم من شعراء الـمؤمنـين بذكر الله كثـيراً، ولـم يخص ذكرهم الله علـى حال دون حال فـي كتابه، ولا علـى لسان رسوله، فصفتهم أنهم يذكرون الله كثـيراً فـي كلّ أحوالهم....

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 04:46
سورة النمل

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: «بِشِهابِ قَبَسٍ» بإضافة الشهاب إلـى القبس، وترك التنوين، بـمعنى: أو آتـيكم بشعلةِ نارٍ أقتبسها منها. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة: { بشِهابٍ قَبَسٍ } بتنوين الشهاب وترك إضافته إلـى القبس، يعنـي: أو آتـيكم بشهاب مقتبس.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان معروفتان فـي قَرَأة الأمصار، متقاربتا الـمعنى، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب. وكان بعض نـحويـيِّ البصرة يقول: إذا جُعل القبس بدلاً من الشهاب، فـالتنوين فـي الشهاب، وإن أضاف الشهاب إلـى القبس، لـم ينوّن الشهاب. وقال بعض نـحويـيِّ الكوفة: إذا أضيف الشهاب إلـى القبس فهو بـمنزلة قوله
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ }
مـما يضاف إلـى نفسه إذا اختلف اسماه ولفظاه توهماً بـالثانـي أنه غير الأوّل. قال: ومثله حبة الـخضراء، ولـيـلة القمراء، ويوم الـخميس وما أشبهه. وقال آخر منهم: إن كان الشهاب هو القبس لـم تـجز الإضافة، لأن القبس نعت، ولا يُضاف الاسم إلـى نعته إلا فـي قلـيـل من الكلام، وقد جاء:
{ وَلَدَارُ الآخِرَةِ }
و
{ وَللَدَّارُ الآخِرَةُ }


والصواب من القول فـي ذلك أن الشهاب إذا أريد به أنه غير القبس، فـالقراءة فـيه بـالإضافة، لأن معنى الكلام حينئذ، ما بـينا من أنه شعلة قبس، كما قال الشاعر:
فـي كَفِّه صَعْدَةٌ مُشَقَّـفَةٌ فِـيها سِنانٌ كشُعْلَةِ القَبَسِ
وإذا أريد بـالشهاب أنه هو القبس، أو أنه نعت له، فـالصواب فـي الشهاب التنوين، لأن الصحيح فـي كلام العرب ترك إضافة الاسم إلـى نعته، وإلـى نفسه، بل الإضافـات فـي كلامها الـمعروف إضافة الشيء إلـى غير نفسه وغير نعته.

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 06:54
قال أبو جعفر: والصواب من القول فـي قوله { إلاَّ مَنْ ظَلَـمَ ثُم بَدَّلَ } عندي غير ما قاله هؤلاء الذين حكيناً قولهم من أهل العربـية، بل هو القول الذي قاله الـحسن البصري وابن جُرَيج ومن قال قولهما، وهو أن قوله: { إلاَّ مَنْ ظَلَـمَ } استثناء صحيح من قوله { لا يَخافُ لَدَيَّ الـمُرْسَلُونَ إلاَّ مَنْ ظَلَـمَ } منهم فأتـى ذنبـا، فإنه خائف لديه من عقوبته. وقد بـين الـحسن رحمه الله معنى قـيـل الله لـموسى ذلك، وهو قوله قال: إنـي إنـما أخفتك لقتلك النفس.

فإن قال قائل: فما وجه قـيـله إن كان قوله { إلاَّ مَنْ ظَلَـمَ } استثناءً صحيحاً، وخارجاً من عداد من لا يخاف لديه من الـمرسلـين، وكيف يكون خائفـا من كان قد وُعد الغفران والرحمة؟ قـيـل: إن قوله: { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنا بَعْدَ سُوءِ } كلام آخر بعد الأوّل، وقد تناهى الـخبر عن الرسل من ظلـم منهم، ومن لـم يظلـم عند قوله { إلاَّ مَنْ ظَلَـمَ } ثم ابتدأ الـخبر عمن ظلـم من الرسل، وسائر الناس غيرهم. وقـيـل: فمن ظلـم ثم بدّل حسناً بعد سوء فإنـي له غفور رحيـم.

فإن قال قائل: فعلام تعطف إن كان الأمر كما قلت بثم إن لـم يكن عطفـا علـى قوله: { ظَلَـمَ }؟ قـيـل: علـى متروك استغنـي بدلالة قوله { ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ } علـيه عن إظهاره، إذ كان قد جرى قبل ذلك من الكلام نظيره، وهو: فمن ظلـم من الـخـلق. وأما الذين ذكرنا قولهم من أهل العربـية، فقد قالوا علـى مذهب العربـية، غير أنهم أغفلوا معنى الكلـمة وحملوها علـى غير وجهها من التأويـل. وإنـما ينبغي أن يحمل الكلام علـى وجهه من التأويـل، ويـلتـمس له علـى ذلك الوجه للإعراب فـي الصحة مخرج لا علـى إحالة الكلـمة عن معناها ووجهها الصحيح من التأويـل.

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 07:01
وقال آخرون: بل معناه: فهم يتقدمون.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان عن معمر، قال: قال الـحسن: { يُوزَعُونَ } يتقدمون.

قال أبو جعفر: وأولـى هذه الأقوال بـالصواب قول من قال: معناه: يردّ أوّلهم علـى آخرهم وذلك أن الوازع فـي كلام العرب هو الكافّ، يقال منه: وزع فلان فلاناً عن الظلـم: إذا كفَّه عنه، كما قال الشاعر:
ألَـمْ يَزَعِ الهَوَى إذْ لَـمْ يُؤَاتِ بَلـى وَسَلَوْتُ عَنْ طَلَب الفَتاةِ
وقال آخر:
عَلـى حِينَ عاتَبْتُ الـمَشيبَ عَلـى الصّبـا وقُلْتُ ألَـمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ
وإنـما قـيـل للذين يدفعون الناس عن الولاة والأمراء وزعة: لكفهم إياهم عنه.

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 07:11
فقد اختلف عبد الله بن سلام والقائلون بقوله ووهب بن منبه، فقال عبد الله: كان سبب تفقده الهدهد وسؤاله عنه لـيستـخبره عن بُعد الـماء فـي الوادي الذي نزل به فـي مسيره. وقال وهب بن منبه: كان تفقده إياه وسؤاله عنه لإخلاله بـالنوبة التـي كان ينوبها والله أعلـم بأيّ ذلك كان إذ لـم يأتنا بأيّ ذلك كان تنزيـل، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح.

فـالصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله أخبر عن سلـيـمان أنه تفقد الطير، إما للنوبة التـي كانت علـيها وأخـلت بها، وإما لـحاجة كانت إلـيها عن بُعد الـماء....

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 07:25
اختلف القرّاء، فـي قراءة قوله { ألاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ } فقرأ بعض الـمكيـين وبعض الـمدنـيـين والكوفـيـين «ألاَ» بـالتـخفـيف، بـمعنى: ألا يا هؤلاء اسجدوا، فأضمروا «هؤلاء» اكتفـاء بدلاة «يا» علـيها. وذكر بعضهم سماعا من العرب: ألا يا ارحمنا، ألا يا تصدّق علـينا واستشهد أيضا ببـيت الأخطل:
ألا يا اسْلَـمي يا هِنْدُ هنْدَ نَبِـي بَدرِ وَإنْ كانَ حَيَّانا عِدا آخِرَ الدَّهْرِ
فعلـى هذه القراءة اسجدوا فـي هذا الـموضع جزم، ولا موضع لقوله «ألا» فـي الإعراب. وقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة والكوفة والبصرة { ألاَّ يَسْجُدوا } بتشديد ألاَّ، بـمعنى: وزيَّن لهم الشيطان أعمالهم لئلا يسجدوا لله «ألاَّ» فـي موضع نصب لـما ذكرت من معناه أنه لئلا، ويسجدوا فـي موضع نصب بأن.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار قد قرأ بكلّ واحدة منهما علـماء من القرّاء مع صحة معنـيـيهما....

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 07:30
فـاختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك فقال بعضهم: معناه: اذهب بكتابـي هذا، فألقه إلـيهم، فـانظر ماذا يَرْجِعون، ثم تولّ عنهم منصرفـاً إلـيّ، فقال: هو من الـمؤخَّر الذي معناه التقديـم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: فأجابه سلـيـمان، يعنـي أجاب الهدهد لَـمّا فرغ: { قالَ سَنَنْظُرُ أصَدَقْتَ أمْ كُنْتَ مِنَ الكاذِبِـينَ. اذْهَبْ بكِتابِـي هَذَا فَألْقِهْ إلَـيْهِمْ } وانظر ماذا يرجعون، ثم تولّ عنهم منصرفـاً إلـيّ. وقال: وكانت لها كَوّة مستقبلةُ الشمس، ساعة تطلع الشمس تطلع فـيها فتسجد لها، فجاء الهدهد حتـى وقع فـيها فسدّها، واستبطأت الشمس، فقامت تنظر، فرمى بـالصحيفة إلـيها من تـحت جناحه، وطار حتـى قامت تنظر الشمس.

قال أبو جعفر: فهذا القول من قول ابن زيد يدلّ علـى أن الهدهد تولـى إلـى سلـيـمان راجعاً، بعد إلقائه الكتاب، وأن نظره إلـى الـمرأة ما الذي ترجع وتفعل كان قبل إلقائه كتاب سلـيـمان إلـيها.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: اذهب بكتابـي هذا فألقه إلـيهم، ثم تولّ عنهم، فكن قريبـاً منهم، وانظر ماذا يرجعون قالوا: وفعل الهدهد، وسمع مراجعة الـمرأة أهل مـملكتها، وقولها لهم:
{ إنّـي أُلْقِـيَ إلـيَّ كِتابٌ كَرِيـمٌ، إنَّهُ مِنْ سُلَـيْـمانَ، وَإنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيـمِ }
وما بعد ذلك من مراجعة بعضهم بعضاً.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلـم، عن وهب بن منبه، قوله: { فَأَلْقِهْ إلَـيْهمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ }: أي كن قريبـاً { فـانْظُرْ ماذَا يَرْجِعُونَ }. وهذا القول أشبه. بتأويـل الآية، لأن مراجعة الـمرأة قومها، كانت بعد أن ألقـي إلـيها الكتاب، ولـم يكن الهدهد لـينصرف وقد أُمر بأن ينظر إلـى مراجعة القوم بـينهم ما يتراجعونه قبل أن يفعل ما أمره به سليمان.

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 07:53
وقال آخرون: بل فعل ذلك سلـيـمان لـيعاتبها به، ويختبر به عقلها، هل تثبته إذا رأته، أم تنكره؟ ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: أعلـم الله سلـيـمان أنها متأتـيه، فقال: { أيُّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ } حتـى يعاتبها، وكانت الـملوك يتعاتبون بـالعلـم.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله { قَبْلَ أن يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ } فقال بعضهم: معناه: قبل أن يأتونـي مستسلـمين طوعاً.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله { وقبْل أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ } يقول: طائعين.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: قبل أن يأتونـي مسلـمين الإسلام الذي هو دين الله.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، قال: قال ابن جُرَيج { أيُّكُمْ يَأْتِـينِـي بِعَرْشِها قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ } بحرمة الإسلام فـيـمنعهم وأموالهم، يعنـي الإسلام يـمنعهم.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال بـالصواب فـي السبب الذي من أجله خصّ سلـيـمان بسؤاله الـملأ من جنده بإحضاره عرش هذه الـمرأة دون سائر ملكها عندنا، لـيجعل ذلك حجة علـيها فـي نبوّته، ويعرّفها بذلك قُدرة الله وعظيـم شأنه، أنها خـلَّفته فـي بـيت فـي جوف أبـيات، بعضها فـي جوف بعض، مغلق مقـفل علـيها، فأخرجه الله من ذلك كله، بغير فتـح أغلاق وأقـفـال، حتـى أوصله إلـى وَلِـيِّة من خـلقه، وسلـمه إلـيه، فكان لها فـي ذلك أعظم حجة، علـى حقـيقة ما دعا لها إلـيه سلـيـمان، وعلـى صدق سلـيـمان فـيـما أعلـمها من نبوّته...

فأما الذي هو أولـى التأويـلـين فـي قوله { قَبْلَ أنْ يَأْتُونِـي مُسْلِـمِينَ } بتأويـله، فقول ابن عبـاس الذي ذكرناه قبل، من أن معناه طائعين، لأن الـمرأة لـم تأت سلـيـمان إذ أتته مسلـمة، وإنـما أسلـمت بعد مقدمها علـيه وبعد مـحاورة جرت بـينهما ومساءلة.)...

قال أبو جعفر: وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: قبل أن يرجع إلـيك طرفك من أقصى أثره، وذلك أن معنى قوله { يَرَتَدَّ إلَـيْكَ } يرجع إلـيك البصر، إذا فتـحت العين غير راجع، بل إنـما يـمتدّ ماضيا إلـى أن يتناهى ما امتدّ نوره. فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله إنـما أخبرنا عن قائل ذلك { أنا آتِـيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ } لـم يكن لنا أن نقول: أنا آتـيك به قبل أن يرتدّ راجعاً { إلَـيْكَ طَرْفُكَ } من عند منتهاه....

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 08:02
حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد { وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دونِ اللَّهِ } قال: كفرها بقضاء الله، صدها أن تهتدي للـحق.

ولو قـيـل: معنى ذلك: وصدّها سلـيـمان ما كانت تعبد من دون الله، بـمعنى: منعها وحال بـينها وبـينه، كان وجهاً حسناً. ولو قـيـل أيضاً: وصدّها الله ذلك بتوفـيقها للإسلام، كان أيضاً وجهاً صحيحاً....

وقوله: { إنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ } يقول: إن هذه الـمرأة كانت كافرة من قوم كافرين. وكسرت الألف من قوله «إنها» علـى الابتداء. ومن تأول قوله: { وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ } التأويـل الذي تأولنا، كانت «ما» من قوله { ما كانَتْ تَعْبُدُ } فـي موضع رفع بـالصد، لأن الـمعنى فـيه لـم يصدها عن عبـادة الله جهلها، وأنها لا تعقل، إنـما صدها عن عبـادة الله عبـادتها الشمس والقمر، وكان ذلك من دين قومها وآبـائها، فـاتبعت فـيه آثارهم. ومن تأوله علـى الوجهين الآخرين كانت «ما» فـي موضع نصب.

اسامة محمد خيري
02-03-2017, 08:05
وقـيـل: إن سلـيـمان إنـما أمر ببناء الصرح علـى ما وصفه الله، لأن الـجنّ خافت من سلـيـمان أن يتزوّجها، فأرادوا أن يزهدوه فـيها، فقالوا: إن رجلها رجل حمار، وإن أمها كانت من الـجنّ، فأراد سلـيـمان أن يعلـم حقـيقة ما أخبرته الـجنّ من ذلك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن كعب القرظيّ، قال: قالت الـجنّ لسلـيـمان تزهِّدهِ فـي بِلقـيس: إن رجلها رجل حمار، وإن أمها كانت من الـجنّ فأمر سلـيـمان بـالصرح، فعُمل، فسجن فـيه دواب البحر: الـحِيتان، والضفـادع فلـما بصرت بـالصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابـاً يقتلنـي به إلا الغرق { فَحَسِبَتْهُ لُـجَّةً وكَشَفَتْ عَنْ ساقَـيْها } قال: فإذا (هي) أحسن الناس ساقاً وقدماً. قال: فضنّ سلـيـمان بساقها عن الـموسى، قال: فـاتُّـخذت النُّورة بذلك السبب.

وجائز عندي أن يكون سلـيـمان أمر بـاتـخاذ الصرح للأمرين الذي قاله وهب، والذي قاله مـحمد بن كعب القرضيّ، لـيختبر عقلها، وينظر إلـى ساقها وقدمها، لـيعرف صحة ما قـيـل له فـيها.

اسامة محمد خيري
03-03-2017, 04:50
ويتوجه قوله { تَقاسَمُوا بـالله } إلـى وجهين: أحدهما النصب علـى وجه الـخبر، كأنه قـيـل: قالوا متقاسمين. وقد ذُكر أن ذلك فـي قراءة عبد الله: «وَلا يُصْلِـحُونَ تَقاسَمُوا بـاللَّهِ» ولـيس فـيها «قالوا»، فذلك من قراءته يدلّ علـى وجه النصب فـي «تقاسموا» علـى ما وصفت. والوجه الآخر: الـجزم، كأنهم قال بعضهم لبعض: اقسموا بـالله، فعلـى هذا الوجه الثانـي تصلـح قراءة { لَنُبَـيِّتَنَّهُ } بـالـياء والنون، لأن القائل لهم تقاسموا، وإن كان هو الآمر فهو فـيـمن أقسم، كما يقال فـي الكلام: انهضوا بنا نـمض إلـى فلان، وانهضوا نـمضي إلـيه.

وعلـى الوجه الأوّل الذي هو وجه النصب القراءة فـيه بـالنون أفصح، لأن معناه: قالوا متقاسمين لنُبـيِّتنَّهُ، وقد تـجوز الـياء علـى هذا الوجه كما يقال فـي الكلام: قالوا لنكرمنّ أبـاك، ولـيكرمنّ أبـاك، وبـالنون قرأ ذلك قرَّاء الـمدينة، وعامة قرّاء البصرة وبعض الكوفـيـين. وأما الأغلب علـى قرّاء أهل الكوفة، فقراءته بـالـياء، وضمّ التاء جميعاً. وأما بعض الـمكيـين، فقرأه بـالـياء.

وأعجب القراءات فـي ذلك إلـيّ النون، لأن ذلك أفصح الكلام علـى الوجهين اللذين بـيَّنت من النصب والـجزم، وإن كان كل ذلك صحيحاً غير فـاسد لـما وصفت. وأكرهها إلـيّ القراءة بها الـياء، لقلة قارىء ذلك كذلك. وقوله: { لَنُبَـيِّتَنَّهُ } قال: لـيُبَـيِّتُنَّ صالـحا ثم يفتكوا به.

اسامة محمد خيري
03-03-2017, 05:03
والصواب من القراءات عندنا فـي ذلك القراءتان اللتان ذكرت إحداهما عن قَرأَة أهل مكة والبصرة، وهي «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ» بسكون لام بل وفتـح ألف أدرك وتـخفـيف دالها، والأخرى منهما عن قرأة الكوفة، وهي { بَلِ ادَّارَكَ } بكسر اللام وتشديد الدال من أدّارك، لأنهما القراءتان الـمعروفتان فـي قرّاء الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب عندنا. فأما القراءة التـي ذُكرت عن ابن عبـاس، فإنها وإن كانت صحيحة الـمعنى والإعراب، فخلاف لـما علـيه مصاحف الـمسلـمين، وذلك أن فـي بلـى زيادة ياء فـي قراءته لـيست فـي الـمصاحف، وهي مع ذلك قراءة لا نعلـمها قرأ بها أحد من قرّاء الأمصار. وأما القراءة التـي ذكرت عن ابن مـحيصن، فإن الذي قال فـيها أبو عمرو قول صحيح، لأن العرب تـحقق ببل ما بعدها لا تنفـيه. والاستفهام فـي هذا الـموضع إنكار لا إثبـات، وذلك أن الله قد أخبر عن الـمشركين أنهم من الساعة فـي شكّ، فقال: { بَلْ هُمْ فِـي شَكّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ }.

واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل ذلك، فقال بعضهم: معناه: بل أدرك علـمهم فـي الآخرة فأيقنوها إذ عاينوها حين لـم ينفعهم يقـينهم بها، إذ كانوا بها فـي الدنـيا مكذّبـين.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ» قال: بصرهم فـي الآخرة حين لـم ينفعهم العلـم والبصر.

وقال آخرون: بل معناه: بل غاب علـمهم فـي الآخرة.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ فِـي الآخِرَةِ» يقول: غاب علـمهم.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { بَلِ ادَّرَكَ عِلْـمُهُمْ فِـي الآخِرَةِ } قال: يقول: ضلّ علـمهم فـي الآخرة فلـيس لهم فـيها علـم، { هُمْ مِنْهَا عَمُونَ }.

وقال آخرون: معنى ذلك: لـم يبلغ لهم فـيها علـم.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي عبد الوارث بن عبد الصمد، قال: ثنـي أبـي، عن جدي، قال: ثنا الـحسين، عن قتَادة فـي قوله: { بَلِ ادَّارَكَ عِلْـمُهُمْ فِـي الآخِرَةِ } قال: كان يقرؤها: «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ فِـي الآخِرَةِ» قال: لـم يبلغ لهم فـيها علـم، ولا يصل إلـيها منهم رغبة.

وقال آخرون: معنى ذلك: بل أدْرَكَ: أم أدرك.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ» قال: أم أدرك.

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عثمان، عن مـجاهد «بَلْ أدْرَكَ عِلْـمُهُمْ» قال: أم أدرك علـمهم من أين يدرك علـمهم.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا حجاج، عن ابن جُرَيج، عن مـجاهد، بنـحوه.

قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب علـى قراءة من قرأ «بَلْ أدْرَكَ» القول الذي ذكرناه عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس، وهو أن معناه: إذا قرىء كذلك { وَما يَشْعُرُونَ أيَّانَ يُبْعَثُونَ } بل أدرك علـمهم نفس وقت ذلك فـي الآخرة حين يبعثون، فلا ينفعهم علـمهم به حينئذٍ، فأما فـي الدنـيا فإنهم منها فـي شكّ، بل هم منها عمون.

وإنـما قلت: هذا القول أولـى الأقوال فـي تأويـل ذلك بـالصواب علـى القراءة التـي ذُكِرَتْ، لأن ذلك أظهر معانـيه. وإذ كان ذلك معناه كان فـي الكلام مـحذوف قد استُغنـي بدلالة ما ظهر منه عنه. وذلك أن معنى الكلام: وما يشعرون أيان يُبعثون، بل يشعرون ذلك فـي الآخرة، فـالكلام إذا كان ذلك معناه، وما يشعرون أبـان يبعثون، بل أدرك علـمهم بذلك فـي الآخرة، بل هم فـي الدنـيا فـي شكّ منها. وأما علـى قراءة من قرأه { بَلِ ادَّارَكَ } بكسر اللام وتشديد الدال، فـالقول الذي ذكرنا عن مـجاهد، وهو أن يكون معنى بل: أم، والعرب تضع أم موضع بل، وموضع بل: أم، إذا كان فـي أوّل الكلام استفهام، كما قال الشاعر:
فَوَاللّهِ ما أدْرِي أسَلْـمَى تَغَوَّلَت أمِ النَّوْمُ أمْ كُلٌّ إلـيَّ حَبِـيبُ
يعنـي بذلك بل كلّ إلـيَّ حبـيب، فـيكون تأويـل الكلام: وما يشعرون أيان يبعثون، بل تدارك علـمهم فـي الآخرة: يعنـي تتابع علـمهم فـي الآخرة: أي بعلـم الآخرة: أي لـم يتتابع بذلك ولـم يعلـموه، بل غاب علـمهم عنه، وضلّ فلـم يبلغوه ولـم يدركوه.

اسامة محمد خيري
03-03-2017, 05:16
واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { تُكَلِّـمُهُمْ } فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار: { تُكلِّـمُهُمْ } بضمُ التاء وتشديد اللام، بـمعنى تـخبرهم وتـحدثهم، وقرأه أبو زرعة بن عمرو: «تَكْلِـمُهُمْ» بفتـح التاء وتـخفـيف اللام بـمعنى: تسمهم.

والقراءة التـي لا أستـجيز غيرها فـي ذلك ما علـيه قرّاء الأمصار. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك، قال أهل التأويـل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله: { أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأرْضِ تُكَلِّـمُهُمْ } قال: تـحدثهم.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: { أخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنْ الأَرْضِ تُكَلِّـمُهُمْ } وهي فـي بعض القراءة «تـحدثهم» تقول لهم: { أَنَّ النَّاس كَانُوا بِآياتِنَا لاَ يُوقِنُونَ }.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس، فـي قوله: { تُكَلِّـمُهُمْ } قال: كلامها تنبئهم { أنَّ النَّاس كانُوا بِآياتِنَا لاَ يُوقِنُونَ }.

وقوله: { أنَّ النَّاسَ كانُوا بآياتِنا لا يُوقِنُونَ } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـحجاز والبصرة والشام: «إنَّ النَّاسَ» بكسر الألف من «إن» علـى وجه الابتداء بـالـخبر عن الناس أنهم كانوا بآيات الله لا يوقنون وهي وإن كسرت فـي قراءة هؤلاء فإن الكلام لها متناول. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفة وبعض أهل البصرة: { أنَّ النَّاسَ كانُوا } بفتـح أن بـمعنى: تكلـمهم بأن الناس، فـيكون حينئذٍ نصب بوقوع الكلام علـيها.

والصواب من القول فـي ذلك أنهما قراءتان متقاربتا الـمعنى مستفـيضتان فـي قراءة الأمصار، فبأيتهما قرأ القارىء فمصيب.

اسامة محمد خيري
03-03-2017, 05:23
وقوله: { إلا مَنْ شاءَ الله } قـيـل: إن الذين استثناهم الله فـي هذا الـموضع من أن ينالهم الفزع يومئذٍ الشهداء، وذلك أنهم أحياء عند ربهم يُرزقون، وإن كانوا فـي عداد الـموتـى عند أهل الدنـيا، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرناه فـي الـخبر الـماضي.

اسامة محمد خيري
04-03-2017, 04:55
سورة القصص

وقوله: { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } اختلف أهل التأويـل فـي تأويـله، فقال بعضهم: معنى ذلك: وهم لا يشعرون هلاكهم علـى يده.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } قال: وهم لا يشعرون أن هلكتهم علـى يديه، وفـي زمانه.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي سفـيان، عن معمر، عن قَتادة { أوْ نَتَّـخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } قال: إن هلاكهم علـى يديه.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } قال: آل فرعون إنه لهم عدوّ.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } بـما هو كائن من أمرهم وأمره.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: قالت امرأة فرعون آسية: { لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّـخِذَهُ وَلَدا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } يقول الله: وهم لا يشعرون أي بـما هو كائن بـما أراد الله به.

وقال آخرون: بل معنى قوله { وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } بنو إسرائيـل لا يشعرون أنَّا التقطناه.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن أبـي معشر، عن مـحمد بن قـيس { لا تقتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعنا أوْ نَتَّـخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ } قال: يقول: لا تدري بنو إسرائيـل أنَّا التقطناه.

والصواب من القول فـي ذلك، قول من قال: معنى ذلك: وفرعون وآله لا يشعرون بـما هو كائن من هلاكهم علـى يديه.

وإنـما قلنا ذلك أولـى التأويلات به لأنه عُقَـيب قوله: { وَقالَتِ امْرأةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لـي ولَكَ، لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أنْ يَنْفَعَنا أوْ نَتَّـخِذَهُ وَلَداً } وإذا كان ذلك عقبه، فهو بأن يكون بـياناً عن القول الذي هو عقبه أحقّ من أن يكون بـياناً عن غيره.

اسامة محمد خيري
04-03-2017, 05:01
قال أبو جعفر: وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب عندي قول من قال: معناه: { وَأصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فـارِغاً } من كلّ شيء إلاَّ من همّ موسى.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى الأقوال فـيه بـالصواب لدلالة قوله: { إنْ كادَتْ لَتُبْدِى بِهِ لَوْلا أنْ رَبَطْنا عَلـى قَلْبِها } ولو كان عَنَى بذلك: فراغ قلبها من الوحي لـم يعقب بقوله: { إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } لأنها إن كانت قاربت أن تبدي الوحي، فلـم تكد أن تبديه إلا لكثرة ذكرها إياه، وولوعها به، ومـحال أن تكون به ولعة إلا وهي ذاكرة. وإذا كان ذلك كذلك بطل القول بأنها كانت فـارغة القلب مـما أوحى إلـيها. وأخرى أن الله تعالـى ذكره أخبر عنها أنها أصبحت فـارغة القلب، ولـم يخصص فراغ قلبها من شيء دون شيء، فذلك علـى العموم إلا ما قامت حجته أن قلبها لـم يفرغ منه. وقد ذُكر عن فضالة بن عبـيد أنه كان يقرؤه: «وأصْبَحَ فُؤَادُ أُمّ مُوسَى فـازِعاً» من الفزع.

وقوله: { إنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } اختلف أهل التأويـل فـي الـمعنى الذي عادت علـيه الهاء فـي قوله: بِهِ فقال بعضهم: هي من ذكر موسى، وعلـيه عادت...

والصواب من القول فـي ذلك ما قاله الذين ذكرنا قولهم أنهم قالوا: إن كادت لتقول: يا بنـياه، لإجماع الـحجة من أهل التأويـل علـى ذلك، وأنه عقـيب قوله: { وأصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسَى فـارِغاً } فلأن يكون لو لـم يكن مـمن ذكرنا فـي ذلك إجماع علـى ذلك من ذكر موسى، لقربه منه، أشبه من أن يكون من ذكر الوحي.

وقال بعضهم: بل معنى ذلك { إنْ كادَتْ لَتُبْدِي } بـموسى فتقول: هو ابنـي. قال: وذلك أن صدرها ضاق إذ نُسب إلـى فرعون، وقـيـل ابن فرعون. وعنى بقوله { لِتُبْدِي بِهِ } لتظهره وتـخبر به. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل.

اسامة محمد خيري
04-03-2017, 05:17
حدثنـي العبـاس، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا أصبغ بن زيد، قال: ثنا القاسم، قال: ثنا سعيد بن جُبَـير، عن ابن عبـاس، قال: أتِـي فرعون، فقـيـل له: إن بنـي إسرائيـل قد قتلوا رجلاً من آل فرعون، فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم فـي ذلك، قال: ابغونـي قاتله ومن يشهد علـيه، لا يستقـيـم أن نقضي بغير بـينة ولا ثَبَتَ فـاطَّلبوا ذلك، فبـينـما هم يطوفون لا يجدون شيئاً، إذ مرّ موسى من الغد، فرأى ذلك الإسرائيـلـي يقاتل فرعونـيا، فـاستغاثه الإسرائيـلـي علـى الفرعونـيّ، فصادف موسى وقد ندم علـى ما كان منه بـالأمس، وكره الذي رأى، فغضب موسى، فمدّ يده وهو يريد أن يبطش بـالفرعونـيّ، فقال للإسرائيـلـي لِـما فعل بـالأمس والـيوم { إنَّكَ لَغَوِيّ مُبِـينٌ } ، فنظر الإسرائيـلـي إلـى موسى بعد ما قال هذا، فإذا هو غضبـان كغضبه بـالأمس إذ قتل فـيه الفرعونـيّ، فخاف أن يكون بعد ما قال له: { إنَّكَ لَغَوِيّ مُبِـينٌ } إياه أراد، ولـم يكن أراده، إنـما أراد الفرعونـيّ، فخاف الإسرائيـلـي فحاجه، فقال
{ يا مُوسَى أَتُرِيدُ أنْ تَقْتُلَنِـي كمَا قَتَلْتَ نَفْساً بـالأَمْسِ؟ إنّ تُرِيدُ إلا أنْ تكُونَ جَبَّـاراً فِـي الأرْضِ }

وإنـما قال ذلك مخافة أن يكون إياه أراد موسى لـيقتله، فتتاركا

اسامة محمد خيري
04-03-2017, 05:30
وقال آخرون: بل معنى ذلك: تذودان الناس عن غنـمهما.

ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَلَـما وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَـيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمْ امْرأتَـيْنِ تَذُودانِ } قال: أي حابستـين شاءهما تذودان الناس عن شأنهما.

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، عن أصحابه { تَذُودانِ } قال: تذودان الناس عن غنـمهما.

وأولـى التأويـلـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال معناه: تـحبسان غنـمهما عن الناس حتـى يفرغوا من سقـي مواشيهم.

وإنـما قلنا ذلك أولـى بـالصواب لدلالة قوله: { ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقـي حتـى يُصْدِرَ الرِّعاءُ } علـى أن ذلك كذلك، وذلك أنهما شكتا أنهما لا تسقـيان حتـى يصدر الرعاء، إذ سألهما موسى عن ذَوْدِهما، ولو كانتا تذودان عن غنـمهما الناس، كان لا شكّ أنهما كانتا تـخبران عن سبب ذودهما عنها الناس، لا عن سبب تأخر سقـيهما إلـى أن يُصْدِر الرعاء...

اسامة محمد خيري
05-03-2017, 05:05
قال أبو جعفر: وأولـى القراءتـين فـي ذلك عندك بـالصواب، قراءة من قرأه { قالُوا سِحْرَانِ تَظاهَرَا } بـمعنى: كتاب موسى وهو التوراة، وكتاب عيسى وهو الإنـجيـل.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى القراءتـين بـالصواب، لأن الكلام من قبله جرى بذكر الكتاب، وهو قوله: { وَقالُوا لَوْلا أُوتِـيَ مثْلَ ما أُوتِـيَ مُوسَى } والذي يـلـيه من بعده ذكر الكتاب، وهو قوله:

{ فَأْتُوا بكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللّهِ هُوَ أهْدَى مِنْهُما أتَّبِعْهُ }
فـالذي بـينهما بأن يكون من ذكره أولـى وأشبه بأن يكون من ذكر غيره. وإذ كان ذلك هو الأولـى بـالقراءة، فمعلوم أن معنى الكلام: قل يا مـحمد: أَوَ لـم يكفر هؤلاء الـيهود بـما أوتـي موسى من قبل، وقالوا لـما أوتـي موسى من الكتاب وما أوتـيته أنت، سحران تعاونا

اسامة محمد خيري
06-03-2017, 04:43
يقول تعالـى ذكره: { وَرَبُّكَ } يا مـحمد { يَخْـلُقُ ما يَشاءُ } أن يخـلقه، { ويَخْتارُ } لولايته الـخِيَرة من خـلقه، ومن سبقت له منه السعادة. وإنـما قال جلّ ثناؤه { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } والـمعنى: ما وصفت، لأن الـمشركين كانوا فـيـما ذُكِر عنهم يختارون أموالَهم، فـيجعلونها لآلهتهم، فقال الله لنبـيه مـحمد صلى الله عليه وسلم: وربك يا مـحمد يخـلق ما يشاء أن يخـلقه، ويختار للهداية والإيـمان والعمل الصالـح من خـلقه، ما هو فـي سابق علـمه أنه خِيَرَتهم، نظير ما كان من هؤلاء الـمشركين لآلهتهم خيار أموالهم، فكذلك اختـياري لنفسي. واجتبـائي لولايتـي، واصطفـائي لـخدمتـي وطاعتـي، خيارَ مـملكتـي وخـلقـي. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنِـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله: { وَرَبُّكَ يَخْـلُقُ ما يَشاءُ ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } قال: كانوا يجعلون خَيْر أموالهم لآلهتهم فـي الـجاهلـية.

فإذا كان معنى ذلك كذلك، فلا شكّ أن «ما» من قوله: { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } فـي موضع نصب، بوقوع يختار علـيها، وأنها بـمعنى الذي.

فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت، من أن «ما» اسم منصوب بوقوع قوله { يَخْتارُ } علـيها، فأين خبر كان؟ فقد علـمت أن ذلك إذا كان كما قلت، أن فـي كان ذِكْراً من ما، ولا بدّ لكان إذا كان كذلك من تـمام، وأين التـمام؟ قـيـل: إن العرب تـجعل لـحروف الصفـات إذا جاءت الأخبـار بعدها أحياناً، أخبـاراً، كفعلها بـالأسماء إذا جاءت بعدها أخبـارها. ذَكر الفرّاء أن القاسمَ بن مَعْن أنشده قول عنترة:
أمِنْ سُمَيَّةَ دَمْعُ العَيْنِ تَذْرِيفُ لَوْ كانَ ذا مِنْكِ قبلَ الـيوْمِ مَعْرُوفُ
فرفع معروفـا بحرف الصفة، وهو لا شكّ خبر لذا، وذُكر أن الـمفَضَّل أنشده ذلك:
لوْ أنَّ ذا مِنْكِ قبلَ الـيَوْمِ مَعْرُوفُ
ومنه أيضا قول عمر بن أبـي ربـيعة:
قُلْتُ أجِيبِـي عاشِقا بِحُبِّكُمْ مُكَلَّفُ
فِـيها ثَلاث كالدُّمَى وكاعِبٌ ومُسْلِفُ
فمكلَّف من نعت عاشق، وقد رفعه بحرف الصفة، وهو البـاء، فـي أشبـاه لـما ذكرنا بكثـير من الشواهد، فكذلك قوله: { ويَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الـخِيرَةُ } رُفعت الـخِيَرة بـالصفة، وهي لهم، وإن كانت خبراً لـما، لـما جاءت بعد الصفة، ووقعت الصفة موقع الـخبر، فصار كقول القائل: كان عمرو أبوه قائم، لا شكّ أن قائماً لو كان مكان الأب، وكان الأب هو الـمتأخر بعده، كان منصوبـاً، فكذلك وجه رفع الـخِيَرة، وهو خبر لـما.

فإن قال قائل: فهل يجوز أن تكون «ما» فـي هذا الـموضع جَحْداً، ويكون معنى الكلام: وربك يخـلق ما يشاء أن يخـلقه، ويختار ما يشاء أن يختاره، فـيكون قوله { ويخْتارُ } نهاية الـخبر عن الـخـلق والاختـيار، ثم يكون الكلام بعد ذلك مبتدأ بـمعنى: لـم تكن لهم الـخيرة: أي لـم يكن للـخـلق الـخِيَرة، وإنـما الـخِيَرة لله وحده؟

قـيـل: هذا قول لا يخفـى فساده علـى ذي حِجا، من وجوه، لو لـم يكن بخلافه لأهل التأويـل قول، فكيف والتأويـل عمن ذكرنا بخلافه فأما أحد وجوه فَساده، فهو أن قوله: { ما كانَ لَهُمُ الـخيرَةُ } لو كان كما ظنه من ظنه، من أن «ما» بـمعنى الـجحد، علـى نـحو التأويـل الذي ذكرت، كان إنـما جحد تعالـى ذكره، أن تكون لهم الـخِيَرة فـيـما مضى قبل نزول هذه الآية، فأما فـيـما يستقبلونه فلهم الـخِيَرة، لأن قول القائل: ما كان لك هذا، لا شكّ إنـما هو خبر عن أنه لـم يكن له ذلك فـيـما مضى.

وقد يجوز أن يكون له فـيـما يستقبل، وذلك من الكلام لا شكّ خُـلْف. لأن ما لـم يكن للـخـلق من ذلك قديـماً، فلـيس ذلك لهم أبداً. وبعد، لو أريد ذلك الـمعنى، لكان الكلام: فلـيس. وقـيـل: وربك يخـلق ما يشاء ويختار، لـيس لهم الـخيرة، لـيكون نفـيا عن أن يكون ذلك لهم فـيـما قبلُ وفـيـما بعد.

والثانـي: أن كتاب الله أبـين البـيان، وأوضح الكلام، ومـحال أن يوجد فـيه شيء غير مفهوم الـمعنى، وغير جائز فـي الكلام أن يقال ابتداء: ما كان لفلان الـخِيَرة، ولـما يتقدم قبل ذلك كلام يقتضي ذلك فكذلك قوله: { ويَخْتارُ، ما كانَ لَهُمُ الـخِيَرةُ } ولـم يتقدم قبله من الله تعالـى ذكره خبر عن أحد، أنه ادّعى أنه كان له الـخِيَرة، فـيقال له: ما كان لك الـخِيَرة، وإنـما جرى قبله الـخبر عما هو صائر إلـيه أمر من تاب من شركه، وآمن وعمل صالـحاً، وأتبع ذلك جلّ ثناؤه الـخبر عن سبب إيـمان من آمن وعمل صالـحاً منهم، وأن ذلك إنـما هو لاختـياره إياه للإيـمان، وللسابق من علـمه فـيه اهتدى. ويزيد ما قلنا من ذلك إبـانة قوله:
{ وَرَبُّكَ يَعْلَـمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ }
فأخبر أنه يعلـم من عبـاده السرائر والظواهر، ويصطفـي لنفسه ويختار لطاعته من قد علـم منه السريرة الصالـحة، والعلانـية الرضية.

والثالث: أن معنى الـخيرة فـي هذا الـموضع: إنـما هو الـخيرة، وهو الشيء الذي يختار من البهائم والأنعام والرجال والنساء، يقال منه: أُعطي الـخيرة والـخِيرَة، مثل الطِّيرة والطِّيْرَة، ولـيس بـالاختـيار، وإذا كانت الـخيرة ما وصفنا، فمعلوم أن من أجود الكلام أن يقال: وربك يخـلق ما يشاء، ويختار ما يشاء، لـم يكن لهم خير بهيـمة أو خير طعام، أو خير رجل أو امرأة.

فإن قال: فهل يجوز أن تكون بـمعنى الـمصدر؟ قـيـل: لا، وذلك أنها إذا كانت مصدرا كان معنى الكلام: وربك يخـلق ما يشاء ويختار كون الـخيرة لهم. وإذا كان ذلك معناه، وجب أن لا تكون الشرار لهم من البهائم والأنعام وإذا لـم يكن لهم شرار ذلك وجب أن لا يكون لها مالك، وذلك ما لا يخفـى خطؤه، لأن لـخيارها ولشرارها أربـابـاً يـملكونها بتـملـيك الله إياهم ذلك، وفـي كون ذلك كذلك فساد توجيه ذلك إلـى معنى الـمصدر.

اسامة محمد خيري
06-03-2017, 04:53
وقال آخر منهم فـي قوله: { لَتَنُوءُ بـالعُصْبَةِ }: نَوْءُها بـالعصبة: أن تُثْقلهم وقال: الـمعنى: إن مفـاتـحه لتنـيءُ العصبة: تـميـلهن من ثقلها، فإذا أدخـلت البـاء قلت: تَنُوء بهم، كما قال:
{ آتُونِـي أُفْرِغْ عَلَـيْهِ قِطْرَا }
قال والـمعنى: آتونـي بقطر أفرغ علـيه فإذا حُذفت البـاء، زدت علـى الفعل ألفـاً فـي أوّله ومثله:
{ فأجاءَها الـمَخاضُ }
معناه: فجاء بها الـمخاض وقال: قد قال رجل من أهل العربـية: ما إن العصبة تَنُوء بـمفـاتـحه، فحوّل الفعل إلـى الـمفـاتـح، كما قال الشاعر:
إنَّ سِرَاجا لَكَرِيـمٌ مَفْخَرُهْ تَـحْلَـى بهِ العَيْنُ إذَا ما تَـجْهَرُهْ
وهو الذي يحلَـى بـالعين، قال: فإن كان سمع أثراً بهذا، فهو وجه، وإلاَّ فإن الرجل جهل الـمعنى. قال: وأنشدنـي بعض العرب:
حتـى إذَا ما الْتَأَمَتْ مَوَاصِلُهْ ونَاءَ فِـي شِقّ الشِّمالِ كاهِلُهْ
يعنـي: الرامي لِـما أخذ القوس، ونزع مال علـيها. قال: ونرى أن قول العرب: ما ساءك، وناءك من ذلك، ومعناه: ما ساءك وأناءك من ذلك، إلاَّ أنه ألقـى الألف لأنه متبع لساءك، كما قالت العرب: أكلت طعاماً فهنأنـي ومرأنـي، ومعناه: إذا أفردت: وأمرأنـي فحذفت منه الألف لـما أتبع ما لـيس فـيه ألف.

وهذا القول الآخر فـي تأويـل قوله: { لَتَنُوءُ بـالعُصْبَةِ }: أولـى بـالصواب من الأقوال الأُخَر، لـمعنـيـين: أحدهما: أنه تأويـل موافق لظاهر التنزيـل. والثانـي: أن الآثار التـي ذكرنا عن أهل التأويـل بنـحو هذا الـمعنى جاءت، وأن قول من قال: معنى ذلك: ما إن العصبة لتنوء بـمفـاتـحه، إنـما هو توجيه منهم إلـى أن معناه: ما إن العصبة لتنهض بـمفـاتـحه وإذا وجه إلـى ذلك لـم يكن فـيه من الدلالة علـى أنه أريد به الـخبر عن كثرة كنوزه، علـى نـحو ما فـيه، إذا وجه إلـى أن معناه: إن مفـاتـحه تثقل العصبة وتـميـلها، لأنه قد تنهض العصبة بـالقلـيـل من الـمفـاتـح وبـالكثـير.

وإنـما قصد جلّ ثناؤه الـخبر عن كثرة ذلك، وإذا أريد به الـخبر عن كثرته، كان لا شكّ أن الذي قاله من ذكرنا قوله، من أن معناه: لتنوء العصبة بـمفـاتـحه، قول لا معنى له، هذا مع خلافه تأويـل السلف فـي ذلك.

اسامة محمد خيري
06-03-2017, 04:59
وقـيـل معنى ذلك: ولا يُسأل عن ذنوب هؤلاء الذين أهلكهم الله من الأمـم الـماضية الـمـجرمون فـيـم أهلكوا.

ذكر من قال ذلك:

حدثنـي مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا موسى بن عبـيدة، عن مـحمد بن كعب { وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الـمُـجْرِمُونَ } قال: عن ذنوب الذين مضوا فـيـم أهلكوا، فـالهاء والـميـم فـي قوله { عَنْ ذُنُوبِهِم } علـى هذا التأويـل لـمن الذي فـي قوله: { أوَ لَـمْ يَعْلَـمْ أنَّ اللّهَ قَدْ أهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ القُرُونِ مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً }.

وعلـى التأويـل الأوّل الذي قاله مـجاهد وقَتادة للـمـجرمين، وهي بأن تكون من ذكر الـمـجرمين أولـى، لأن الله تعالـى ذكره غير سائل عن ذنوب مذنب غير من أذنب، لا مؤمن ولا كافر. فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا معنى لـخصوص الـمـجرمين، لو كانت الهاء والـميـم اللتان فـي قوله { عَنْ ذُنُوبِهم } لـمن الذي فـي قوله { مَنْ هُوَ أشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً } من دون الـمؤمنـين، يعنـي لأنه غير مسؤول عن ذلك مؤمن ولا كافر، إلاَّ الذين ركبوه واكتسبوه.

اسامة محمد خيري
06-03-2017, 05:08
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصحة: القول الذي ذكرنا عن قَتادة، من أن معناه: ألـم تَرَ، ألـم تعلَـمْ، للشاهد الذي ذكرنا فـيه من قول الشاعر، والرواية عن العرب وأنّ «ويكأنّ» فـي خطّ الـمصحف حرف واحد. ومتـى وجه ذلك إلـى غير التأويـل الذي ذكرنا عن قَتادة، فإِنه يصير حرفـين، وذلك أنه إن وجه إلـى قول من تأوّله بـمعنى: وَيْـلَك اعلـم أن الله، وجب أن يفصل «وَيْكَ» من «أَنّ»، وذلك خلاف خطّ جميع الـمصاحف، مع فساده فـي العربـية، لـما ذكرنا. وإن وُجِّه إلـى قول من يقول: «وَيْ» بـمعنى التنبـيه، ثم استأنف الكلام بكأن، وجب أن يُفْصَل «وَيْ» من «كأن»، وذلك أيضا خلاف خطوط الـمصاحف كلها.

فإذا كان ذلك حرفـا واحدا، فـالصواب من التأويـل: ما قاله قَتادة، وإذ كان ذلك هو الصواب، فتأويـل الكلام: وأصبح الذين تـمنوا مكان قارون وموضعه من الدنـيا بـالأمس، يقولون لَـمَّا عاينوا ما أحلّ الله به من نقمته، ألـم تر يا هذا أن الله يبسط الرزق لـمن يشاء من عبـاده، فـيُوسِّع علـيه، لا لفضل منزلته عنده، ولا لكرامته علـيه، كما كان بسط من ذلك لقارون، لا لفضله ولا لكرامته علـيه { وَيَقُدِرُ } يقول: ويضيق علـى من يشاء من خـلقه ذلك، ويقتِّر علـيه، لا لهوانه، ولا لسُخْطه عمله.

اسامة محمد خيري
06-03-2017, 05:11
والصواب من القول فـي ذلك عندي: قول من قال: لرادّك إلـى عادتك من الـموت، أو إلـى عادتك حيث وُلدت، وذلك أن الـمعاد فـي هذا الـموضع: الـمَفْعَل من العادة، لـيس من العَوْد، إلاَّ أن يوجِّه مُوَجِّه تأويـل قوله: { لَرَادُّكَ } لـمصيرك، فـيتوجه حينئذٍ قوله { إلـى مَعادٍ } إلـى معنى العود، ويكون تأويـله: إن الذي فرض علـيك القرآن لـمُصَيِّرك إلـى أن تعود إلـى مكة مفتوحة لك.

فإن قال قائل: فهذه الوجوه التـي وصفت فـي ذلك قد فهمناها، فما وجه تأويـل من تأوّله بـمعنى: لرادّك إلـى الـجنة؟ قـيـل: ينبغي أن يكون وجه تأويـله ذلك كذلك علـى هذا الوجه الآخر، وهو لـمصيرك إلـى أن تعود إلـى الـجنة.

فإن قال قائل: أوَ كان أُخرج من الـجنة، فـيقالَ له: نـحن نعيدك إلـيها؟ قـيـل: لذلك وجهان: أحدهما: أنه إن كان أبوه آدم صلّـى الله علـيهما أخرج منها، فكأن ولده بإخراج الله إياه منها، قد أخرجوا منها، فمن دخـلها فكأنـما يُرد إلـيها بعد الـخروج. والثانـي أن يُقال: إنه كان صلى الله عليه وسلم دخـلها لـيـلة أُسرِي به، كما رُوي عنه أنه قال: " دَخَـلْتُ الـجَنَّةَ، فَرأيْتُ فِـيها قَصْراً، فَقُلْتُ لِـمَنْ هَذَا؟ فَقالُوا لعُمَرَ بنِ الـخطَّابِ " ، ونـحو ذلك من الأخبـار التـي رُويت عنه بذلك، ثم رُدّ إلـى الأرض، فـيقال له: إن الذي فرض علـيك القرآن لرادّك لـمصيرك إلـى الـموضع الذي خرجت منه من الـجنة، إلـى أن تعود إلـيه، فذلك إن شاء الله قول من قال ذلك.

اسامة محمد خيري
07-03-2017, 04:58
سورة العنكبوت

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { وَتَـخْـلُقُونَ إفْكاً } الأوثان التـي ينـحِتونها بأيديهم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: وتصنعون كذبـاً. وقد بـيَّنا معنى الـخـلق فـيـما مضى بـما أغنى عن إعادته فـي هذا الـموضع. فتأويـل الكلام إذن: إنـما تعبدون من دون الله أوثاناً، وتصنعون كذبـاً وبـاطلاً. وإنـما فـي قوله: { إفْكاً } مردود علـى إنـما، كقول القائل: إنـما تفعلون كذا، وإنـما تفعلون كذا.

وقرأ جميع قرّاء الأمصار: { وتَـخْـلُقُونَ إفْكاً } بتـخفـيف الـخاء من قوله: { وتَـخْـلُقُونَ } وضمّ اللام: من الـخَـلْق. وذُكر عن أبـي عبد الرحمن السُلـميّ أنه قرأ: { وتُـخَـلِّقونَ إفْكاً } بفتـح الـخاء وتشديد اللام من التـخـلـيق.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا ما علـيه قرّاء الأمصار، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه....

وأما قوله: { وَما أنْتُـمْ بِـمُعْجِزِينَ فِـي الأرْضِ وَلا فِـي السَّماءِ } فإن ابن زيد قال فـي ذلك ما:

حدثنـي يونس، قال: أخبرن ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَما أنْتُـمْ بِـمُعْجِزِينَ فِـي الأرْضِ وَلا فِـي السَّماءِ } قال: لا يُعجزه أهل الأرضين فـي الأرضين ولا أهل السموات فـي السموات إن عصوه، وقرأ:
{ مثقالُ ذَرّةٍ فـي السَّموات ولا فِـي الأرض، وَلا أصْغَرُ مِنْ ذلكَ ولا أكْبَرُ إلاَّ فِـي كِتابٍ مُبِـينٍ }


وقال فـي ذلك بعض أهل العربـية من أهل البصرة: وما أنتـم بـمعجزين من فـي الأرض ولا من فـي السماء مُعْجِزِينَ قال: وهو من غامض العربـية للضمير الذي لـم يظهر فـي الثانـي. قال: ومثله قول حسان بن ثابت:
أمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللّهِ مِنْكُمْ ويَـمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ؟
أراد: ومن ينصره ويـمدحه، فأضمر «مَنْ». قال: وقد يقع فـي وهم السامع أن النصر والـمدح لـمَنْ هذه الظاهرة ومثله فـي الكلام: أكرمْ من أتاك وأتـى أبـاك، وأكرم من أتاك ولـم يأت زيدا. تريد: ومن لـم يأت زيدا، فـيكتفـي بـاختلاف الأفعال من إعادة مَنْ، كأنه قال: أمَن يهجو، ومن يـمدحه، ومن ينصره. ومنه قول الله عزّ وجلّ:
{ وَمَنْ هُوَ مُسْتَـخْفٍ بـاللَّـيْـل وَسارِبٌ بـالنَّهارِ }
وهذا القول أصحّ عندي فـي الـمعنى من القول الآخر، ولو قال قائل: معناه: ولا أنتـم بـمعجزين فـي الأرض، ولا أنتـم لو كنتـم فـي السماء بـمعجزين كان مذهبـاً.

اسامة محمد خيري
07-03-2017, 05:12
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله { وتَأتُونَ فِـي نادِيكُمُ الـمُنْكَرَ } يقول: فـي مـجالسكم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: وتـحذفون فـي مـجالسكم الـمارّة بكم، وتسخَرون منهم لـما ذكرنا من الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 04:38
وقال آخرون: بل هم قوم شعيب. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَمِنْهُمْ مَنْ أخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ } قوم شعيب.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله قد أخبر عن ثمود وقوم شعيب من أهل مدين أنه أهلكهم بـالصيحة فـي كتابه فـي غير هذا الـموضع، ثم قال جلّ ثناؤه لنبـيه صلى الله عليه وسلم: فمن الأمـم التـي أهلكناهم من أرسلنا علـيهم حاصبـاً، ومنهم مَنْ أخذته الصيحة، فلـم يخصُصِ الـخبر بذلك عن بعض مَنْ أخذته الصيحة من الأمـم دون بعض، وكلا الأمتـين أعنـي ثمود ومَدين قد أخذتهم الصَّيحة.

وقوله: { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الأرْضِ }: يعنـي بذلك قارون. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس: { وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الأرْضِ } قارون { وَمِنْهُمْ مَنْ أغْرَقْنا } يعنـي: قوم نوح وفرعون وقومه.

واختلف أهل التأويـل فـي ذلك، فقال بعضهم: عُنـي بذلك: قومُ نوح علـيه السلام. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنـي حجاج، عن ابن جُرَيج، قال: قال ابن عبـاس: { وَمِنْهُمْ مَنْ أغْرَقْنا } قومُ نوح.

وقال آخرون: بل هم قوم فرعون. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَمِنْهُمْ مَنْ أغْرَقْنا } قوم فرعون.

والصواب من القول فـي ذلك، أن يُقال: عُنـي به قوم نوح وفرعونُ وقومه، لأن الله لـم يخصص بذلك إحدى الأمتـين دون الأخرى، وقد كان أهلكهما قبل نزول هذا الـخبر عنهما، فهما مَعْنـيتان به.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 04:42
اختلف القرّاء فـي قراءة قوله: { إنَّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما يدْعُونَ } فقرأته عامة قرّاء الأمصار «تَدْعُونَ» بـالتاء بـمعنى الـخطاب لـمشركي قريش { إنَّ اللّهَ } أيها الناس «يَعْلَـمُ ما تَدْعُونَ إلَـيْهِ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ». وقرأ ذلك أبو عمرو: { إنَّ اللّهَ يَعْلَـمُ ما يَدْعُونَ } بـالـياء بـمعنى الـخبر عن الأمـم، إن الله يعلـم ما يدعو هؤلاء الذين أهلكناهم من الأمـم من دونه من شيء.

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا، قراءة من قرأ بـالتاء، لأن ذلك لو كان خبراً عن الأمـم الذين ذكر الله أنه أهلكهم، لكان الكلام: إن الله يعلـم ما كانوا يدعون، لأن القوم فـي حال نزول هذا الـخبر علـى نبـيّ الله لـم يكونوا موجودين، إذ كانوا قد هلكوا فبـادوا، وإنـما يقال: إن الله يعلـم ما تدعون إذا أريد به الـخبر عن موجودين، لا عمن قد هلك.

فتأويـل الكلام إذ كان الأمر كما وصفنا: إن الله يعلـم أيها القوم حال ما تعبدون من دونه من شيء، وأن ذلك لا ينفعكم ولا يضرّكم، إن أراد الله بكم سوءاً، ولا يغنـي عنكم شيئا وإن مثله فـي قلة غنائه عنكم، مَثَلُ بـيت العنكبوت فـي غنَائه عنها.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 04:48
والصواب من القول فـي ذلك أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والـمنكر، كما قال ابن عبـاس وابن مسعود.

فإن قال قائل: وكيف تنهى الصلاة عن الفحشاء والـمنكر إن لـم يكن معنـياً بها ما يتلـى فـيها؟ قـيـل: تنهى من كان فـيها، فتـحول بـينه وبـين إتـيان الفواحش، لأن شغله بها يقطعه عن الشغل بـالـمنكر، ولذلك قال ابن مسعود: من لـم يطع صلاته لـم يزدد من الله إلاَّ بعداً. وذلك أن طاعته لها إقامته إياها بحدودها، وفـي طاعته لها مزدجر عن الفحشاء والـمنكر.

حدثنا أبو حميد الـحمصي، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، قال: ثنا أرطاة، عن ابن عون، فـي قول الله { إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ والـمُنْكَرِ } قال: إذا كنت فـي صلاة، فأنت فـي معروف، وقد حجزتك عن الفحشاء والـمنكر، والفحشاء: هو الزنا. والـمنكر: معاصي الله. ومن أتـى فـاحشة أو عَصَى الله فـي صلاته بـما يفسد صلاته، فلا شكّ أنه لا صلاة له....

وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللصلاة التـي أتـيت أنت بها، وذكرك الله فـيها أكبر مـما نهتك الصلاة من الفحشاء والـمنكر.

حدثنـي أحمد بن الـمغيرة الـحمصي، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، قال: ثنا أرطاة، عن ابن عون، فـي قول الله { إنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشاءِ وَالـمُنْكَرِ } والذي أنت فـيه من ذكر الله أكبر.

قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل قول من قال: ولذكر الله إياكم أفضل من ذكركم إياه.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 04:54
وأولـى هذه الأقوال بـالصواب، قول من قال: عنى بقوله { إلاَّ الَّذِينَ ظَلـمُوا مِنْهُمْ }: إلاَّ الذين امتنعوا من أداء الـجزية، ونصبوا دونها الـحرب.

فإن قال قائل: أو غير ظالـم من أهل الكتاب، إلاَّ من لـم يؤدّ الـجزية؟ قـيـل: إن جميعهم وإن كانوا لأنفسهم بكفرهم بـالله، وتكذيبهم رسوله مـحمداً صلى الله عليه وسلم، ظَلَـمة، فإنه لـم يعن بقوله { إلاَّ الَّذِينَ ظَلَـمُوا مِنْهُمْ } ظُلْـمَ أنفسهم. وإنـما عنى به: إلاَّ الذين ظلـموا منهم أهل الإيـمان بـالله ورسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم، فإن أولئك جادلوهم بـالقتال.

وإنـما قلنا: ذلك أولـى الأقوال فـيه بـالصواب، لأن الله تعالـى ذكره أذِن للـمؤمنـين بجدال ظلـمة أهل الكتاب بغير الذي هو أحسن، بقوله { إلاَّ الَّذِينَ ظَلـمُوا مِنْهُمْ } فمعلوم إذ كان قد أذن لهم فـي جدالهم، أن الذين لـم يؤذن لهم فـي جدالهم إلاَّ بـالتـي هي أحسن، غير الذين أذن لهم بذلك فـيهم، وأنهم غير الـمؤمن، لأن الـمؤمن منهم غير جائز جداله إلاَّ فـي غير الـحقّ، لأنه إذا جاء بغير الـحقّ، فقد صار فـي معنى الظلـمة فـي الذي خالف فـيه الـحقّ. فإذ كان ذلك كذلك، تبـين أن لا معنى لقول من قال: عنى بقوله { وَلا تُـجادِلُوا أهلَ الكِتابِ } أهل الإيـمان منهم، وكذلك لا معنى لقول من قال: نزلت هذه الآية قبل الأمر بـالقتال، وزعم أنها منسوخة، لأنه لا خبر بذلك يقطع العذر، ولا دلالة علـى صحته من فطرة عقل....

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 05:00
وقال آخرون: عنى بذلك القرآن، وقالوا: معنى الكلام: بل هذا القرآن آيات بـيِّنات فـي صدور الذين أوتوا العلـم من الـمؤمنـين بـمـحمد صلى الله عليه وسلم. ذكر من قال ذلك:

حدثنا القاسم، قال: ثنا الـحسين، قال: ثنا أبو سفـيان، عن معمر، قال: قال الـحسن، فـي قوله: { بَلْ هُوَ آياتٌ بَـيِّناتٌ فِـي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ } القرآن آيات بـينات فـي صدور الذين أوتوا العلـم، يعنـي الـمؤمنـين.

وأولـى القولـين فـي ذلك بـالصواب قول من قال: عنى بذلك: بل العلـم بأنك ما كنت تتلو من قبل هذا الكتاب كتابـاً، ولا تـخطه بـيـمينك، آيات بـينات فـي صدور الذين أوتوا العلـم من أهل الكتاب.

وإنـما قلت ذلك أولـى التأويـلـين بـالآية، لأن قوله: { بَلْ هُوَ آياتٌ بَـيِّناتٌ فِـي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا العِلْـمَ } بـين خبرين من أخبـار الله عن رسوله مـحمد صلى الله عليه وسلم، فهو بأن يكون خبراً عنه أولـى من أن يكون خبراً عن الكتاب الذي قد انقضى الـخبر عنه قبل.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 05:08
وأولـى القولـين بتأويـل الآية قول من قال: معنى ذلك: إن أرضي واسعة، فـاهربوا مـمن منعكم من العمل بطاعتـي لدلالة قوله { فإيَّايَ فـاعْبُدُونِ } علـى ذلك، وأن ذلك هو أظهر معنـيـيه، وذلك أن الأرض إذا وصفها بِسعَة، فـالغالب من وصفه إياها بذلك، أنها لا تضيق جميعها علـى من ضاق علـيه منها موضع، لا أنه وصفها بكثرة الـخير والـخصب.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 05:18
وَلِـيَتَـمَتَّعُوا } اختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الـمدينة والبصرة: { وَلِـيَتَـمَتَّعُوا } بكسر اللام، بـمعنى: وكي يتـمتعوا آتـيناهم ذلك. وقرأ ذلك عامة قرّاء الكوفـيـين: { وَلْـيَتَـمَتَّعُوا } بسكون اللام علـى وجه الوعيد والتوبـيخ: أي اكفروا فإنكم سوف تعلـمون ماذا يَـلْقون من عذاب الله بكفرهم به.

وأولـى القراءتـين عندي فـي ذلك بـالصواب، قراءة من قرأه بسكون اللام علـى وجه التهديد والوعيد، وذلك أن الذين قرءوه بكسر اللام زعموا أنهم إنـما اختاروا كسرها عطفـا بها علـى اللام التـي فـي قوله: { لِـيَكْفُرُوا } ، وأن قوله { لِـيَكْفُرُوا } لـما كان معناه: كي يكفروا كان الصواب فـي قوله { وَلِـيَتَـمَتَّعُوا } أن يكون: وكي يتـمتعوا، إذ كان عطفـاً علـى قوله: لـيكفروا عندهم، ولـيس الذي ذهبوا من ذلك بـمذهب، وذلك لأن لام قوله { لِـيَكْفُرُوا } صلُـحت أن تكون بـمعنى كي، لأنها شرط لقوله: إذا هم يشركون بـالله كي يكفروا بـما آتـيناهم من النعم، ولـيس ذلك كذلك فـي قوله { وَلِـيَتَـمَتَّعُوا } لأن إشراكهم بـالله كان كفراً بنعمته، ولـيس إشراكهم به تـمتعاً بـالدنـيا، وإن كان الإشراك به يسهل لهم سبـيـل التـمتع بها فإذ كان ذلك كذلك فتوجيهه إلـى معنى الوعيد أولـى وأحقّ من توجيهه إلـى معنى: وكي يتـمتعوا. وبعد فقد ذكر أن ذلك فـي قراءة أُبـيّ: «وتَـمَتَّعُوا» وذلك دلـيـل علـى صحة من قرأه بسكون اللام بـمعنى الوعيد.

اسامة محمد خيري
08-03-2017, 05:30
سورة الروم

والصواب من القراءة فـي ذلك عندنا الذي لا يجوز غيره { الـم غُلِبَتِ الرُّومُ } بضم الغين، لإجماع الـحجة من القرّاء علـيه. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويـل الكلام: غلبت فـارس الروم { فِـي أدْنَى الأرْضِ } من أرض الشام إلـى أرض فـارس { وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبهِمْ } يقول: والروم من بعد غلبة فـارس إياهم { سَيَغْلِبُونَ } فـارس { فِـي بِضْعِ سنِـينَ لله الأمْرُ مِنْ قَبْلُ } غلبتهم فـارس { وَمِنْ بَعْدُ } غلبتهم إياها، يقضي فـي خـلقه ما يشاء، ويحكم ما يريد، ويظهر من شاء منهم علـى من أحبّ إظهاره علـيه { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الـمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللّهِ } يقول: ويوم يغلِب الروم فـارس يفرح الـمؤمنون بـالله ورسوله بنصر الله إياهم علـى الـمشركين، ونُصْرة الروم علـى فـارس { يَنْصُرُ } اللّهُ تعالـى ذكره { مَنْ يَشاءُ } من خـلقه، علـى من يشاء، وهو نُصرة الـمؤمنـين علـى الـمشركين ببدر { وَهُوَ العَزِيزُ } يقول: والله الشديد فـي انتقامه من أعدائه، لا يـمنعه من ذلك مانع، ولا يحول بـينه وبـينه حائل { الرَّحِيـمُ } بـمن تاب من خـلقه، وراجع طاعته أن يعذّبه. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل...

وأما قوله: { سَيَغْلِبُونَ } فإن القرّاء أجمعين علـى فتـح الـياء فـيها، والواجب علـى قراءة من قرأ: «الـم غَلَبَتِ الرُّومُ» بفتـح الغين، أن يقرأ قوله: «سَيُغْلَبُونَ» بضم الـياء، فـيكون معناه: وهم من بعد غلبتهم فـارس سيغلبهم الـمسلـمون، حتـى يصحّ معنى الكلام، وإلاَّ لـم يكن للكلام كبـير معنى إن فتـحت الـياء، لأن الـخبر عما قد كان يصير إلـى الـخبر عن أنه سيكون، وذلك إفساد أحد الـخبرين بـالآخر...

اسامة محمد خيري
09-03-2017, 05:00
وقال آخرون: هو علـى الـخصوص، والـمعنى: وله من فـي السموات والأرض من ملك وعبد مؤمن لله مطيع دون غيرهم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { كُلّ لَهُ قانِتُونَ } قال: كلّ له مطيعون. الـمطيع: القانت، قال: ولـيس شيء إلاَّ وهو مطيع، إلاَّ ابن آدم، وكان أحقهم أن يكون أطوعهم لله. وفـي قوله
{ وَقُومُوا لِلّهِ قانِتِـينَ }
قال: هذا فـي الصلاة، لا تتكلـموا فـي الصلاة كما يتكلـم أهل الكتاب فـي الصلاة، قال: وأهل الكتاب يـمشي بعضهم إلـى بعض فـي الصلاة، قال: ويتقابلون فـي الصلاة، فإذا قـيـل لهم فـي ذلك، قالوا: لكي تذهب الشحناء من قلوبنا تسلـم قلوب بعضنا لبعض، فقال الله: وقوموا لله قانتـين لا تزولوا كم يزولون. قانتـين: لا تتكلـموا كما يتكلـمون. قال: فأما ما سوى هذا كله فـي القرآن من القنوت فهو الطاعة، إلاَّ هذه الواحدة.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب القول الذي ذكرناه عن ابن عبـاس، وهو أن كلّ من فـي السموات والأرض من خـلق لله مطيع فـي تصرّفه فـيـما أراد تعالـى ذكره من حياة وموت، وما أشبه ذلك، وإن عصاه فـيـما يكسبه بقوله، وفـيـما له السبـيـل إلـى اختـياره وإيثاره علـى خلافه.

وإنـما قلت: ذلك أولـى بـالصواب فـي تأويـل ذلك، لأن العصاة من خـلقه فـيـما لهم السبـيـل إلـى اكتسابه كثـير عددهم، وقد أخبر تعالـى ذكره عن جميعهم أنهم له قانتون، فغير جائز أن يخبر عمن هو عاص أنه له قانت فـيـما هو له عاص.

وإذا كان ذلك كذلك، فـالذي فـيه عاص هو ما وصفت، والذي هو له قانت ما بـينت....

....

اختلف أهل التأويـل، فـي معنى قوله: { وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } فقال بعضهم: معناه: وهو هين علـيه. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا يحيى بن سعيد العطار، عن سفـيان عمن ذكره، عن منذر الثوريّ، عن الربـيع بن خَيْثم { وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } قال: ما شيء علـيه بعزيز.

حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } يقول: كلّ شيء علـيه هين.

وقال آخرون: معناه: وإعادة الـخـلق بعد فنائهم أهون علـيه من ابتداء خـلقهم. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس، قوله { وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } قال: يقول: أيسر علـيه.

حدثنا مـحمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى وحدثنـي الـحارث، قال: ثنا الـحسن، قال: ثنا ورقاء جميعاً، عن ابن أبـي نـجيح، عن مـجاهد، قوله: { وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } قال: الإعادة أهون علـيه من البداءة، والبداءة علـيه هين.

حدثنـي ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن سماك، عن عكرِمة قرأ هذا الـحرف { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } قال: تعجب الكفـار من إحياء الله الـموتـى، قال: فنزلت هذه الآية { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الـخَـلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ } إعادة الـخـلق أهون علـيه من إبداء الـخـلق.

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنا غندر، عن شعبة، عن سماك، عن عكرمة بنـحوه، إلاَّ أنه قال: إعادة الـخـلق أهون علـيه من ابتدائه.

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله { وَهُوَ أهْوَنُ عَلَـيْهِ }: يقول: إعادته أهون علـيه من بدئه، وكلّ علـى الله هين. وفـي بعض القراءة: وكلّ علـى الله هين.

وقد يحتـمل هذا الكلام وجهين، غير القولـين اللذين ذكرت، وهو أن يكون معناه: وهو الذي يبدأ الـخـلق ثم يعيده، وهو أهون علـى الـخـلق: أي إعادة الشيء أهون علـى الـخـلق من ابتدائه. والذي ذكرنا عن ابن عبـاس فـي الـخبر الذي حدثنـي به ابن سعد، قول أيضاً له وجه....

اسامة محمد خيري
09-03-2017, 05:04
واختلف أهل التأويـل فـي تأويـل قوله: { تَـخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أنْفُسَكُمْ } فقال بعضهم: معنى ذلك: تـخافون هؤلاء الشركاء مـما ملكت أيـمانكم أن يرثوكم أموالكم من بعد وفـاتكم، كما يرث بعضكم بعضاً. ذكر من قال ذلك:

حُدثت عن حجاج، عن ابن جُرَيج، عن عطاء الـخراسانـي، عن ابن عبـاس، قال: فـي الآلهة، وفـيه يقول: تـخافونهم أن يرثوكم كما يرث بعضكم بعضاً.

وقال آخرون: بل معنى ذلك: تـخافون هؤلاء الشركاء مـما ملكت أيـمانكم أن يقاسموكم أموالكم، كما تقاسم بعضكم بعضاً. ذكر من قال ذلك:

حدثنا ابن عبد الأعلـى، قال: ثنا الـمعتـمر، قال: سمعت عمران قال: قال أبو مـجلز: إن مـملوكك لا تـخاف أن يقاسمك مالك، ولـيس له ذلك، كذلك الله لا شريك له.

وأولـى القولـين بـالصواب فـي تأويـل ذلك القول الثانـي، لأنه أشبههما بـما دلّ علـيه ظاهرالكلام، وذلك أن الله جلّ ثناؤه وبخ هؤلاء الـمشركين الذين يجعلون له من خـلقه آلهة يعبدونها، وأشركوهم فـي عبـادتهم إياه، وهم مع ذلك يقرّون بأنها خـلقه وهم عبـيده، وعيرهم بفعلهم ذلك، فقال لهم: هل لكم من عبـيدكم شركاء فـيـما خوّلناكم من نعمنا، فهم سواء، وأنتـم فـي ذلك تـخافون أن يقاسموكم ذلك الـمال الذي هو بـينكم وبـينهم، كخيفة بعضكم بعضاً أن يقاسمه ما بـينه وبـينه من الـمال شركة فـالـخيفة التـي ذكرها تعالـى ذكره بأن تكون خيفة مـما يخاف الشريك من مقاسمة شريكه الـمال الذي بـينهما إياه أشبه من أن تكون خيفة منه بأن يرثه، لأن ذكر الشركة لا يدلّ علـى خيفة الوراثة، وقد يدلّ علـى خيفة الفراق والـمقاسمة.

اسامة محمد خيري
09-03-2017, 05:17
يقول تعالـى ذكره: وما أعطيتـم أيها الناس بعضكم بعضاً من عطية لتزداد فـي أموال الناس برجوع ثوابها إلـيه، مـمن أعطاه ذلك، { فلا يربو عند الله } يقول: فلا يزداد ذلك عند الله، لأن صاحبه لـم يعطه من أعطاه مبتغياً به وجهه. { وَما آتَـيْتُـمْ مِنْ زَكاةٍ } يقول: وما أعطيتـم من صدقة تريدون بها وجه الله، { فأولئك } يعنـي الذين يتصدّقون بأموالهم ملتـمسين بذلك وجه الله { هم الـمضعفون } يقول: هم الذين لهم الضعف من الأجر والثواب، من قول العرب: أصبح القوم مسمِنـين معطِشين، إذا سمنت إبلهم وعطشت. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل....

واختلفت القرّاء فـي قراءة ذلك، فقرأته عامة قرّاء الكوفة والبصرة وبعض أهل مكة: { لِـيَرْبُوَ } بفتـح الـياء من يربو، بـمعنى: وما آتـيتـم من ربـاً لـيربوَ ذلك الربـا فـي أموال الناس. وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الـمدينة: «لِتَرْبُوا» بـالتاء من تُربوا وضمها، بـمعنى: وما آتـيتـم من ربـا لتُربوا أنتـم فـي أموال الناس.

والصواب من القول فـي ذلك عندنا، أنهما قراءتان مشهورتان فـي قرّاء الأمصار مع تقارب معنـيـيهما، لأن أربـاب الـمال إذا أربوا ربـاً الـمال، وإذا ربـا الـمالُ فبإربـاء أياه ربـاً. فإذا كان ذلك كذلك، فبأيّ القراءتـين قرأ القارىء فمصيب...

اسامة محمد خيري
09-03-2017, 05:24
وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب: أن الله تعالـى ذكره، أخبر أن الفساد قد ظهر فـي البرّ والبحر عند العرب فـي الأرض القـفـار، والبحر بحران: بحر ملـح، وبحر عذب، فهما جميعاً عندهم بحر، ولـم يخصص جلّ ثناؤه الـخبر عن ظهور ذلك فـي بحر دون بحر، فذلك علـى ما وقع علـيه اسم بحر، عذبـاً كان أو ملـحاً. وإذا كان ذلك كذلك، دخـل القرى التـي علـى الأنهار والبحار.

فتأويـل الكلام إذن إذ كان الأمر كما وصفت، ظهرت معاصي الله فـي كل مكان، من برّ وبحر { بِـمَا كَسَبَتْ أيْدِي النَّاسِ }: أي بذنوب الناس، وانتشر الظلـم فـيهما

اسامة محمد خيري
10-03-2017, 05:02
سورة لقمان

اختلف أهل التأويـل، فـي تأويـل قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيث } فقال بعضهم: من يشتري الشراء الـمعروف بـالثمن، ورووا بذلك خبراً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ما:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن خلاد الصفَـار، عن عبـيد الله بن زَحْر، عن علـيّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبـي أُمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يَحِلُّ بَـيْعُ الـمُغَنِّـياتِ، وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وَلا التِّـجارَةُ فِـيهِنَّ، وَلا أثمَانُهُنَّ، وفـيهنّ نزلت هذه الآية: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيثِ } » "

حدثنا ابن وكيع، قال: ثنـي أبـي، عن خَلاد الصفَـار، عن عبـيد الله بن زَحْر، عن علـيّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبـي أُمامة، عن النبـيّ صلى الله عليه وسلم بنـحوه، إلاَّ أنه قال: " أكْلُ ثَمَنِهِنَّ حَرَامٌ " وقال أيضاً: " وفِـيهِنَّ أنْزَلَ اللّهُ علـيَّ هَذِهِ الآيَةَ: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيثِ لِـيُضِلَّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ } "

حدثنـي عبـيد بن آدم بن أبـي إياس العسقلانـي، قال: ثنا أبـي، قال: ثنا سلـيـمان بن حيان، عن عمرو بن قـيس الكلابـي، عن أبـي الـمهلَّب، عن عبـيد الله بن زَحْر، عن علـيّ بن يزيد، عن القاسم، عن أبـي أُمامة. قال: وثنا إسماعيـل بن عَياش، عن مُطَرِّح بن يزيد، عن عبـيد الله بن زَحْر، عن علـيّ بن زيد، عن القاسم، عن أبـي أُمامة البـاهلـي، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " لا يحلّ تَعْلِـيـمُ الـمُغَنِّـياتِ، وَلا بَـيْعُهُنَّ وَلا شِرَاؤُهُنَّ، وثَمَنُهُنَّ حَرامٌ، وقَدْ نَزَلَ تَصْدِيقُ ذلكَ فِـي كِتابِ اللّهِ { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيثِ } إلـى آخر الآية "

وقال آخرون: بل معنى ذلك: من يختار لهو الـحديث ويستـحبه. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة، قوله: { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيثِ لِـيُضِلَّ عَنْ سَبِـيـلِ اللّهِ بغَيْرِ عِلْـمٍ } والله لعله أن لا ينفق فـيه مالاً، ولكن اشتراؤه استـحبـابه، بحسب الـمرء من الضلالة أن يختار حديث البـاطل علـى حديث الـحقّ، وما يضرّ علـى ما ينفع.

حدثنـي مـحمد بن خـلف العسقلانـي، قال: ثنا أيوب بن سويد، قال: ثنا ابن شوذب، عن مطر، فـي قول الله { وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الـحَدِيثِ } قال: اشتراؤه: استـحبـابه.

وأولـى التأويـلـين عندي بـالصواب تأويـل من قال: معناه: الشراء، الذي هو بـالثمن، وذلك أن ذلك هو أظهر معنـيـيه....

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: عنى به كلّ ما كان من الـحديث ملهياً عن سبـيـل الله، مـما نهى الله عن استـماعه أو رسولُه، لأن الله تعالـى عَمّ بقوله { لَهْوَ الـحَدِيثِ } ولـم يخصص بعضاً دون بعض، فذلك علـى عمومه، حتـى يأتـي ما يدلّ علـى خصوصه، والغناء والشرك من ذلك...

اسامة محمد خيري
10-03-2017, 05:16
اختلف أهل العربـية فـي معنى الهاء والألف اللتـين فـي قوله { إنَّها } فقال بعض نـحويـي البصرة: ذلك كناية عن الـمعصية والـخطيئة. ومعنى الكلام عنده: يا بنـيّ إن الـمعصية إن تك مثقال حبة من خردل، أو إن الـخطيئة. وقال بعض نـحويـي الكوفة: وهذه الهاء عماد. وقال: أنَّث تك، لأنه يراد بها الـحبة، فذهب بـالتأنـيث إلـيها، كما قال الشاعر:
وَتَشْرَقُ بـالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَهُ كمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّمِ
وقال صاحب هذه الـمقالة: يجوز نصب الـمثقال ورفعه قال: فمن رفع رفعه بتك، واحتـملت الننكرة أن لا يكون لها فعل فـي كان ولـيس وأخواتها، ومن نصب جعل فـي تكن اسماً مضمراً مـجهولاً مثل الهاء التـي فـي قوله { إنَّها إنْ تَكُ } قال: ومثله قوله:
{ فإنَّها لا تَعْمَى الأَبْصَارُ }
قال: ولو كان إن يك مثقال حبة كان صوابـاً، وجاز فـيه الوجهان. وأما صاحب الـمقالة الأولـى، فإن نصب مثقال فـي قوله، علـى أنه خبر، وتـمام كان، وقال: رفع بعضهم فجعلها كان التـي لا تـحتاج إلـى خبر.

وأولـى القولـين بـالصواب عندي، القول الثانـي: لأن الله تعالـى ذكره لـم يعد عبـاده أن يوفـيهم جزاء سيئاتهم دون جزاء حسناتهم، فـيقال: إن الـمعصية إن تك مثقال حبة من خردل يأت الله بها، بل وعد كلا العاملـين أن يوفـيه جزاء أعمالهما. فإذا كان ذلك كذلك، كانت الهاء فـي قوله { إنَّها } بأن تكون عماداً أشبه منها بأن تكون كناية عن الـخطيئة والـمعصية. وأما النصب فـي الـمثقال، فعلـى أن فـي «تك» مـجهولاً، والرفع فـيه علـى أن الـخبر مضمر، كأنه قـيـل: إن تك فـي موضع مثقال حبة، لأن النكرات تضمر أخبـارها، ثم يترجم عن الـمكان الذي فـيه مثقال الـحبة....

اسامة محمد خيري
10-03-2017, 05:22
حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { إنَّ أنْكَرَ الأصْوَاتِ لَصَوْتُ الـحَمِيرِ } قال: لو كان رفع الصوت هو خيراً ما جعله للـحمير.

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: معناه: إن أقبح أو أشرّ الأصوات، وذلك نظير قولهم، إذا رأوا وجهاً قبـيحاً، أو منظراً شنـيعاً: ما أنكر وجه فلان، وما أنكر منظره.

اسامة محمد خيري
11-03-2017, 04:57
سورة السجدة

وقال آخرون: بل معنى ذلك: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض، ثم يعرج إلـى الله فـي يوم كان مقداره ألف سنة، مقدار العروج ألف سنة مـما تعدّون. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال: قال ابن زيد، فـي قوله: { ثُمَّ يَعْرُجُ إلَـيْهِ فِـي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ ألْفَ سَنَةِ مِـمَّا تَعُدُّونَ } قال بعض أهل العلـم: مقدار ما بـين الأرض حين يعرج إلـيه إلـى أن يبلغ عروجه ألف سنة، هذا مقدار ذلك الـمعراج فـي ذلك الـيوم حين يعرج فـيه.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب قول من قال: معناه: يدبر الأمر من السماء إلـى الأرض، ثم يعرج إلـيه فـي يوم، كام مقدار ذلك الـيوم فـي عروج ذلك الأمر إلـيه، ونزوله إلـى الأرض ألف سنة مـما تعدون من أيامكم خمس مئة فـي النزول، وخمس مئة فـي الصعود، لأن ذلك أظهر معانـيه، وأشبهها بظاهر التنزيـل.

اسامة محمد خيري
11-03-2017, 05:02
وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب علـى قراءة من قرأه { الَّذِي أحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَـلَقَهُ } بفتـح اللام قول من قال: معناه أحكم وأتقن، لأنه لا معنى لذلك إذ قرىء كذلك إلاَّ أحد وجهين: إما هذا الذي قلنا من معنى الإحكام والإتقان أو معنى التـحسين الذي هو فـي معنى الـجمال والـحُسن فلـما كان فـي خـلقه ما لا يشكّ فـي قُبحه وسماجته، علـم أنه لـم يُعن به أنه أحسن كلّ ما خـلق، ولكن معناه أنه أحكمه وأتقن صنعته. وأما علـى القراءة الأخرى التـي هي بتسكين اللام، فإن أولـى تأويلاته به قول من قال: معنى ذلك أعلـم وألهم كلّ شيء خـلقه، هو أحسنهم، كما قال
{ الَّذِي أعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَـلْقَهُ ثُمَّ هَدَى }
لأن ذلك أظهر معانـيه. وأما الذي وجه تأويـل ذلك إلـى أنه بـمعنى: الذي أحسن خـلق كلّ شيء، فإنه جعل الـخـلق نصبـاً بـمعنى التفسير، كأنه قال: الذي أحسن كلّ شيء خـلقاً منه. وقد كان بعضهم يقول: هو من الـمقدّم الذي معناه التأخير، ويوجهه إلـى أنه نظير قول الشاعر:
وَظَعْنِـي إلَـيْك اللَّـيْـل حِضْنَـيْهِ أنَّنِـي لِتِلْكَ إذَا هابَ الهِدَانُ فَعُولُ
يعنـي: وظعنـي حضنـي اللـيـل إلـيك ونظير قول الآخر:
كأنَّ هِنْداً ثَناياها وبَهْجَتَها يَوْمَ الْتَقَـيْنا عَلـى أدْحالِ دَبَّـاب
أي كأن ثنايا هند وبهجتها.

اسامة محمد خيري
11-03-2017, 05:14
حدثنـي مـحمد بن سعد، قال: ثنـي أبـي، قال: ثنـي عمي، قال: ثنـي أبـي، عن أبـيه، عن ابن عبـاس، قوله { تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ... } إلـى آخر الآية، يقول: تتـجافـى لذكر الله، كلـما استـيقظوا ذكروا الله، إما فـي الصلاة، وإما فـي قـيام، أو فـي قعود، أو علـى جنوبهم فهم لا يزالون يذكرون الله.

والصواب من القول فـي ذلك أن يقال: إن الله وصف هؤلاء القوم بأن جنوبهم تنبو عن مضاجعهم، شغلاً منهم بدعاء ربهم وعبـادته خوفـاً وطمعاً، وذلك نبوّ جنوبهم عن الـمضاجع لـيلاً، لأن الـمعروف من وصف الواصف رجلاً بأن جنبه نبـا عن مضجعه، إنـما هو وصف منه له بأنه جفـا عن النوم فـي وقت منام الناس الـمعروف، وذلك اللـيـل دون النهار، وكذلك تصف العرب الرجل إذا وصفته بذلك، يدلّ علـى ذلك قول عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه فـي صفة نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم:
يَبِـيتُ يُجافِـي جَنْبَهُ عَنْ فِراشِهِ إذا اسْتَثْقَلَت بـالـمُشْرِكِينَ الـمَضَاجِعُ
فإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالـى ذكره لـم يخصص فـي وصفه هؤلاء القوم بـالذي وصفهم به من جفـاء جنوبهم عن مضاجعهم من أحوال اللـيـل وأوقاته حالاً ووقتاً دون حال ووقت، كان واجبـاً أن يكون ذلك علـى كلّ آناء اللـيـل وأوقاته. وإذا كان كذلك كان من صلـى ما بـين الـمغرب والعشاء، أو انتظر العشاء الآخرة، أو قام اللـيـل أو بعضه، أو ذكر الله فـي ساعات اللـيـل، أو صلـى العتـمة مـمن دخـل فـي ظاهر قوله: { تَتَـجافَـى جُنُوبُهُمْ عَنِ الـمَضَاجِعِ } لأن جنبه قد جفـا عن مضجعه فـي الـحال التـي قام فـيها للصلاة قائماً صلـى أو ذكر الله، أو قاعداً بعد أن لا يكون مضطجعاً، وهو علـى القـيام أو القعود قادر.

غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن توجيه الكلام إلـى أنه معنـيّ به قـيام اللـيـل أعجب إلـيّ، لأن ذلك أظهر معانـيه، والأغلب علـى ظاهر الكلام، وبه جاء الـخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك ما:

حدثنا به ابن الـمثنى، قال: ثنا مـحمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن الـحكم، قال: سمعت عروة بن الزبـير يحدّث عن معاذ بن جبل، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: " ألا أدلُّكَ عَلـى أبْوَاب الـخَيْرِ: الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّدَقَةُ تُكَفِّرُ الـخَطِيئَةَ، وَقِـيامُ العَبْدِ فِـي جَوْفِ اللَّـيْـلِ. وتلا هذه الآية: { تَتَـجافَـى جُنُوبُهُم عَنِ الـمَضَاجِع، يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفـاً وَطَمَعاً، ومِـمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ } « "

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 04:33
وقال آخرون: ذلك عذاب الدنـيا. ذكر من قال ذلك:

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ العَذاب الأدْنَى } قال: العذاب الأدنى: عذاب الدنـيا.

وأولـى الأقوال فـي ذلك أن يقال: إن الله وعد هؤلاء الفسقة الـمكذّبـين بوعيده فـي الدنـيا العذاب الأدنى، أن يذيقهموه دون العذاب الأكبر، والعذاب: هو ما كان فـي الدنـيا من بلاء أصابهم، إما شدّة من مـجاعة، أو قتل، أو مصائب يصابون بها، فكل ذلك من العذاب الأدنى، ولـم يخصص الله تعالـى ذكره، إذ وعدهم ذلك أن يعذّبهم بنوع من ذلك دون نوع، وقد عذّبهم بكل ذلك فـي الدنـيا بـالقتل والـجوع والشدائد والـمصائب فـي الأموال، فأوفـى لهم بـما وعدهم.

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 04:39
حدثنـي علـيّ، قال: ثنا أبو صالـح، قال: ثنـي معاوية، عن علـيّ، عن ابن عبـاس { أوَ لَـمْ يَهْدِ لَهُمْ } يقول: أو لـم يبـين لهم.

وعلـى القراءة بـالـياء فـي ذلك قرّاء الأمصار، وكذلك القراءة عندنا لإجماع الـحجة من القرّاء، بـمعنى: أو لـم يبـين لهم إهلاكنا القرون الـخالـية من قبلهم، سنتنا فـيـمن سلك سبـيـلهم من الكفر بآياتنا، فـيتعظوا وينزجروا. وقوله { كَمْ } إذا قُرىء { يهْدِ } بـالـياء، فـي موضع رفع بـيهد. وأما إذا قرىء ذلك بـالنون «أوَ لَـمْ نَهْدِ» فإن موضع «كم» وما بعدها نصب. وقوله: { يَـمْشونَ فِـي مَساكِنهمْ } يقول تعالـى ذكره: أو لـم يبـين لهن كثرة إهلاكنا القرون الـماضية من قبلهم يـمشون فـي بلادهم وأرضهم، كعاد وثمود.

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 04:45
يقول تعالـى ذكره: { وَيَقُولُونَ } هؤلاء الـمشركون بـالله يا مـحمد لك { مَتـى هَذَا الْفَتْـحُ }. واختلف فـي معنى ذلك، فقال بعضهم: معناه: متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم، ومتـى يكون هذا الثواب والعقاب. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، فـي قوله { وَيَقُولُونَ مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ } قال: قال أصحاب نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم: إن لنا يوماً أوشك أن نستريح فـيه وننعم فـيه، فقال الـمشركون { مَتـى هَذَا الفَتْـحُ إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ }.

وقال آخرون: بل عنى بذلك: فتـح مكة.

والصواب من القول فـي ذلك قول من قال: معناه: ويقولون متـى يجيء هذا الـحكم بـيننا وبـينكم، يعنون العذاب، يدلّ علـى أن ذلك معناه قوله: { قُلْ يَوْمَ الفَتْـحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إيـمَانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ } ولا شكَّ أن الكفـار قد كان جعل الله لهم التوبة قبل فتـح مكة وبعده، ولو كان معنى قوله { مَتـى هَذَا الفَتْـحُ } علـى ما قاله من قال: يعنـي به: فتـح مكة، لكان لا توبة لـمن أسلـم من الـمشركين بعد فتـح مكة، ولا شكّ أن الله قد تاب علـى بشر كثـير من الـمشركين بعد فتـح مكة، ونفعهم بـالإيـمان به وبرسوله فمعلوم بذلك صحة ما قلنا من التأويـل، وفساد ما خالفه. وقوله: { إنْ كُنْتُـمْ صَادِقِـينَ } يعنـي: إن كنتـم صادقـين فـي الذي تقولون من أنا معاقبون علـى تكذيبنا مـحمداً صلى الله عليه وسلم، وعبـادتنا الآلهة والأوثان

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 04:50
سورة الاحزاب

{ مَّا جَعَلَ ظ±للَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ظ±للاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَظ°لِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَظ±للَّهُ يَقُولُ ظ±لْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ظ±لسَّبِيلَ }

وأولـى الأقوال فـي ذلك بـالصواب قول من قال: ذلك تكذيب من الله تعالـى قول من قال لرجل فـي جوفه قلبـان يعقل بهما، علـى النـحو الذي رُوي عن ابن عبـاس وجائز أن يكون ذلك تكذيبـاً من الله لـمن وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وأن يكون تكذيبـاً لـمن سمى القرشيّ الذي ذُكر أنه سمي ذا القلبـين من دهيه، وأيّ الأمرين كان فهو نفـي من الله عن خـلقه من الرجال أن يكونوا بتلك الصفة

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 05:00
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَـى ببَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مِنَ الـمُؤْمِنِـينَ والـمُهاجرِينَ } لبث الـمسلـمون زماناً يتوارثون بـالهجرة، والأعرابـيّ الـمسلـم لا يرث من الـمهاجرين شيئاً، فأنزل الله هذه الآية، فخـلط الـمؤمنـين بعضهم ببعض، فصارت الـمواريث بـالـملل.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد فـي قوله { وأُولُوا الأرْحامِ بَعْضُهُمْ أوْلَـى بِبَعْضٍ فِـي كِتابِ اللّهِ مِنَ الـمُؤْمِنـينَ والـمُهاجِرِينَ إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـاً } قال: كان النبـيّ صلى الله عليه وسلم قد آخَى بـين الـمهاجرين والأنصار أوّل ما كانت الهجرة، وكانوا يتوارثون علـى ذلك، وقال الله
{ وَلِكُلّ جَعَلْنا مَوَالِـيَ مـمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأقْربُونَ والَّذِينَ عَقَدَتْ أيـمَانُكُمْ، فآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ }
قال: إذا لـم يأت رحم لهذا يحول دونهم، قال: فكان هذا أوّلاً، فقال الله: { إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائكُمْ مَعْرُوفـاً } يقول: إلاَّ أن تُوصُوا لهم { كانَ ذلكَ فِـي الكِتابِ مَسْطُوراً } أنّ أولـي الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله، قال: وكان الـمؤمنون والـمهاجرون لا يتوارثون إن كانوا أولـي رحم، حتـى يهاجروا إلـى الـمدينة، وقرأ قال الله:
{ وَالَّذِينَ آمَنُوا ولَـمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهمْ مِنْ شَيْءٍ حتـى يُهاجِرُوا... }
إلـى قوله
{ وَفَسادٌ كَبِـيرٌ }
، فكانوا لا يتوارثون، حتـى إذا كان عام الفتـح، انقطعت الهجرة، وكثر الإسلام، وكان لا يُقْبل من أحد أن يكون علـى الذي كان علـيه النبـيّ ومن معه إلاَّ أن يهاجر قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن بَعَث: " اغْدُوا عَلـى اسْمِ اللّهِ لا تَغُلُّوا وَلا تُوَلُّوا، ادْعُوهُمْ إلـى الإسْلامِ، فإنْ أجابُوكُمْ فـاقْبَلُوا وَادْعُوهُمْ إلـى الهِجْرَةِ، فإنْ هاجَرُوا مَعَكُمْ، فَلَهُمْ ما لَكُمْ، وَعَلَـيْهِمْ ما عَلَـيْكُمْ، فإنْ أبَوْا ولَـمْ يُهاجِرُوا وَاخْتارُوا دَارَهُمْ فَأقِرُّوهُمْ فِـيها، فَهُمْ كالأعْرابِ تَـجْرِي عَلَـيْهمْ أحْكامُ الإسْلامِ، ولَـيْسَ لَهُمْ فِـي هَذَا الفَـيْءِ نَصِيبٌ« " قال: فلـما جاء الفتـح، وانقطعت الهجرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْـحِ " وكثر الإسلام، وتوارث الناس علـى الأرحام حيث كانوا، ونسخ ذلك الذي كان بـين الـمؤمنـين والـمهاجرين، وكان لهم فـي الفـيء نصيب، وإن أقاموا وأبَوا، وكان حقهم فـي الإسلام واحد، الـمهاجر وغير الـمهاجر والبدوي وكلّ أحد، حين جاء الفتـح.

فمعنى الكلام علـى هذا التأويـل: وأولوا الأرحام بعضهم أولـى ببعض من الـمؤمنـين والـمهاجرين ببعضهم أن يرثوهم بـالهِجرة، وقد يحتـمل ظاهر هذا الكلام أن يكون من صلة الأرحام من الـمؤمنـين والـمهاجرين، أوْلـى بـالـميراث، مـمن لـم يؤمن، ولـم يهاجر.
..

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد { إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا إلـى أوْلِـيائِكُمْ مَعْرُوفـاً } يقول: إلاَّ أن توصوا لهم.

وأولـى الأقوال فـي ذلك عندي بـالصواب أن يقال: معنى ذلك إلاَّ أن تفعلوا إلـى أولـيائكم الذين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم آخَى بـينهم وبـينكم من الـمهاجرين والأنصار، معروفـاً من الوصية لهم، والنصرة والعقل عنهم، وما أشبه ذلك، لأن كلّ ذلك من الـمعروف الذي قد حثّ الله علـيه عبـاده.

وإنـما اخترت هذا القول، وقلت: هو أولـى بـالصواب من قـيـل من قال: عنى بذلك الوصية للقرابة من أهل الشرك، لأن القريب من الـمشرك، وإن كان ذا نسب فلـيس بـالـمولـى، وذلك أن الشرك يقطع ولاية ما بـين الـمؤمن والـمشرك، وقد نهى الله الـمؤمنـين أن يتـخذوا منهم ولـياً بقوله:
{ لا تَتَّـخِذُوا عَدُوّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِـياءَ }
وغير جائز أن ينهاهم عن اتـخاذهم أولـياء، ثم يصفهم جلّ ثناؤه بأنهم لهم أولـياء. وموضع «أن» من قوله { إلاَّ أنْ تَفْعَلُوا } نصب علـى الاستثناء. ومعنى الكلام: وأولوا الأرحام بعضهم أولـى ببعض فـي كتاب الله من الـمؤمنـين والـمهاجرين، إلاَّ أن تفعلوا إلـى أولـيائكم الذين لـيسوا بأولِـي أرحام منكم معروفـاً.

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 05:10
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: { وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِـيِّـينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } قال: وذُكر لنا أن نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " كُنْتُ أوَّلَ الأَنْبِـياءِ فِـي الـخَـلْقِ، وآخِرَهُمْ فِـي البَعْثِ " ، { وَإبْرَاهِيـمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَـمَ، وأخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِـيظاً } ميثاق أخذه الله علـى النبـيـين، خصوصاً أن يصدّق بعضهم بعضاً، وأن يتبع بعضهم بعضا.

حدثنا مـحمد بن بشار، قال: ثنا سلـيـمان، قال: ثنا أبو هلال، قال: كان قتادة إذا تلا هذه الآية { وَإذْ أخَذْنا مِنَ النَّبِـيِّـينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ } قال: كان نبـيّ الله صلى الله عليه وسلم فـي أوّل النبـيـين فـي الـخـلق.

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 05:21
وقوله: { وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارِها } يقول: ولو دخـلت الـمدينة علـى هؤلاء القائلـين { إنَّ بُـيُوتَنا عَوْرَةٌ } من أقطارها، يعنـي: من جوانبها ونواحيها، واحدها: قطر، وفـيها لغة أخرى: قُتر، وأقتار ومنه قول الراجز:
إنْ شِئْتَ أنْ تدهن أو تـمرا فَوَلِّهِنَّ قُتْرَكَ الأشَرَّا
وقوله: { ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ } يقول: ثم سئلوا الرجوع من الإيـمان إلـى الشرك { لآتَوْها } يقول: لفعلوا ورجعوا عن الإسلام وأشركوا. وقوله: { وَما تَلَبَّثُوا بها إلاَّ يَسِيراً } يقول: وما احتبسوا عن إجابتهم إلـى الشرك إلاَّ يسيراً قلـيلاً، ولأسرعوا إلـى ذلك. وبنـحو الذي قلنا فـي ذلك قال أهل التأويـل. ذكر من قال ذلك:

حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة { وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارها } أي لو دخـل علـيهم من نواحي الـمدينة { ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ }: أي الشرك { لآتَوْها } يقول: لأعطوها، { وَما تَلَبَّثُوا بِها إلاَّ يَسِيراً } يقول: إلاَّ أعطوه طيبة به أنفسهم ما يحتبسونه.

حدثنـي يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، فـي قوله { وَلَوْ دُخِـلَتْ عَلَـيْهِمْ مِنْ أقْطارِها } يقول: لو دخـلت الـمدينة علـيهم من نواحيها { ثُمَّ سُئِلُوا الفِتْنَةَ لآتَوْها } سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: وهؤلاء الـمنافقون لو دخـلت علـيهم الـجيوش، والذين يريدون قتالهم ثم سئلوا أن يكفروا لكفروا قال: والفتنة: الكفر، وهي التـي يقول الله { الفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ } أي الكفر يقول: يحملهم الـخوف منهم، وخبث الفتنة التـي هم علـيها من النفـاق علـى أن يكفروا به.

واختلفت القرّاء فـي قراءة قوله: { لآتَوْها } فقرأ ذلك عامة قرّاء الـمدينة وبعض قرّاء مكة: «لاَءَتَوْها» بقصر الألف، بـمعنى جاءوها. وقرأه بعض الـمكيـين وعامة قرّاء الكوفة والبصرة: { لآتَوْها } بـمدّ الألف، بـمعنى: لأعطوها، لقوله: ثم سئلوا الفتنة وقالوا: إذا كان سؤال كان إعطاء، والـمدّ أعجب القراءتـين إلـيّ لـما ذكرت، وإن كانت الأخرى جائزة.

اسامة محمد خيري
12-03-2017, 05:38
والصواب من القول فـي ذلك عندي أن يقال: إن الله وصف هؤلاء الـمنافقـين بـالـجبن والشُّحّ، ولـم يخصُص وصفهم من معانـي الشحّ، بـمعنى دون معنى، فهم كما وصفهم الله به أشحة علـى الـمؤمنـين بـالغنـيـمة والـخير والنفقة فـي سبـيـل الله، علـى أهل مسكنة الـمسلـمين. ونصب قوله { أشِحَّةً عَلَـيْكُمْ } علـى الـحال من ذكر الاسم الذي فـي قوله { وَلا يأْتُونَ البأْسَ } ، كأنه قـيـل: هم جبناء عند البأس، أشحاء عند قَسْم الغنـيـمة، بـالغنـيـمة. وقد يحتـمل أن يكون قَطْعاً من قوله: { قَدْ يَعْلَـمُ اللّهُ الـمُعَوّقِـينَ مِنْكُمْ } فـيكون تأويـله: قد يعلـم الله الذين يعوّقون الناس علـى القتال، ويَشِحُّون عند الفتـح بـالغنـيـمة. ويجوز أن يكون أيضاً قَطْعاً من قوله: { هلـم إلـينا } أشحة، وهم هكذا أشحة. ووصفهم جلّ ثناؤه بـما وصفهم من الشحّ علـى الـمؤمنـين، لِـما فـي أنفسهم لهم من العداوة والضِّغْن. كما:

حدثنا ابن حميد، قال: ثنا سلـمة، عن ابن إسحاق، قال: ثنـي يزيد بن رُومان { أشِحَّةً عَلَـيْكُمْ } أي للضِّغْن الذي فـي أنفسهم....

وأشبه هذه الأقوال بـما دلّ علـيه ظاهر التنزيـل قول من قال { سَلَقُوكُمْ بألْسِنَةٍ حِدَادٍ أشِحَّةً عَلـى الـخَيْرِ } فأخبر أن سَلْقَهُمْ الـمسلـمين شُحَاً منهم علـى الغنـيـمة والـخير، فمعلوم إذ كان ذلك كذلك، أن ذلك لطلب الغنـيـمة. وإذا كان ذلك منهم لطلب الغنـيـمة، دخـل فـي ذلك قول من قال: معنى ذلك: سَلَقوكم بـالأذى، لأن فعلهم ذلك كذلك، لا شكّ أنه للـمؤمنـين أذى.

اسامة محمد خيري
13-03-2017, 04:31
حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قَتادة { وَيُعَذّبَ الـمُنافِقِـينَ إنْ شاءَ، أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ } يقول: إن شاء أخرجهم من النفـاق إلـى الإيـمان.

إن قال قائل: ما وجه الشرط فـي قوله { وَيُعَذّبَ الـمُنافِقِـينَ } بقوله: { إنْ شاءَ } والـمنافق كافر وهل يجوز أن لا يشاء تعذيب الـمنافق، فـيقال ويعذّبه إن شاء؟ قـيـل: إن معنى ذلك علـى غير الوجه الذي توهمته. وإنـما معنى ذلك: ويعذّب الـمنافقـين بأن لا يوفقهم للتوبة من نفـاقهم حتـى يـموتوا علـى كفرهم إن شاء، فـيستوجبوا بذلك العذاب، فـالاستثناء إنـما هو من التوفـيق لا من العذاب إن ماتوا علـى نفـاقهم.

وقد بـين ما قلنا فـي ذلك قوله: { أوْ يَتُوبَ عَلَـيْهِمْ } فمعنى الكلام إذن: ويعذّب الـمنافقـين إذ لـم يهدهم للتوبة، فـيوفقهم لها، أو يتوب علـيهم فلا يعذّبهم.